الدكتور يوسف القرضاوي
الدكتور يوسف القرضاوي
د/ يوسف القرضاوي |
بقلم : محمد المجذوب |
إنه يوسف عبد الله القرضاوي ، ويعرف في الأوساط الإسلامية والعلمية باسمه المختصر (يوسف القرضاوي) ويكنى أبا محمد بأكبر أبنائه متعه الله بصلاحهم ومتعهم بفضله .
ويحدد السجل الرسمي مولده بالتاسع من الشهر التاسع من عام ستة وعشرين وتسعمائة وألف للميلاد ، أي قبل خمسين سنة من كتابة هذه الأسطر، وكانت ولادته في قرية (صفط تراب) من توابع المحلة الكبرى من أعمال المحافظة الغربية من القطر المصري ، ويصف الشيخ قريته هذه بأنها عريقة في القدم وقد شرفت بقبر آخر صحابي توفي في مصر، وهو عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي رضي الله عنه ، ويؤكد ذلك بما نص عليه ثقات المؤرخين كابن حجر في أخبار ذلك الصحابي الجليل .
ويصف أسرته كذلك بأنها متدينة رقيقة الحال ، يشتغل أفرادها من جهة أبيه بالزراعة إلى جانب بعض الحرف ، ومن جهة أمه يعملون بالتجارة ، وقد شاء الله أن يستأثر بوالده الذي لم ينجب سواه ، وهو في الثانية من سنيه ، ولكنه عوضه عن والده بعم كريم تولى كفالته ، وأحاطه من الرعاية بما يفتقد لدى الكثير من الآباء ، ووجد في أبناء هذا العم الفاضل خير ما يلقاه أخ من أخوته البررة ، فنشأ في هذا الجو الصالح يعتبر العم أباً وأبناء العم أخوة ، وقد اتسعت دائرة هذا العطف حوله حتى كان موضع الرعاية من سائر أقاربه ، وفي ذلك يقول الشيخ :
" كأن هذا كان تعويضاً من القدر عن يتمي المبكر".
وفي الخامسة من عمره ألحق بأحد كتاتيب القرية الأربعة ليحفظ القرآن العظيم كما حفظه عمه من قبل ، حتى إذا وافته السابعة أدخل المدرسة الإلزامية التابعة لوزارة المعارف ليتلقى فيها المعارف العصرية : كالحساب ، والتقويم ، والتاريخ ، والصحة ، والأشياء ، فكان يجمع بين الكتّاب والمدرسة ، هذا في نوبة الصباح وتلك في نوبة المساء .
يقول الدكتور : " وقبل أن أبلغ العاشرة أكرمني الله فأتممت حفظ القرآن الكريم حفظاً لا أكاد أضيع منه حرفاً مع الإلمام بأحكام التجويد ، وإن أنس لا أنس ذلك الحفل المتواضع الذي أقيم لي كالعادة في الكتاب ، حيث وزعت الحلوى والشربات وأطلقت الزغاريد ، وقرأت فيه آخر لوح من الصحف كتبته بيدي من سورة " الضحى " إلى سورة " الناس " كنت اتلو كل سورة ثم أهلل بعدها وأكبر : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، ولله الحمد . والتلاميذ يكبرون معي ، فكان حفلاً بهيجاً يتطلع إليه كل تلميذ في الكتاب .
ويتابع الشيخ قائلاً : " ومن يومها أصبحت في نظر أهل قريتي (الشيخ يوسف) وبسبب ما من الله به علي من حسن التلاوة كثيراً ما كانوا يقدمونني لأؤمهم في الصلاة وبخاصة الصلاة الجهرية . وهذا التشييخ المبكر حرمني فرص اللعب (الشقاوة) التي يستمتع بها أقراني من الصبية . وقبل المضي في تتبع الإجابات أجدني مشدوداً إلى النظر من هذه المنافذ التي تفتحها لي ذكريات الصديق .
إننا ههنا تلقاء صورة حية من بقايا الحياة الإسلامية في هذه البقعة من الريف المصري . ففي قريته (صفط تراب) قبر صحابي ، ولا بد أن يكون لهذا الصحابي موحياته العميقة في نفوس سكانها ، ولعل من ذلك إقبالهم على حفظ القرآن وتلاوته ، إذ كانت كتاتيبهم الأربعة كما يقول الشيخ تتنافس في تحفيظ القرآن ، الذي اشتهرت به القرية ، كما اشتهرت بعدد من علماء الأزهر من أبنائها الذين هم موضع التجلة والاحترام من المجتمع كله .
ومجرد التنافس على تحفيظ القرآن دليل على أن الطابع الذي يسود القرية مستمد من هذه الروح ، وأن التنافس على حفظه والتحقق بمعانيه هو الغالب على ذلك الجو ، وأنا لا أستطيع الفصل بين ذلك الجو وما يذكر الشيخ لبيت عمه من الخصائص الخلقية العالية ، فالوسط إذن إسلامي يحمل في ثناياه عبير الحب والتعاون والصفاء ، وليست حفلة ختم القرآن وما اشتملت عليه من ألوان البهجة الروحية، والفيض الشعوري ، إلا توكيداً لهذه المعاني التي كاد العالم الإسلامي ينقطع عنها نهائياً .
إنها لصور حبيبة من ذلك الماضي ، الذي كان العلم فيه مطلباً مقدساً لكل بيت مسلم .. يبدأ بحفظ كتاب الله وإتقان قراءته ، ثم ينطلق في طريق الوحي ليشيع النور والخير والود الخالص في كل جانب من حياة الناس . فلا عجب إن استقبل ذلك الحفظ بمثل تلك الأحفال ، التي ترفع القلوب إلى هذه الآفاق ، وتثير التنافس الكريم على الفوز بأكبر حظ من روائها .
وأي نعمة أسعد من رؤية طفل في العاشرة من عمره ، قد طوى جوانحه على الكتاب الذي غير معالم التاريخ البشري ، وقدم إلى الإنسانية الضائعة الحضارة التي أضاعت ظلمات الأرض ، فأبصرت في نورها ما لم تحلم قط من بواعث الأمن والطمأنينة والحرية والتقدم العلمي .
أجل .. لقد كان احتفال المجتمعات الإسلامية بمثل هذه المناسبات حتى الأمس القريب تعبيراً عفوياً عن إيمانهم بهذه الحقيقة ، حتى تسللت إلى هذه المجتمعات مفهومات الحضارات الوثنية ، فإذا هم يتجردون اليوم من هذه المشاعر شيئاً بعد شيء ، إذ أصبح العلم عندهم مجرد شهادات تؤهل أبناءهم للحصول على مغانم الدنيا ، ولو على أشلاء القيم التي ميز الله بها الجنس الآدمي .
والتفت معي إلى منظر ذلك الشيخ الصغير يقوم بإمامة المصلين ، وقد آثروه بذلك تقديراً للكتاب الذي أؤتمن عليه ، وتأثراً بما يتقن من تلاوته ، وما يزين هذه التلاوة من نغمة توجه المشاعر الخاشعة إلى مضامين الآيات الإلهية . ومن هنا من هذه الإيحاءات البالغة جاءت الحصانة التي أحاطت هذا الصغير بجلال الشيوخ ، فحالت بينه وبين (الشقاوة) التي تستهوي أقرانه ممن لم يتح لهم مثل جوه الوقور .
ولقد حدثنا أكثر من واحد من معارف الشيخ عن متعتهم بصلاة التراويح وراءه في قطر، فإذا هو في الخمسين امتداد طبيعي لذلك الشيخ الأثير وهو في العاشرة من عمره الميمون ، ويشاء الله أن يحفظ على الشيخ خصائص هذه النشأة ، فتستمر خطاه في الاتجاه نفسه ، لا يفارق سبيل القرآن الذي حمل أمانته منذ طفولته ، على الرغم من كل الأحداث التي واجهته والثقافات المختلفة التي واجهها .
إلى الأزهر :
وفي أعقاب تخرجه في المدرسة الإلزامية ، بعد حفظ القرآن ، كان لا بد له وعلى الأصح لآله من أن يختاروا له الطريق الذي سيسلكه من الحياة .
أما هو فلم يكن أحب إليه من متابعة المسلك العلمي الذي اجتاز مرحلته الأولى ، وراح يتطلع إلى ما وراءها ، وقد شاقه ما تحقق للمشايخ المرموقين أبناء قريته من مستوى أهلهم لاحترام الناس ، فود لو يتاح له مثل سبيلهم إلى الأزهر. إلا أن عمه لم يكن على مثل رأيه ، فهو على الرغم من حبه للعلم ، وحرصه على تشجيع ربيبه الذكي ، لا يرى ذلك من مصلحته لأن طريق العلم طويل طويل ، ومع طوله لا يضمن لصاحبه العيش المنشود ، هذا فضلاً عن انصرافه إلى طلب العلم يتطلب من النفقة ما تضيق عنه قدرتهم ، ولهذا حاول إقناعه بتعلم حرفة توفر له وسائل العيش من أقرب طريق . غير أن رغبة الفتى كانت أقوى من حجة عمه ، فما زال يحاوره في ذلك ، ويسهل له الأمر بما يظهر من استعداده للاكتفاء بأقل القليل من النفقة ، حتى انشرح صدر عمه لتحقيق أمنيته ، وساعده في ذلك أبناء عمه الذين أعلنوا استعدادهم للتضحية بكل شيء في سبيل تعليمه ، وكان لوجود ابن عمة له طالباً في الأزهر أثر مشجع على ذلك لأنه سيرعاه هناك ويسكن معه .
وهكذا يسر الله لهذا اليتيم الاندماج التام في جو العلم ، فالتحق أولاً بمعهد طنطا الديني الابتدائي حيث قضى أربع سنوات ، انتقل بعدها إلى معهدها الثانوي الذي استمر فيه خمس سنوات ، ومن ثم رحل إلى القاهرة للدراسة العالية في الكليات .
وأثناء وجوده في المعهد الابتدائي أصيب بفقد والدته فتمت حلقة يتمه بفقد الأبوين جميعاً .
تفوق مستمر :
كانت دراسته الجامعية في كلية أصول الدين ، وفيها تخرج عام 52 ـ 53 م وكان ترتيبه الأول على مائة وثمانين ، ثم تابع بقسم التخصص في كلية اللغة العربية على نظام السنتين ، فحصل على العالمية مع إجازة التدريس حائزاً المرتبة الأولى على خمس مائة طالب من كليات الأزهر الثلاث ، ثم في العام 1957 م التحق بمعهد البحوث والدراسات العربية العالمية التابع لجامعة الدول العربية ، فحصل منه على دبلوم عال في شعبة اللغة والآداب .
في هذه الفترة نفسها كان التحاقه بقسم الدراسات العليا في شعبة التفسير والحديث من كلية أصول الدين ، فأتم سنواتها الثلاث بنجاح 1960 م على الرغم من صعوبة الامتحانات ـ أيامئذ ـ التي لم يثبت لها أحد سواه بعد السنة الأولى . ومن ثم شرع في إعداد أطروحته للدكتوراه عن " الزكاة في الإسلام " التي كان مقرراً أن ينتهي منها خلال سنتين ، إلا أن أقداراً غالبة حالت دون رغبته ، وجاءت عهود الأحداث الرهيبة في مصر فأخرت موعد حصوله على الدكتوراه إلى ما بعد ثلاثة عشر عاماً حتى صيف 1973 م.
شخصيات لا ينساها :
يقول الشيخ : " إن أعظم الشخصيات أثراً في حياتي الفكرية والروحية هي شخصية الشهيد العظيم حسن البنا ، مؤسس كبرى الحركات الإسلامية الحديثة .. هذا مع أنني لم أعايشه كما عايشه غيري ، فقد كان رضي الله عنه في القاهرة وكنت في طنطا طالباً ، ولكني استمعت إليه في طنطا عدة مرات ، ورحلت وراءه إلى بعض البلاد لأراه وأستمع إليه ، كما قرأت تقريباً كل ما كتبه من رسائل ومقالات".
ويصف الشيخ انطباعاته عن الإمام البنا فيقول : " كان رحمه الله في حديثه إذا تحدث ، وفي كتاباته إذا كتب ، يمثل السهل الممتنع ، ويؤثر في العقل والقلب معاً ، فهو معلم وواعظ بالفطرة الموهوبة والدربة المكتسبة جميعاً . أذكر أني استمعت إليه وأنا طالب في السنة الأولى من معهد طنطا الابتدائي يتحدث بمناسبة الهجرة النبوية ، فوعيت كلامه على صغر سني ، وأكاد أحفظه من ذلك اليوم. كان واسع المعرفة ، غزير المادة ، أخرج مجلة " الشهاب " الشهرية وكان يحرر جل أبوابها بقلمه ، فهو يكتب في "التفسير" و " العقائد " و " مصطلح الحديث " و " التاريخ الإسلامي " وفي أصول الإسلام كنظام اجتماعي .. كل ذلك بإجادة وأصالة رغم أنه لم يكن متفرغاً للعلم والبحث ، فقد كانت الدعوة ومتطلباتها تستغرق معظم وقته ولذلك كان من وصاياه " الواجبات اكثر من الأوقات ، فعاون غيرك على الانتفاع بوقته " .
إن استرسال الشيخ في الحديث عن أستاذه إنما هو صورة حية عن إعجابه البالغ بشخصيته ، وشهادة كبيرة على التأثر بموحياتها ، وهو لا يكتفي بالإشارة إلى هذه الشخصية في عبارة جامعة ، بل يمضي في استقصاء خصائصها القيادية من خلال حضورها في ذهنه ، كما لو لا يزال يشاهدها ويتتبع ملامحها . لقد تأثر به كاتباً ومحدثاً وعالماً وواعظاً وبليغاً . وانتهى من ذلك إلى تحليل بعض توجيهاته الحكيمة فربط بينها وبين تجاربه الذاتية أحكم ربط .
ويتابع الشيخ حديثه عن الرجال الذين أثروا في توجيهه فيذكر منهم الأستاذ البهي الخولي والشيخ محمد الغزالي ، على اعتبار أنهما من الممثلين لمدرسة الإخوان ، ويقرر جازماً أن تأثره بهذه المدرسة كان أقوى من تأثره بالدراسة الرسمية في الأزهر ومشايخه ، على الرغم مما له ولهم من فضل لا ينكر في تكوينه العلمي ، ثم يخص بالذكر من الشخصيات الأزهرية المغفور له الدكتور محمد عبد الله دراز، واصفاً إياه بأنه كان نسيج وحده في غزارة علمه وأصالة تفكيره ، وفصاحة بيانه، وقوة دينه وخلقه . والذين يعرفون المرحوم الشيخ دراز من خلال كتاباته ، وخاصة " فلسفة الأخلاق في الإسلام " يشاركون الدكتور القرضاوي في إثبات هذه الصفات كلها له ، ولا سيما أصالة التفكير التي مكنته من أن يتقصى مواطن الضعف في كل فلسفة أخلاقية دعا إليها البشر ، مبرزاً تفوق الأخلاقية الإسلامية عليها جميعاً ، بالتزامها سبيل الفطرة والسداد الذي لا يعتريه الخطأ . ويعدد من أساتيذه الأزهريين الشيخ الأكبر محمود شلتوت الذي ـ يقول ـ كان له به صلة خاصة قبل أن يتولى مشيخة الأزهر وأثناءها ، وكذلك أستاذه الإمام الأكبر الدكتور عبد الحليم محمود شيخ الأزهر الحالي، فقد درسه الفلسفة الإسلامية في كلية أصول الدين ، واستمرت صلاته به ولقاءاته إياه فيما بعد ".
ويستدرك الشيخ ليصرفنا عن الظن بتقليده من يعجب بهم فيقول :
" من فضل الله عليّ أن إعجابي بشخص ما لم يجعلني أحاول تقليده ، أو تقمص شخصيته فأنا ـ ولله الحمد ـ لست نسخة من أحد سبقني ، بل قد تكون لي مآخذ فكرية أو سلوكية على بعض الشخصيات التي أحببتها أو أعجبت بها ، ولم يحل هذا بيني وبين الانتفاع بها ".
والشواهد التي تؤكد براءة صديقنا الفاضل من تقليد الأفاضل بارزة ملموسة في معظم كتاباته وبخاصة مؤلفاته الأخيرة ، التي يبدو فيها منقباً مجتهداً مبدعاً ولو خالف المشهور من آراء الرجال .
ويعرج في هذه الإجابة على بعض الشخصيات التي لم يقابلها ، وكان لها عميق الأثر في وجوده ، فمنهم السيد محمد رشيد رضا الذي أعجبه فيه سعة الأفق في فهم الإسلام وفهم العصر الذي نعيش فيه، وتجرده من العصبية والتقليد ، وحرصه على الرجوع إلى الكتاب والسنة والاهتداء بمنهج السلف.
ثم يقول : " كنت مطلع حياتي من المعجبين بالإمام أبي حامد الغزالي ، إذ كان " إحياؤه " من أوائل الكتب التي قرأتها في صغري ، ثم قدر لي فيما بعد أن أطلع على بعض تراث شيخ الإسلام ابن تيمية فتحول إعجابي إليه ، وملك عليّ عقلي ونفسي ، وأصبح هو الشخصية الفكرية الأولى بنظري ، وكلما ازددت قراءة له وتعمقاً في كتاباته ازددت له إعجاباً وحباً ، ويأتي بعده تلميذه المحقق الإمام ابن القيم رحمهما الله ورضي عنهما ، ولكن لا يمنعني إعجابي الشديد بهما أن أخالفهما في بعض المسائل كما خالفا هما من قبلهما " .
وهكذا تتكامل إجابة الشيخ حفظه الله عن الرجال الذين تركوا أثرهم في توجيهه فإذا هم من قمم العلم الإسلامي ، وإن تفاوتت طرائقهم في خدمة الفكر والمجتمع الإسلاميين ، وقد أتاحت له صحبتهم وتتبع آثارهم أن يكون أكثر تحرراً في ما يأخذ ويذر، فيتم بذلك انتفاعه بمختلف المدارس الفكرية التي عرفتها حضارة الإسلام .
وهنا لا يحسن بنا أن نغفل تلك المؤثرات الروحية والتربوية التي أفادها من نشأته الأولى في تلك القرية المتنافسة في تحفيظ القرآن ، ومن ذلك البيت الذي أظله بالرعاية التي لا يعرف الناس لها مثيلاً إلا في ظل الخلق الإسلامي الأصيل .
ولعمر الحق إن توافر هذه العناصر من حقها أن تأخذ بيد الإنسان إلى الجادة الراشدة ، ولا سيما إذا توافرت لهذا الإنسان الفطرة السليمة والموهبة المتأهبة للتفاعل مع عوامل الخير .
العلوم التي يؤثِر :
يقول الدكتور " " الحقيقة إني أحب كل العلوم الإسلامية وما يخدمها من العلوم الأخرى ولهذا أحببت علوم العربية لأن اللغة العربية لسان الإسلام ووعاؤه ، وإجادتها شرط لفهم القرآن والسنة والاجتهاد والاستنباط منهما . ولقد وقفت في حياتي الدراسية مرتين لاختيار ما أتخصص فيه . أولاهما : بعد الشهادة الثانوية لاختيار أي الكليات أدخلها ، وكان الكثيرون ينصحونني بدخول كلية دار العلوم بجامعة فؤاد الأول (القاهرة فيما بعد) أو كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر، بسبب ما عرفت به من قدرة في علوم العربية (نحو وصرف وبلاغة) وما عرف بي من اتجاه للأدب وإنشاء للشعر من عهد مبكر . ولكنني شخصياً آثرت كلية أصول الدين لأن علومها كانت أحب إلى نفسي ، ولأني درست في المرحلتين الابتدائية والثانوية بالأزهر من علوم العربية ما يكفيني لأواصل بعد ذلك وحدي . أما أصول الدين فهي كلية التفسير والحديث والعقائد والفلسفة والأخلاق والتاريخ الإسلامي ، وهذه موارد لا بد منها لتكوين العقلية الإسلامية فدخلتها على بركة الله وتخرجت فيها .
والوقفة الثانية ، بعد فتح قسم الدراسات العليا بكلية أصول الدين 1957 م وقد كان فيه شعبتان : شعبة للتفسير والحديث وعلوم القرآن والسنة ، وشعبة للعقيدة والفلسفة . وكان لكل منهما مزية عندي ، فمزية الأولى ظاهرة ، ومزية الثانية أنها وسيلة لمتابعة الفكر العالمي ، والفلسفات المعاصرة وجذورها في تاريخ الفكر ، والرد على أخطائها من وجهة النظر الإسلامية . وقد كنت حائزاً لشروط كلتا الشعبتين وإن كان مجموعي في علوم العقيدة والفلسفة أكبر نسبياً . وقد وقفت متردداً في الاختيار حتى لقيت أستاذي المرحوم الدكتور محمد يوسف موسى ، الذي شجعني على دخول شعبة التفسير والحديث وقال عن نفسه :
" لقد كنت أستاذاً للفلسفة ثم انتهيت الآن إلى الشريعة ، فالشريعة هي الأساس والغاية ، وعندك من الدراسات الفلسفية ما تستطيع أن تتابع به الاطلاع والقراءة الحرة " .
وأنا الآن أقرأ في كل العلوم الإسلامية تفسيراً وحديثاً وفقهاً وأصولاً ، وتوحيداً وتاريخاً ، وتصوفاً وأخلاقاً ، وقد ظن بعض الناس ـ لاشتغالي بالنواحي الفقهية والأصولية ـ أنني خريج كلية الشريعة ، والواقع أنني ابن أصول الدين ، ولكن نزعة التحرر من التقليد والعصبية جعلتني أهتم بفقه الكتاب والسنة ، وأعني بالمقارنة بين الأقوال والمذاهب ، وأرجح إلى أصول الأدلة ، وبخاصة أني اشتغلت بالفتوى من زمن غير قليل تحريراً ومشافهة (1) .
كما أني لا أقف في اطلاعي عند العلوم الإسلامية الخالصة ، فأنا حريص على أن آخذ بحظ في الاطلاع على الأدب والتاريخ والفلسفة والتربية وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد ، ونحوها من العلوم الإنسانية ، ومكتبتي الخاصة تحتوي مراجع لكل هذه العلوم ، ولكنني اقرأها بحذر ، لأني اعلم أن الغزو الفكري قد أنشب فيها أظافره ، وهي ـ في اتجاهاتها الغالبة ـ غريبة المنزع والوجهة والصبغة ، هذا إلى اهتمامي بالقراءة في كتب الأديان والنحل المخالفة للإسلام ، والمذاهب العقائدية المعاصرة ، أو بما كتب عنها من جهة ناقديها . فهذا كله لازم لتكوين العالم المسلم المعاصر".
علوم وسموم :
لقد وجهنا النظر في مطالع هذه الترجمة إلى البذور الأولى في تربية هذه النفس ، ولاحظنا مراحل تكوينها العلمي الذي يشير بأجلى بيانه إلى الاتجاه الذي انتهت إليه ، ولهذا لا نرى حاجة للتعقيب على ما حدده الشيخ حفظه الله من نوعية العلوم التي آثرها . إلا أن في عباراته الأخيرة مؤشرات ليست خاصة به وحده ، بل هي محرضات لكل طالب علم إسلامي ألا يفصل نفسه عن عصره ، ولا يحرم عقله الاتصال بما وراء معلوماته الإسلامية من منازع واتجاهات ، قد يكون في جهلها خطر كبير على أهل الإسلام وعلى الفكر الإسلامي .
بيد أن الاتصال بهذه المشارب الدخيلة يقتضي من المسلم أول كل شيء أن يكون على حصانة كافية من السموم التي تنطوي عليها . ونظرة عميقة إلى الفرق الإسلامية الزائفة تكشف لصاحبها تلك الحقيقة الكبيرة ، وهي أن اقتحام هذه الميادين دون زاد من الحصانة الإسلامية هو الذي مكن لها من قلوب المخدوعين ، وأن التاريخ ـ ويا للأسف ـ ليعيد نفسه هذه الأيام ، عن طريق الجيل الذي ألقي به في متاهات الغرب والشرق خالي الذهن والقلب من كل أثر لحقائق الإسلام .
أحداث عاصرها :
ويحدثنا الصديق عن أهم الأحداث التي عاصرها قائلاً :
" لقد قدر الله لجيلنا أن يعاصر أحداثاً في غاية من العظم والأهمية . أما على المستوى المحلي والعالمي ، فأولها الحرب العالمية الثانية ، وما تركت من آثار في حياة الناس المادية والفكرية والأخلاقية ، وما صحبها وتبعها في مصر والعالم العربي من يقظة ووثبة لطرد الاستعمار ، وبخاصة الاستعمار الإنجليزي في مصر، وكذلك وضوح الخطر الإسرائيلي على فلسطين والبلاد العربية حتى تجسد في قيام إسرائيل . ودخول الجيوش العربية حرب فلسطين سنة 1948 م ، ووقوع النكبة الأولى، التي كانت نذيراً بسقوط الاتجاه اليميني الليبرالي الرأسمالي الديمقراطي بما وراءه من التراخي والتحلل والموالاة للغرب . ليحل محله الاتجاه الثوري الاشتراكي اليساري ، بلوازمه من الطغيان والإرهاب وكبت الحريات والولاء الدولي للشيوعية .
وقد انتهى هذا الاتجاه بنكبة 1967 م التي احتلت إسرائيل فيها ما بين القنطرة والقنيطرة وسقوط القدس والمسجد الأقصى في يد اليهود ، كما فصلت ذلك في كتابي " الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا " .
وفي الحقيقة لم أكن في عزلة عن هذه الأحداث ، فقد شاركت فيها ـ منذ كنت طالباً في الابتدائي ـ بقلبي وأعصابي وعقلي ولساني ، أنظم القصائد وألقي الخطب وأحرض جماهير الطلاب ، وأشترك في قيادة التظاهرات ، وأتعرض لعصي الشرطة والمبيت في أقسام البوليس .
مع الإخوان :
ولعل الشيء الذي جعلني على صلة عميقة وحية ومباشرة بأحداث بلدي وقضايا وطني العربي والإسلامي هو : الاتصال المبكر بحركة الإخوان المسلمين ، فقد نقلني من جو الشعر والأدب ، الذي كان هوايتي ، إلى جو الدعوة العامة ، ومن طريق الوعظ العام والدعوة والتدين الفردي ، إلى أفق الحركة الإيجابية الشاملة ، التي تعمل على خلق تيار إسلامي عام وتكوين جيل يفهم الإسلام فهماً صحيحاً يؤمن به ويجاهد في سبيله . وأزالت الحاجز الذي كان قائماً بين ذوي الثقافة الإسلامية ، ممن تعلموا في الأزهر والمعاهد الدينية ، وبين المثقفين ثقافة حديثة ممن تعلموا في المدارس العامة والجامعات المدنية .
وقد أدى انتمائي إلى دعوة الإخوان المسلمين إلى اعتقالي عدة مرات . أولها : اعتقالي سنة 1949م نحو عشرة أشهر في عهد الملك فاروق ، وقد كنت طالباً في السنة الخامسة الثانوية . وقد ضاع عليّ امتحان الدور الأول للشهادة الثانوية ثم شاء الله أن أدرك الدور الثاني بعد الإفراج عني عقب سقوط وزارة إبراهيم عبد الهادي ، وكان من إكرام الله وتعويضه لي أن حصلت على الترتيب الثاني بين الناجحين في الدورين من طلاب المعاهد الثانوية الأزهرية على مستوى القطر المصري ، ثم كان اعتقالي في 2 يناير 1954 م لمدة شهرين ونصف في عهد الثورة ، ثم في نوفمبر 1954 م ولمدة عشرين شهراً تقريباً ، ثم في يونيو 1962 م نحو خمسين يوماً قضيتها في سجن انفرادي في مبنى مخابرات الثورة ، وكان بجواري الأخ الداعية صديق العمر ورفيق السراء والضراء الدكتور أحمد العسال . فقد اعتقلنا في وقت واحد ، وأفرج عنا معاً .
وقد كان من ثمرات هذا الاتصال أن :
صححت فهمي للإسلام ورسالته في الحياة ، وواجب دعاته في هذا العصر نحو وطنهم الصغير ، ووطنهم الإسلامي الكبير .
وأصبحت مهتماً بأمر المسلمين جميعاً ، وبقضايا الإسلام الكبرى ، وبمؤامرات أعداء الإسلام ، ووسائلهم في الغزو والتدمير.
وحددت هدفي من الحياة ورسالتي فيها ، وهي الدعوة إلى الإسلام كله عقيدة وشريعة وديناً ودولة وحضارة وأمة ، ولا يعني هذا أني من المتعصبين للحركة على العمياء ، فلي على مسيرها ملاحظات سجلتها في كتابي " الحل الإسلامي فريضة وضرورة " ولكن الدعوة ذاتها لا غبار عليها .
وقد كان حل الإخوان المسلمين سنة 1954 م كما كان حظر النشاط العلني للدعوة دافعاً لي إلى تغيير محور نشاطي ، فقد منعت من العمل في التدريس والوعظ فدفعني هذا إلى التفرغ للبحث العلمي والكتابة .
محن فيها منح :
ففي سني الدعوة العلنية لم أكن أجد وقتاً كافياًً للكتابة المركزة .
فلما منعت من هذا ، كان المنع منحة في صورة محنة ، فاتجهت إلى البحث والتأليف . فكان باكورة هذا الاتجاه هو كتاب " الحلال والحرام في الإسلام " سنة 1960 م .
كما أن بقائي في المعتقل نحو عشرين شهراًً بين عدد كبير من الإخوان في شتى المستويات أطلعني على أن هناك قصوراًً في مجال العلم الإسلامي والفقه الناضج للإسلام . وأن كثيراً من القضايا يختلط فيها الخطأ والصواب ، واليقين بالظن ، ولا بد من تحقيقها وتمحيصها . وهذا يحتاج إلى دراسة علمية وافية ، فلابد من توجيه الوقت والجهد إليها ، وعلى هذا نويت وعقدت العزم ، متوكلاً على الله .
في خدمة الدعوة :
وعن نشاط الدكتور في خدمة الإسلام يقدم إلينا الصور التالية :
أ ـ في المجال الجامعي حيث أعمل أستاذاً ورئيساً لقسم الدراسات الإسلامية بكلية التربية في قطر، وذلك بعد أن عملت اثنتي عشرة سنة مديراً لمعهد قطر الديني الثانوي ، فأرسيت ـ ولله الحمد ـ بنيانه على قواعد جعلته نسيج وحده ، وأصبح مثلاً يحتذى ، في الجمع بين القديم والحديث ، وتقريب علوم الدين والعربية وتيسيرها ، إلى جوار علوم العصر بحيث لا يحتاج إلى سنين أكثر من سني التعليم العام .
ب ـ في الميدان الشعبي ، عن طريق الخطابة والوعظ وإلقاء الدروس بالمساجد .
جـ ـ في المجال الإعلامي ، عن طريق البرامج التي أقدمها في الإذاعة والتلفزيون ، ومنها برنامج أسبوعي لمدة نصف ساعة في إذاعة قطر للرد على رسائل المواطنين واستفتاءاتهم ، ومثله في التلفزيون ، وذلك بعد إنشاء الإذاعة والتلفزيون القطريين . هذا عدا برامج توجيهية أخرى أقدمها بين حين وآخر ، وبخاصة في شهر رمضان .
د ـ المحاضرات التي أدعى لإلقائها بتكليف من الجامعات والجمعيات والأندية والمؤسسات الثقافية وغيرها في بلاد العرب والإسلام ، وأحياناً خارج العالم الإسلامي .
هـ ـ المشاركة في المؤتمرات والندوات الإسلامية العلمية في البلاد الإسلامية وغيرها مثل ندوة التشريع الإسلامي في ليبيا ، والمؤتمر التاريخي الأول في بيروت ، والمهرجان التعليمي لندوة العلماء بالهند ، والمؤتمر العالمي الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة ، ومؤتمر الفقه الإسلامي بالرياض ، ومؤتمر الدعوة والدعاة بالمدينة المنورة ، ومؤتمر اتحاد الطلاب المسلمين في الولايات المتحدة وكندا وغيرها .
و ـ كتابة المقالات والبحوث في المجلات الإسلامية ، التي تصدر في أنحاء شتى من عالمنا الإسلامي .
ز ـ تأليفاً لكتب في مختلف مجالات الثقافة الإسلامية .
ونحن نقول إن الذي يعرفه المسلمون عن خدمات الأستاذ القرضاوي للإسلام أوسع من أن تحصره أسطر كهذه ، بل لعل بين القراء من يعرف عن جوانب هذا النشاط ما لا يذكره هو نفسه عن نفسه . ومع ذلك فهو يقول : إني والله مقصر في حق ديني وأمتي ، وأسأله تعالى أن يغفر لي ما مضى ، ويصلح لي ما بقي .
نشاطه في التأليف :
كانت أول محاولة للتأليف عندي مسرحية شعرية عنوانها " يوسف الصديق " ترسمت فيها خطى أمير الشعراء أحمد شوقي في " مجنون ليلى " و " مصرع كليوبترا " . وكنت وقتها طالباً بالسنة الأولى في المرحلة الثانوية (نظام السنوات الخمس) بالأزهر، وكان الغالب على تلك المرحلة الأدب والشعر ، ثم شغلت بالخطابة والأحاديث والتنقل بين البلاد في قرى مصر ومدنها من الإسكندرية ودمياط إلى أسوان ، فكان سلاحي هو اللسان ، وقلما أستخدم القلم إلا في كتابة الأفكار والعناصر الرئيسية للموضوعات التي أتحدث فيها ، أعني إني كنت أكتب لنفسي فقط .
وفي أوائل الخمسينات حاولت أن أقهر الواقع الذي يستغرق وقتي ويعتصرني اعتصاراً ، فكتبت بعض الرسائل لأدفع بها إلى المطبعة .. كان منها رسالة بعنوان " قطوف دانية من الكتاب والسنة " وقد طبعت مرتين .
ثم أخرى بعنوان " رسالتك أيها المسلم " وقد دفعت بها إلى المطبعة ودفعتها المطبعة بالتالي إلى الرقابة في أواخر سنة 1953 م ، فرفضتها الرقابة ، ولم تردها إليّ ، للأسف ، ولم يكن عندي نسخة أخرى ، وصدر قرار حل جماعة الإخوان المسلمين في يناير 1954 م فضاعت هذه الرسالة إلى اليوم. ومما ضاع في هذه المحنة أجزاء من كتاب سميته " نفحات الحكمة " كان مجموعة خطب منبرية سجلها بقلمه أحد إخواني ، ونقحت بعضها ، ولم يظهر هذا الكتاب إلى الوجود .
ورسالة أخرى دفعت بها إلى المطبعة في ذلك الوقت ثم حدثت الظروف السابقة فاستعيدت من المطبعة قبل أن تضيع ، وعنوانها " رسالتكم يا شباب الأزهر" وهي عندي لم تنشر حتى اليوم .
أما عنصر التأليف الحقيقي فبدأ بعد أن خرجت من المعتقل سنة 1956 م ، حين حرمت عليّ حكومة الثورة أن أتصل بالجماهير عن طريق الخطابة أو التدريس ، فلم أجد أمامي إلا القلم أخاطب به الناس في صورة مقالات في مجلة " منبر الإسلام " و " مجلة الأزهر" وفي صورة كتب كان أولها " الحلال والحرام في الإسلام " .
وقد ظهر لي حتى الآن في عالم النشر أحد عشر كتاباً ، هي :
" الحلال والحرام في الإسلام " ، " العبادة في الإسلام " ، " مشكلة الفقر وكيف عالجها الإسلام "، " الناس والحق "، " الإيمان والحياة "، فقه الزكاة "، " عالم وطاغية "، " درس النكبة الثانية "، " شريعة الإسلام "، " الحلول المستوردة وكيف جنت على أمتنا "، " الحل الإسلامي فريضة وضرورة ".
وقد اشتركت في تأليف أكثر من عشرين كتاباً مدرسياً لوزارة التربية في قطر مقررة في مدارسها.
وتحت الطبع عندي عدة كتب ، منها:
" شبهات المرتابين والمشككين في الحل الإسلامي "، " أعداء الحل الإسلامي "، " الصبر فقي القرآن "، " غير المسلمين في المجتمع الإسلامي "، " الفقه الإسلامي بين الأصالة والتجديد "، " هدى الإسلام " (مجموع فتاوى وردود على أسئلة دينية) ، " الخصائص العامة للإسلام "، " قضية التكفير بين الغلو والتقصير" ، " معالم الاقتصاد الإسلامي " .
آثر كتبه عنده :
أما أي هذه المؤلفات أحب إليّ ، فإن كتب المؤلف أشبه بأولاده ، يصعب عليه أن يقول : هذا أحب إليّ من هذا ، وكلهم بضعة منه ، وإن كان لا بد من الإجابة ، فأحبها إلي اثنان " الحلال والحرام" لأنه أول كتاب حقيقي أدخل به عالم التأليف ، وإن كنت نشرت قبل ذلك رسالة سميتها " قطوف دانية من الكتاب والسنة " في أوائل الخمسينات ، كما نشرت مسرحية شعرية في الأربعينات عنوانها " يوسف الصديق " كنت فيها مقلداً لشوقي في مسرحياته المعروفة ـ كما أسلفت ـ .
وقد بارك الله في هذا الكتاب ، وكتب له القبول في العالم الإسلامي كله ، وطبع بالعربية تسع مرات في القاهرة ودمشق وبيروت (غير الطبعات المسروقة) وترجم إلى أكثر من لغة ، منها التركية التي طبع فيها نحواً أربع مرات ، ووزع منها عشرات الألوف . وقام بعض الطلاب في جامعة البنجاب (لاهور ـ باكستان) بدراسات حوله باللغة الأوردية حصلوا بها على الماجستير. وقال بعض فقهاء العصر (الأستاذ مصطفى الزرقا) إن اقتناءه واجب على كل أسرة مسلمة .
أما الكتاب الثاني فهو " فقه الزكاة " الذي اعتبره علماء الشريعة ، ورجال الاقتصاد على السواء ، فتحاً في بابه . وقال فيه الأستاذ محمد المبارك : " هو موسوعة فقهية في الزكاة ، استوعبت مسائلها القديمة والحديثة وأحكامها النصية والاجتهادية على جميع المذاهب المدونة المعروفة .. مع ذكر الأدلة ومناقشتها ، وعرض لما حدث من قضايا ومسائل ، مع نظرات تحليلية عميقة ، وهو عمل تنوء بمثله المجامع الفقهية ويعتبر حدثاً هاماً في التأليف الفقهي .
وقد حضرت المؤتمر الأول للاقتصاد الإسلامي بمكة المكرمة (صفر 96 هـ ـ فبراير 76م) فلقيني أكثر الحضور يثنون على الكتاب ، ويشكرونني عليه ، والشكر لله والتوفيق به أولاً وآخراً . واقترح بعضهم على المؤتمر أن يتبنى ترجمته إلى اللغات الأخرى .
بقي أن نعلم مصير هذا الاقتراح الذي من شأنه لو تحقق أن يقدم للعالم أكمل صورة عرفها حتى الآن ـ في رأينا ـ عن أسلوب الإسلام في بناء العدالة الاجتماعية وتوفير الطمأنينة والحياة الكريمة للإنسانية جميعاً .
نصوص اختارها :
لعل من الصعب أن يختار الكاتب بعض ما كتبه على أنه أحب إليه ، فإن كان ولا بد ، فإني أختار الفقرة التالية من كتابي " شريعة الإسلام " وكان أصله بحثاً ألقيته في " ندوة التشريع الإسلامي " في ليبيا الشقيقة ، إذ قامت فيها حركة لتعديل القوانين الوضعية بما يتفق مع مبادئ الشريعة الإسلامية . وتوهم بعض الناس أن مجرد هذه المحاولة تقيم الإسلام ومجتمع الإسلام على الأرض . وإنما اخترت هذه الفقرة لأنها تمثل الفكرة التي أتبناها في إصلاح المجتمع الإسلامي .
قلت : إن تطبيق الشريعة بحذافيرها وأخذها كلاً لا يتجزأ ضرورة لازمة لا يحل التفريط والتساهل فيها ، وأعني بالشريعة الإسلامية هنا الإسلام كله .. عقائده ، وتصوراته ، وشعائره ، وعباداته ، وأفكاره ، ومشاعره ، وأخلاقه ، وقيمه ، وآدابه ، وتقاليده ، وقوانينه ، وتشريعاته .
فهذه كلها مقومات المجتمع المسلم ، والتشريع ـ رغم أهميته ـ ليس إلا واحداً منها . فلا تظنوا أيها الأخوة أننا بمجرد إصدار تشريعات إسلامية ، قد أقمنا المجتمع المسلم المنشود .
فالتشريعات وحدها لا تصنع أمة ، ما لم يسندها تغيير فكري ونفسي يجعل أبناء الأمة في مستوى تشريعاته الرفيعة ، وفي هذا يقول القرآن الكريم : [إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم].
إن علينا ـ لكي ينجح التشريع الإسلامي في حياتنا الجديدة ـ أن نهيئ له الفرد المسلم الذي يؤمن بعدالة هذا التشريع ويحتكم إليه راضياً مسلماً ، والقاضي المسلم الذي يؤمن بقدسية هذا التشريع ولا يتلاعب بنصوصه ، طمعاً في دنيا أو اتباعاً لهوى .. والسلطة التنفيذية المسلمة التي تقوم على حراسة هذا التشريع وتطبيقه بلا محاباة ولا مداهنة ولا وهن .
وبعبارة موجزة ، لا بد من إيجاد " الروح الإسلامية " وبناء الشخصية الإسلامية التي يقوم عليها عبء تطبيق الإسلام ، وهذه الشخصية تعني " العقلية الإسلامية " التي تفكر بمنطق الإسلام في الحكم على الأشياء والأحداث والأشخاص والمواقف ، كما تعني " النفسية الإسلامية " التي تكيف تعاملها مع من حولها وما حولها وفقاً لمنهج الإسلام . لا بد إذن أن نعمل على تربية الجيل المسلم الذي يحمل رسالة الإسلام فكرة واضحة في رأسه ، وعقيدة راسخة في قلبه ، وعبادة خالصة لربه ، وعملاً صالحاً يزكي به نفسه ، وينفع به غيره .
وبهذا الجيل الصالح يعود الإسلام حقيقة إلى قيادة الحياة من جديد . ولا يوجد هذا الجيل إلا التصميم على العودة إلى الإسلام كل الإسلام ، والتخلي عن فكرة الترقيع الجزئي الذي لا يجدي كثيراً في الوصول إلى الهدف المنشود .
إن جل القيم والأفكار والأنظمة والتقاليد التي تسود مجتمعنا اليوم إنما هي وليدة الاستعمار الدخيل ، الذي طارد ـ بالقوة والحيلة ـ القيم والأفكار والتقاليد الإسلامية الأصيلة .
ولا يتحرر مجتمعنا إلا بأحداث انقلاب فكري ونفسي شامل ، إحداث تغيير جذري في أخلاقيات المجتمع ومعنوياته كلها ، تغيير يرد المجتمع إلى أصوله وإلى حقيقة ذاته التي نسيها حين نسي الله وشرعه [نسوا الله فأنساهم أنفسهم].
وهذا التغيير المطلوب لا ينفع فيه أخذ أجزاء متفرقة من الإسلام ، لتكون بمثابة " قطع غيار" في " جهاز غير إسلامي " ، فتظل هذه القطع قلقة غير مستقرة ، رغم صلاحيتها في نفسها ، لأنها وضعت في نظام لا يلائمها ولا تلائمه .
ولا بد أن نأخذ الإسلام كله كما أنزله الله وكما دعا إليه رسوله ، وكما فهمه الصحابة ومن تبعهم بإحسان ، وبذلك ننتفع حقاً بثمراته المباركة في حياتنا كلها ، الروحية والمادية ، الفردية والاجتماعية.
إن العقيدة الإسلامية لها أثرها في إحسان العبادة ، والعقيدة والعبادة لهما أثرهما في تكوين الأخلاق ، والأخلاق لها أثرها في حراسة التشريع ، والتشريع له أثره في حماية الدولة ورقيها ، والدولة لها دورها في الحفاظ على العقائد والعبادات والأخلاق والتشريعات ، فكل هذه الأمور يؤثر بعضها في بعض ولا يستغني ببعضها عن بعض فلا بد من العناية بها جميعاً إذا أردنا أن نقيم حياة متكاملة متوازنة كما أمر الله .
من أجل ذلك حذر القرآن من التهاون في بعض ما أنزل الله من أحكام فقال : [وأن احكم بما بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم وأحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك] كما شدد النكير على بني إسرائيل الذين آمنوا ببعض أحكام كتابهم وكفروا ببعض فقال تعالى : [أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون] .
حوار حول هذه الأفكار :
لقد أحسن الدكتور ـ جزاه الله خيراً ـ الاختيار لهذه الأفكار المركزة المكثفة ، ففيها أنموذج بارع لمداركه التي تنطلق من نفس تعيش مأساة الإسلام ، وتتحسس مواطن آماله وآلامه ، وهي من الوضوح والصراحة بحيث لا تستدعي تفسيراً ولا تعقيباً ، غير أن ثمة نقطة أحب أن أدلي حولها ببعض الملاحظات .
لقد أشار، وفقه الله ، إلى آثار الاستعمار الدخيل في مطاردة القيم والأفكار والتقاليد الإسلامية الأصيلة بالقوة والحيلة .
وإنها لحقيقة لا نماريه فيها ، غير أن ثمة حقيقة أخرى لا تنفك عنها ، هي استعداد المجتمع الإسلامي لقبول هذا التأثير، واستعداده قبل ذلك لقبول الاستعمار نفسه ، ونحن لو دققنا في الظروف التاريخية لتسلل هذا الاستعمار إلى ديار المسلمين على اختلافها ، لأدهشنا ما وصلوا إليه من انحلال يطمع بهم كل ذي طموح .. وأن لنا في واقع المسلمين اليوم لضروباً من هذه النماذج ، تؤكد لنا أن ذوي " الأمزجة المنحرفة " لم يكن لهم أن يقتحموا حرم الحكم في تلك الربوع لو وجدوا أمامهم شعوباً تعيش حقائق الإسلام . وعلى هذا فليس من حقنا أن نلقي بالتبعة كلها على عاتق المستعمر الدخيل . وقد سبقنا الكاظمي إلى هذه الحقيقة عندما قال :
أنا لا ألوم (لمستشار) إذا تجاوز أو تعدى
من شأنه أن يستبد وحقنـا أن نستعدا
نماذج من منظومه :
وكان على الصديق الأثير أن يتخير لنا بعض منظومه ، ليساعدنا على إعطاء الصورة ، التي يحسن بنا أن نقدمها إلى قارئ هذه الترجمة عن مواهبه الفسيحة .
يقول الدكتور : أما شعري فقد ذهب أكثره في دوامة المحن المتلاحقة التي أصابت الإخوان المسلمين ، إذ كان الأقارب والأصدقاء يتخلصون مما عندهم من أوراق خشية أن تجرهم إلى السجون والمعتقلات . وبقي منه شيء قليل من قصيدتي " النونية " التي نظمتها في السجن الحربي خلال محنة 1954 وهي أشبه بملحمة تسجل أحداث هذا السجن الرهيب . ومما قلت في خواتيمها متحدياً جبروت الطغاة :
ضع في يدي القيد ، ألهب أضلعي بالسوط ، ضع عنقي على السكين
لن تستطيع حصار فكري ساعة أو نزع إيماني ونـور يقيني
فالنور في قلبي ، وقلبي في يدي ربي ، وربي ناصري ومعيني
سأعيش معتصماً بحبل عقيدتي وأمـوت مبتسماً ، ليحيـا ديني
وحقاً إنها لملحمة ، بل أحق بصفة الملحمة من كثير من الطوال التي يسميها أصحابها ملاحم .. إنها سجل حي رهيب للصراع الذي شهدته مصر في ظل طغمة السجن الحربي .. يصور بالحروف وقائع لا تستطيع الأيام أن تذهب بجدتها . وقد ضاعف من قيمتها الفنية ما تحتفظ به من حرارة لاذعة يحس القارئ تحت لفحها أنه يشم رائحة المأساة ، ويشارك الشاعر المعاني آلامه البالغة أقصى التوهج.
وقد شاء الله أن أكون أنا الذي أتولى إعدادها للنشر قبل عشر سنوات ، مع غيرها من المنشورات التي ذكرت المسلمين بأولئك الأحرار الذين يقاسون أمر العذاب من أجل الإسلام ، والذين كادوا ينسونهم ، بل كادوا يصدقون فيهم كل ما تقذفه أقنية الأعلام الكذاب من مفتريات عاصفة مجنونة .. ولولا خشية الإطالة لأتحفنا القارئ بمقاطع ومقاطع من هاتيك الروائع ، ولكن حسبه منها هذا الأنموذج الدال على أنه تلقاء شاعر مطبوع لو تفرغ للقريض لملأ القلوب والأسماع بالمدهش المعجب.
تفاؤل وتحذير :
ويحدثنا عن انطباعاته عن الشباب فيقول :
أنا مستبشر بمستقبل الجيل الإسلامي في مصر، فبالرغم من المحن المتلاحقة والضربات الوحشية التي وجهت إلى شباب الدعوة الإسلامية هناك ، وبالرغم من وثوب الشيوعيين إلى أجهزة الإعلام والصحافة وغيرها من وسائل التوجيه والتأثير في العهد الناصري وذيوله ، لم يزل في مصر شباب يعيشون للإسلام ، ويتمنون أن يموتوا في سبيله .. تجد هؤلاء في كل مكان في المدن والقرى ، في المصانع والمدارس ، وأكثر ما تجدهم في الجامعات المدنية ، وبخاصة كلياتها العلمية مثل الهندسة والطب ونحوها .
وكل ما أخافه على خذا الجيل أمران :
1 ـ ألا يجد من يوجهه من العلماء وقادة الفكر المؤمنين الموثقين ، فيميل يميناً أو شمالاً ، تحت تأثير الغلاة الذين يستغلون الشعلة المتقدة للإحراق لا للإضاءة ، وبذلك ينزلق إلى منعطفات خطيرة ، قد تنحرف بمسيرته إلى العوج ، أو تودي به في النهاية .
ولأجل هذا وضعت يدي على قلبي حينما قرأت عن جماعة " التكفير" في ناحية وأنصار " البرهانية " في ناحية أخرى . وهذا يضع على عاتق العلماء المستبصرين مسئولية ثقيلة نحو هؤلاء .
2 ـ أن تتنبه القوى المعادية للإسلام إلى خطر هذا الجيل الإسلامي الناهض ، فتعمل على تعويق مسيرته وتعطيله عن هدفه ، يجره إلى غير طريقه ، وإدخاله في ما لا يحسن الخروج منه . وبذلك يتمزق من داخله ، ويتفرق شذر مذر ، دون أن يحقق غاية ، أو يرفع راية .
على أن هناك أعداداً كبيرة من أبناء الجيل تعيش في فراغ ، تحاول أن تملأه بالعبث والمجون ، أو بالانسياق وراء التيارات .
أما الجيل الإسلامي في منطقة الخليج ، التي أعمل بها منذ خمسة عشر عاماً ففيه بذور طيبة ، وطلائع مؤمنة ، ولكنها قليلة بالنسبة إلى مجموع الجيل الناشئ ، الذي تحيط به فتن عارمة ، تضل العقول بالشبهات ، وتغوي القلوب بالشهوات ، يساعد على ذلك فراغ في الوقت والفكر والروح ، ومال يأتي بغير مشقة ، وينفق بغير حساب ، وخطط محبوكة تدبر للمنطقة التي يتدفق فيها ذهب العالم ونقده ، تريد تبديد ثروتها بتحطيم شبابها ، وعدتها في ذلك مدروسة معروفة : الكأس والمرأة .
ولا غرو أن تتركز الأنظار ، وتعمل القوى المختلفة من يهودية وماسونية وصليبية وشيوعية لغزو هذه المنطقة الثرية غزواً ثقافياً وأخلاقياً واجتماعياً ، مستعينة بالأقليات المتسللة والعميلة .
ومن هنا يجب على علماء الإسلام في المنطقة أن يتيقظوا لما يحاك لها ، ويتفطنوا للألغام التي تزرع لتدميرها ، وألا يعيشوا في عزلة عما حولهم ظانين أن الإسلام بخير، بل عليهم أن يقاوموا الخطط الكافرة ، بخطط مؤمنة ، وأن يجتمعوا من أجل حقهم ، في مواجهة تجمع خصومهم من أجل باطلهم ، وإلا كانت العاقبة كما قال الله تعالى : [والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ، إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير] .
وعلى الأسرة مسئولية لا تنكر في حماية شبابها ، وعلى الدولة مسئولية أكبر في تطهير المجتمع من عوامل الفساد ومعاول الهدم و "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته ".
وقد زرت عدداً من الأقطار في الوطن الإسلامي الكبير، فوجدت الأجيال المسلمة فيها تعاني محنة مشتركة ، إنها تعاني نفسياً من التناقض البعيد بين عقيدتها وواقعها ، بين ما يحسه ضميرها وما يعيشه مجتمعها .. بين الإسلام الذي تؤمن بوجوب تطبيقه ، وتحكيمه ، وبين الحياة البعيدة عن الإسلام في أكثر جوانبها . إنها محنة الفرد المسلم في مجتمع غير ملتزم بأحكام الإسلام .
ولهذا كان لا بد من العمل للعودة بالمجتمع إلى الإسلام ، ليستأنف حياة إسلامية صحيحة ، توجهها عقيدة الإسلام ، وتحكمها شريعة الإسلام ، وتسودها أخلاق الإسلام . وهذا العمل لا يثمر إلا إذا كان عملاً جماعياً منظماً مخططاً ، كما بينت ذلك في القسم الأخير من كتابي " الحل الإسلامي فريضة وضرورة ".
مهمة العلماء :
يستطيع علماء الإسلام المعاصرون أن يعملوا الشيء الكثير، لضبط مسيرة الجيل بأحكام الإسلام ، وللوقوف في وجه التيارات الغازية ، ولتحقيق قيام المجتمع الإسلامي المتكامل :
أ ـ فهم يستطيعون أن يجعلوا من المساجد التي يخطبون بها ويدرسون ، مراكز إشعاع، ومحاور لنشاط إسلامي متعدد الألوان إذا هم وعوا رسالة المسجد وأعادوا لها مكانتها الأولى . ولا زال رواد المساجد ـ ولا سيما في أيام الجمع ورمضان ـ يمثلون أكثرية المواطنين في العالم الإسلامي .
ب ـ ويستطيعون أن يجوبوا البلاد فرادى ومثنى وثلاث ورباع ، داعين إلى الإسلام ، مذكرين به ، ذابين عنه ، وخاصة في المناسبات الإسلامية كشهر رمضان وغيره ، وأن ينتقلوا إلى الناس بدل أن ينتظروا انتقال الناس إليهم .
جـ ـ ويستطيعون أن يؤلفوا الرسائل والنشرات والكتب للتبصير بالإسلام ، وإيجاد رأي عام واع يلتزم به ويناصر دعاته ، ويقف في وجه أعدائه .
د ـ ويستطيعون أن يكونوا في مواقعهم رواداً ومصلحين اجتماعيين إلى جوار كونهم موجهين دينيين . ومعنى هذا أن يهتموا بأحوال المجتمع ، والاتصال بأفراده وأسره وجماعاته ومؤسساته ، والعمل على تفهم أوضاعه وأمراضه ومشكلاته الدينية والسلوكية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية ، وأن يسهموا في تشخيصها ووصف لدواء لها على هدي الكتاب والسنة .
هـ ـ ويستطيع العلماء بكل ما ذكرناه وبغيره أن يخلقوا من الشعب قوة إسلامية تطالب الحكام بالرجوع إليه ، وبإقامة الحدود ، والالتزام بتشريعه وتوجيهه ، بل تلزمهم به وتدفعهم إليه دفعاً . وخاصة في البلاد الديمقراطية التي لها حق اختيار ممثليها في البرلمان .
و ـ ويستطيع علماء الإسلام أن يعقدوا ما بين حين وآخر مؤتمرات إسلامية لها صيغة عالمية ، يلتقون فيها من كل بلد ، ليتدارسوا أوضاعهم ، ومواضع القوة لديهم ، ونقاط الضعف عندهم ، ومكامن الخطر التي يتربص بها عدوهم ، ليتقدموا الحلول لأمتهم الكبرى ، ويضعوا أيدي زعمائهم على الطريق الصحيح ، ويبصروا بمكامن الخطر ونقاط الضعف لتتلاقى ، وينبهوا على مواطن القوة لتستغل .
ز ـ ويستطيع علماء الإسلام أن يعملوا على تكوين مجامع علمية متخصصة في شتى جوانب الثقافة الإسلامية مهمتها أن تقدم البحوث العميقة ، والدراسات المستفيضة التي تضع الحلول لمشكلات العصر، وتنير الطريق لمن يريد العودة إلى الإسلام . على أن نناقش هذه البحوث ونمحصها لنصل من وراء ذلك إلى اجتهاد جماعي معتبر، هو صورة " الإجماع " في عصرنا .
الوصايا العشر:
لكن علماء الإسلام المعاصرين لا يستطيعون أن يقوموا بما ذكرت إلا بشروط يجب أن يرعوها :
1 ـ أن يكون ولاؤهم لله سبحانه ولدينه وحده ، لا لقومية ولا لوطنية ولا لأنظمة ولا لأحزاب ولا لأشخاص إلا بمقدار اتصالها بالإسلام وقربها منه .
2 ـ أن يجعلوا مستندهم في كل قضية الرجوع إلى كتاب الله وما صح من سنة رسوله ، مهتدين بهدي السلف الصالح لهذه الأمة في فهمهم لروح الإسلام ، واتباعهم لمناهجه ، عاملين على تحرير الإسلام مما شابه وابتدع فيه ـ على مر القرون ـ من تحريف الغالين وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين .
3 ـ أن يجهروا بكلمة الحق في وجوه الطغاة والمتألهين ، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، لا يخافون في الله لومة لائم ، ولا سطوة ظالم ، كالذين وصفهم الله بقوله : [الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ، ولا يخشون أحداً إلا الله وكفى بالله حسيباً] .
4 ـ أن يضعوا نصب أعينهم وصية النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن وقال لهما : " يسرا ولا تعسرا ، بشرا ولا تنفرا ، وتطاوعا ولا تختلفا ".
فما أحوج العلماء والدعاة إلى هذه الوصية في كل وقت ، وما أشد حاجتهم إليها في عصرنا خاصة !
ومعنى هذا ، أن يكون شعارهم الرفق لا العنف ، والتساهل لا التشدد ، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله ، وقد قال الله لخير خلقه : [ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك].
والتساهل الذي أعنيه هو التساهل في الفروع والوسائل ، لا في الأصول والأهداف ... وعلى هذا الأساس يجب أن نعامل الناس .
يجب أن نعد كل مسلم أدى الفرائض واجتنب الكبائر في هذا العصر صديقاً لنا ، ونشعره بأنه منا ، وإن كان على بعض المكروهات والشبهات والصغائر التي لا يصر عليها . مع دعوتنا له بالحكمة والموعظة الحسنة أن يرتقي إلى ما هو أفضل .
ومن الخطأ والخطر أن نعادي هذا الصنف ونعتبره ضد الدين فيختطفه عدو الإسلام ، ويحتضنه ويجعل منه معولاً لهدم دينه وأمته .
5 ـ أن يعرفوا عصرهم وعدوهم ومعركة وقتهم .. فلا يشغلوا أنفسهم وطلابهم وجمهورهم بمعارك جانبية أو فرعية أو تاريخية ، غافلين عن معركة الوقت ومعركة المصير ، أعني معركة الإسلام والتيارات الغازية من الشرق والغرب ، تحمل إلى أبنائنا الإلحاد والتحلل ، والاستخفاف بقيمنا وشرائعنا . فهذه التيارات الهدامة هي العدو الأكبر الذي ينبغي أن نوجه إليه جل اهتمامنا ، وجل تفكيرنا ، وجل سعينا ، لنحفظ على أمتنا شخصيتها وأصالتها ونحميها من الذوبان والفناء في غيرها .
6 ـ أن يتخذوا من قاعدة المنار الذهبية شعاراً لهم ودستوراً يتعاملون به فيما بينهم : نتعاون فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه .
7 ـ أن يتسلحوا بما استطاعوا من معارف العصر ، فالإمام الغزالي ما استطاع أن يهزم الفلسفة ، ويحيي علوم الدين ويبين تهافت الفلاسفة إلا بعد هضم الفلسفة ، وأصبح فيها كأحد أساطينها .
وكذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ، ما رد على كل الفئات المنحرفة وبين عوارها إلا بعد دراسة عقائدها وتعاليمها من كتبها ، دراسة واعية فاحصة ، حتى اليهودية والنصرانية ، ولهذا لم يكن إماماً في الشرعيات فحسب ، بل في العقليات أيضاً ، كما يدل على ذلك تراثه الغني . فلا غنى للعالم في عصرنا عن دراسة الثقافة الحديثة ـ قدر الاستطاعة ـ كعلوم النفس والاجتماع والاقتصاد السياسي والأخلاق والفلسفة ومذاهبها وتاريخها .
8 ـ على أن هذا كله لا يتم إلا بتحررهم من الشعور بأنهم مجرد موظفين رسميين في معاهد الدولة ومدارسها وجوامعها ، وليشعروا بأنهم أصحاب دعوة ، ورجال فكرة . ففرق بين الموظفين والدعاة ، فالأولون يعيشون بالإسلام ، يأكلون به ، والآخرون يعيشون للإسلام ويموتون في سبيله .
9 ـ أن يترابطوا ويتواصلوا فيما بينهم ـ على مستوى العالم الإسلامي ـ فعلماء المسلمين قوة كبيرة لها جمهورها وأتباعها وتأثيرها ، لو أنهم اتحدوا داخل كل بلد ، ثم حاولوا التنسيق والتعاون على المستوى الإسلامي العام .
إن أعداء الإسلام يعرفون الخلافات الصغيرة التي تفرق بين علماء المسلمين ، فهم لهذا يقوونها ويضخمونها ويعملون على إبقائها حية بارزة ، ويستخدمونها عند اللزوم لضرب بعضهم ببعض .. موهمين فريقاً منهم أنهم معهم ضد خصومهم في الفكر، والحقيقة أنهم ضد الجميع ، وعدو الجميع ، وإنما هو التكتيك القذر الملعون .
وعلينا ـ نحن المسلمين ـ أن نكون أبصر منهم وأوعى ، وأن نرد كيدهم في نحورهم .
10 ـ أن يقفوا إلى جانب كل حركة إسلامية سليمة الاتجاه ، تعمل على العودة بالإسلام إلى قيادة الحياة من جديد ، وصبغ المجتمع بصبغة الإسلام ، فعلى علماء الإسلام أن يشدوا أزرها ، ويأخذوا بأيديها ، ويسددوا خطاها ويمدوها بكل ما استطاعوا من قوة ، إن لم يكونوا هم في مقدمة صفوفها توجيهاً وعملاً وتضحية وبذلاً : [ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين]!
ملاحظات تستحق الانتباه :
وبعد ، فإن فضيلة الأخ في فقراته العشر يقدم لنا أفضل (ورقة عمل) لمعالجة واقع العالم الإسلامي ، وإعداد المجتمع الصالح الذي نتطلع إليه . ولكن في بعض هذه الفقرات متسعاً كبيراً لتساؤلات لا بد أن تتحرك في صدور الكثيرين من قرائها ، ولا يحسن أن نمر بها دون أن نعقب عليها ببعض القول :
في الفقرات (أ ـ ب ـ و) " نظريات " تتجاوز نطاق الواقع ، وكأنها ضروب من الأحلام التي من شأنها التعويض عن المستحيل بتحقيق المتخيلات .
في الفقرة (أ) يكلف علماء الإسلام أن يجعلوا من المساجد مراكز إشعاع ومحاور لنشاط متعدد الألوان في توجيه روادها من المصلين الذين ـ في رأيه ـ لا يزالون يؤلفون كثرة المواطنين في العالم الإسلامي .
وهو تكليف بما فوق الإمكان ، لأنه يتجاهل وجود السلطة القاهرة التي تهيمن على وضع المسجد ، ولا تسمح بالكلام فيه إلا لنوعية معينة من رجال الدين الذين كل منهم (يعدد أياماً ليقبض راتباً) .
وفي الفقرة (ب) يدعو العلماء لجوب البلاد لبث الدعوة ونشر الوعي الإسلامي . حيث شاءوا .. ولو خفض بصره إلى واقع الناس قليلاً لأبصر ركام العقبات التي تقام بوجوههم فتحول بينهم وبين الاتصال بأي جانب من العالم الإسلامي .
كذلك الأمر في الفقرتين (و ـ ز) فكأني به يفترض لعلماء الإسلام مثل النفوذ الذي كان لهم في دولة ابن تاشفين بالأندلس ، فهو يحضهم على أن يخلقوا من الشعب قوة إسلامية تلزم الحكام إقامة الإسلام .. وأن يعقدوا المؤتمرات العالمية لتدارس أوضاع المسلمين ، وللعمل على تكوين المجامع العلمية التي تقدم الحلول لمشكلات العصر .
وليس أجدر من الأستاذ القرضاوي بتقدير ظروف هؤلاء العلماء الذين حيل بينهم وبين ما يشتهون، فلا إذاعة تستقبلهم ، ولا تلفاز يقبلهم ، ولا صحافة تحمل كلامهم إلا في حدود لا يكاد يحس بها أحد .. وليست مواكب شهدائهم ولا زمر سجنائهم دون محاكمة ، عن ذاكرته وعلمه ببعيد .
ثم إن (الإمكانات) التي يتخيلها لهؤلاء العلماء توهم كأن الأستاذ يتصور العالم الإسلامي دائرة مغلقة لا نفوذ فيها لغير الإسلام ، وقد نسي تدفق السموم عليه من كل صوب ، ولا سيما عن طريق تلك البعثات التي احتواها الغرب والشرق ، فرباها على عينه ، وجردها من كل احترام لدينها ومواريثها الروحية ، حتى إذا عادت إلى أهلها لم تجد أروح لقلبها من إعلان الحرب على كل مقدس في هذه الأمة !
ويلاحظ فضيلة الأخ يلح في أكثر من موضع على أن يقف العلماء بجانب كل حركة إسلامية تتبين لهم سلامتها ، وهو إلحاح ينطوي على تقريع كبير لأولئك المعممين الكبار ، الذين سخرتهم السياسة الباغية لقلب الحقائق ، وإصدار الفتاوى بإهدار دماء الدعاة إلى الإسلام ، دونما ذنب جنوه سوى أن يقولوا : ربنا الله !..
وما أكثر هؤلاء في ديار المسلمين !.. وما أخطر ما جنوه على الإسلام من المحن التي لا تكاد تنتهي !..
الهوامش :
(1) بينت منهجي في الفتوى بتفصيل في مقدمة كتابي " هدى الإسلام " وهو تحت الطبع الآن .