الإمام أبو الأعلى المودودي
الإمام أبو الأعلى المودودي
بقلم: محمد المجذوب
لو جرت الأمور في طريقها الصحيح لاحتلت ترجمة الأستاذ أبي الأعلى المودودي، تغمده الله برحمته، مكانها في المجلد الأول من (علماء ومفكرون عرفتهم) ولاتخذت من هذه الترجمة صورة الحوار الذي انتظم ذلك الجزء جميعاً، ولكن حالت دون ذلك حوائل، أهمها مسؤوليات المعمعة الطويلة التي شغلت الأستاذ وإخوانه حتى عن أنفسهم في مواجهة أعداء الإسلام، فلم يجد متسعاً للإجابة على الاستطلاع الذي وجهناه إليه، ولم يفرغ مرافقه الأستاذ خليل أحمد الحامدي لتحقيق مواعيده المتلاحقة لنا بالحصول على أمليات الشيخ التي انتظرناها حتى قبيل تقديم الكتاب الأول إلى المطبعة...
ومن هنا كان اتجاهنا في كتابة ترجمته إلى استخلاص عناصرها من أوثق المصادر التي تحدثت عنه، وفي مقدمتها أحاديث الأستاذ الحامدي نفسه، الذي هو من أعلم الناس بالراحل العزيز، وأكثرهم اطلاعاً على دقائق تلك الحياة الحافلة بالجهاد ولإعلاء كلمة الله.. وهكذا استحال الاستطلاع نوعاً من العرض التاريخي الموثق، ممزوجاً بالدراسة التحليلية التي سلكنا سبيلها في الكتاب الأول، كلما وجدنا للرأي الخاص مجالاً في أثناء ذلك العرض.
وأقف لحظة لأنفي عن عملي الادعاء باستيفاء الصورة الكاملة عن تلك الحياة الباهرة، وعذري في كل قصور يؤخذ علي أن الكلام عن مثل المودودي يقتضي الإحاطة أولاً بأبعاد ثقافته العالمية، التي تناولت أهم مشكلات الإنسان على ضوء التطورات التي حققتها البشرية في مختلف جوانب الحياة، ثم الإحاطة كذلك بمسلسل الوقائع التي واجهها وعالجها على مدى عشرات السنين، وفي مختلف الميادين، وكل من الأمرين يتطلب ما تضيق عنه المجلدات فكيف بالصفحات !..
ثم وقفة أخرى أستعيد فيها بعض الذكريات عن لقائي الأول والأخير لهذا العلامة، الذي جدد الله به شباب الإسلام، وملأ عالمنا الإسلامي المعاصر ألواناً من المعرفة النيرة المستقيمة...
حدث هذا اللقاء قبل خمس عشرة سنة في رحاب الجامعة الإسلامية، ولم أكن قد رأيته قط ، ومع ذلك شعرت كأني قديم المعرفة به، إذ كانت صورته قد انطبعت في خيالي عن طريق كتبه. فلما واجهته لم أستغرب هيئته، التي لم تختلف كثيراً عن صورته المكنونة في نفسي، فهو إلى هيكله الوسيط الممتلئ، وبلحيته التي تملأ ترقوته، يطل على الناظر في جدية وقور، يحس من خلالها أنه تلقاء واحد من الأئمة الذين طالما قرأنا أوصافهم في كتب التراجم. ولعلي لا أجانب الواقع إذا قلت إن أبرز سماته ذلك الوقار الذي يجلله كله، حتى مشيته ونظراته ولهجته، فيذكرك بقول عبد الله بن المبارك في إمام المدينة:
يأتي الجواب فما يراجع هيبةً والسائلون نواكس الأذقان
عز الوقار ومجد سلطان النهى فهو المهيب وليس ذا سلطان
ولم يطل بقاؤنا يومئذ ومضيت، ثم لم أره بعد ذلك، بيد أني لم أفارق أفكاره التي تغنيني عن الاجتماع بشخصه وظللت أتتبع أخبار النضال الذي ما ينفك يخوضه في سبيل تثبيت الطابع الإسلامي على الدولة، التي ما كان لها أن تكون لولا الإسلام.. إلى أن توفاه الله يوم 22 سبتمبر 1979.
وبعد، فهذه لمحة رأيت تقديمها قبل الدخول في غمار تلك الحياة الحافلة بجلائل الأعمال، والله المستعان.
البيئة الصالحة:
كان مولد الأستاذ المودودي عام 1903 في إحدى مدن ولاية حيدر أباد الدكن في شبه القارة الهندية، ويرجع بنسبه البعيد إلى الشيخ قطب الدين مودود صاحب الطريقة الجشتية المعروفة منذ القرن السادس الهجري في منطقة (هرات) من ديار الأفغان، وقد أختير لهذا المولود اسم أحد أجداده من شيوخ هذه الطريقة، الذي كان اسمه أبا الأعلى المودودي، وهو اختيار لابد أن يكون فيه نزعة الأسرة إلى التصوف الذي تحدر إليها بطريق الوراثة، فطبعها بمشخصاته المميزة، التي برزت جلية في سلوك والده السيد أحمد حسن. الذي على الرغم من ثقافته الإنجليزية التي تلقى مبادئها من جامعة عليكرة، وعمله مدة في المحاماة التي حاول أن يتخذها مهنة لتأمين المعيشة، ولم يلبث أن انصرف عن التفكير بالدنيا كي يتفرغ للعبادة والأذكار ورياضة النفس مكتفياً من الحياة بالمتيسر من القوت..
وبدأ أبو الأعلى مرحلة التعليم على يد والده الذي تلقى منه دروسه الأولية في العربية والقرآن والحديث والفقه واللغة الفارسية، وبلغ من نباهته واجتهاده في هذه المرحلة أن استظهر موطأ مالك عن ظهر قلب..
وقد عنى السيد أحمد حسن بتربية ولده على أفضل ما يتصور من الأخلاق. ويتحدث الأستاذ عن عناية ذلك الوالد قائلاً:
" إنه كان يأخذه بالتوجيه الشامل، حتى ليمنعه من استعمال الألفاظ الدارجة، ويدرب لسانه على أفضل الأساليب، وفي الليالي يقص عليه من أخبار الأنبياء، وتاريخ الإسلام، والأحداث الشهيرة من أيام الهند ، ويكشف له عما وراءها من الدروس والعبر.
ويقول الأستاذ أيضاً:
" لقد ضربت ذات يوم طفلاً لأحد الخدم في حارتنا، ولما انتهى الخبر إلى والدي دعاني وجاء بذلك الطفل وأمره أن يقتص مني..
وهكذا أحيط أبو الأعلى منذ نعومة أظفاره بالكريم من التربية العملية، التي طبعت حياته بالأكرم من الخلال..
أما من ناحية نباهته فإلى جانب حفظه للموطأ في سنه المبكرة كان تقدمه في العربية التي ـ يقول ـ إنه بلغ من إلمامه بها خلال بضعة شهور ما مكنه من ترجمة كتاب (المرأة الجديدة) تأليف الكاتب المصري الشهير قاسم أمين، إلى اللغة الأردية بطريقة نالت الإعجاب.
ومن تلك المرحلة انتقل إلى المدرسة الثانوية فألحق بالسنة الثامنة ولما يتجاوز الحادية عشرة من العمر واستحصل على شهادتها وهو في الرابعة عشرة بتفوق بالغ..
ولقد أدى زهد والده إلى ضيق في معيشتهم شديد، اضطر الوالد للنزوح إلى مدينة بهوبال، تاركاً ابنه يتابع دراسته في (أورنك أباد) . ويصف الأستاذ المودودي هذه الفترة من حياته قائلاً:
" كان مسكنه على مبعدة خمسة عشر كيلاً من مدرسته، وعليه أن يجتازها على قدميه ذهاباً وإياباً كل يوم.. وربما فعل ذلك وهو طاوي البطن لا يجد ما يأكله(1).. وبعد نصف سنة جاءته الأخبار عن شلل أصاب والده، فلم يتمالك أن يترك المدرسة ليعود مع والدته إلى بهوبال حيث قاما برعاية والده الصالح حتى وافته المنية عام 1917.
من البؤس إلى الصحافة:
ويصف الأستاذ الحامدي أيام المودودي (2) بعد وفاة أبيه بأنها فترة قاتمة، إذ لم يبق له سند من الناس وبات عليه أن يضرب في الأرض طلباً للرزق، فهو مشتت الفكر، دائب الرحلة من بلد إلى بلد آخر، إلى أن ألقى عصا التيسار في مدينة (بجنور) وهناك ألفى بعض الاستقرار إذ وجد عملاً في إحدى الصحف إلا أنه لم يستمر فيها سوى قليل حتى تركها إلى مجلة أسبوعية في المدينة نفسها. والظاهر أن الدافع له إلى إيثار هذه المجلة هو التزامها (حركة المحافظة على الخلافة الإسلامية) وقد انتفع بموهبته الإنشائية فجعل يكتب لها الافتتاحيات اللاهبة في موضوع الخلافة، الذي كان مشغلة نفوس مسلمي الهند في ذلك العهد، ولم يكتف بنصرة الحركة عن طريق الكتابة فقط بل جعل يقتطع من أجوره ما يتبرع به لصندوقها.
وفي هذا الجو المتأجج بالحماسة الإسلامية ألف اثنين من أوائل كتبه، أحدهما (النشاطات التبشيرية في تركية) والثاني بعنوان (مجازر اليونانيين في سمرنا) وفي هذين العنوانين ما يكفي لتصوير قلق مسلمي الهند على إخوانهم في تركية، التي كانت ترزخ أثناء ئذٍ تحت كابوس الاحتلال الصليبي، وتعاني من عدوان اليونانيين على مناطقها التي أغرقوها بدماء الأبرياء...
وفي العناوين إلى ذلك دلالة أخرى على ما في قلب هذا الفتى، الذي لم يتجاوز السابعة عشرة بعد من تفاعل مع أحداث العالم الإسلامي، وبخاصة في دولة الخلافة، التي كانت، على ضعفها الذي أطمع بها أعداء الإسلام، مطمع أنظار المسلمين على تباعد أقطارهم، والمركز الذي يستقطب مشاعرهم الروحية، فيؤلف قلوبهم حول الخليفة الذي يعتبر الرمز المقدس لوحدة العالم الإسلامي..
الطريق إلى القمة:
ولقد كان لاتصال المودودي بحركة الخلافة، ولمقالاته البليغة في نصرتها، أثر شد أبصار الشخصيات السياسية إليه ودفعهم إلى تقدير مواهبه. وفي رحلة إلى دلهي اجتمع باثنين من أكابر جمعية علماء الهند المتعاونين مع غاندي في نطاق النضال ضد الاستعمار البريطاني، وكانا من المعجبين بكتاباته المثيرة، وأسلوبه الأخاذ ، وعن طريق هذين العالمين الكبيرين توثقت صلته بجمعية العلماء، حتى أسندت إليه رئاسة التحرير لأول صحيفة أصدرتها باسم (المسلم) عام 1921 وفي عام 1924 أصدرت صحيفة أخرى باسم (الجمعية) وأسندت إليه كذلك أمر تحريرها، وقد استمر في عمله ذاك إلى عام 1928.
وكفى بهذا دليلاً على ما بلغه المودودي الشاب من مكانة في أوساط أهل العلم والعاملين في ميدان القضية الإسلامية وحركة التحرير الوطنية جميعاً. جعلته موضع الثقة من أفاضل العلماء وكبار الساسة.. وهي ثقة من شأنها أن تفسح السبيل لمستقبل أبعد وأعمق.
ثم لا ننسى أن عمله في الصحافة قد أتاح له الإطلاع على خفايا الأحداث وأنواع النفوس، وفي ذلك زاد لا غنى عنه للرجل الذي يعده القدر للإسهام في قيادة الفكر الإسلامي على المستوى العالمي...
مزيد من الثقافة:
ودهلي في الهند كالبصرة في دولة بني العباس، ملتقى الثقافتين الغربية والإسلامية، فلا معدى للرجل الطلعة، ذي النهم الذي لا يخمد إلى المعرفة، من الانتفاع بهذه البيئة إلى أقصى الحدود، وكذلك فعل صاحبنا، فأقبل على تكثيف معرفته العربية بدراسته علوم البلاغة والأدب على أحد المختصين في ذلك البلد، وقرأ أمهات من كتب الحديث على آخر من المشهورين بهذا الفن، واغترف ما أمكنه من التفسير والفقه والمنطق من أحد كبار علماء ذلك البلد..
ولم يغفل أمر العلوم العصرية فتعلم الإنجليزية على أحد أستاذتها في أربعة أشهر، وعن طريق الإنجليزية أطل على الكثير من علوم الغرب كالتاريخ والفلسفة والعلوم الاجتماعية، وبذلك أتيح له أن يعلم من مواضع التلاقي والافتراق بين الثقافتين، ما لم يكن ليحيط به لولا هذا التضلع الذي وفقه الله إليه.
وفي هذا الغمار من الكتابة في شئون المسلمين، والدراسة المتصلة لمختلف الفنون والعلوم، تمكن المودودي من إخراج كتابين آخرين أحرزا الكثير من الإعجاب والرواج، وهما (مصدر قوة المسلم) و(الجهاد في سبيل الإسلام).. وقد نشرهما أولاً حلقات متسلسلة في جريدة الجمعية ثم أخرجهما في طبعتين مستقلتين.
وكان لهذا التوسع الثقافي أثره العميق في نفس الأستاذ المودودي، إذ تحصل لديه من العلم ما أتاح له أن يُكَوِّن تصوراً متكاملاً عن الإسلام، يختلف عن المفهوم الذي جمد عليه المشايخ التقليديون. وكان لكل من الكتابين على وجه الخصوص أثره الفعال في عقل مؤلفه، إذ كان عليه أن يراجع الكثير من المصادر، ليستمد منها الركائز الأساسية للموضوع الذي يزمع كتابته، فيستكشف أثناء ئذ من الحقائق ما لم يقع عليه من قبل، وبذلك تتسع مساحة أفكاره، وتمتد أشواطه خلالها، حتى بلغ كل من الكتابين الحجم الذي لم يتصوره.. وتولى طبع كتاب الجهاد للمرة الأولى العلامة الإسلامي السيد سليمان الندوي في خمسمائة صفحة من القطع الكبير، وبلغ من إعجاب شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال بهذا الكتاب أن جعل ينصح للشباب المسلم باقتنائه والانتفاع به.. بل إن الأستاذ المودودي نفسه يرحمه الله يقول عنه:
(إن كتاب الجهاد نفعني أكثر من أي قارئ له، فقد بدأت تأليفه وأنا على حمية القومية، وفرغت منه وأنا على حمية الإسلام.. حتى لقد آليت ألا أعود إلى ممارسة الصحافة في المستقبل إلا على أساس أن أجعلها وسيلة لخدمة الإسلام (3)..).
في طريق الدعوة:
وتحت هذا التأثير الفكري قرر الأستاذ أجزل الله أجره أن يقف حياته على الدعوة إلى الله ، ولكنه كان على أتم القناعة بأن الإقدام على هذه المهمة يقتضي استعداداً خاصاً من الزاد العلمي يتناسب مع مستوى العصر.. هذا العصر المليء بالأفكار والتيارات المذهبية مما لم يسبق له مثيل حتى في العصور العباسية.
وهكذا انقطع الفتى إلى المطالعة الواسعة العميقة، مكتفياً من العمل الدنيوي بالقليل الذي يكفه عن الحاجة، لينصرف بكل طاقته إلى الدعوة عن طريق مجلته (ترجمان القرآن) وقد صور لنا مدى تصميمه بالكلمة التالية التي افتتح بها العدد الأول منها:
" إن هذه المجلة تضع قدمها اليوم في طريق محفوف بالمصاعب والمحن، ويتولى عبثها رجل يعترف بأنه ضعيف فاقد القيمة صفر اليدين. ولكنه على الرغم من وعورة الطريق استعد لحمل هذا العبء يقيناً منه بأن الله الذي نور قلبه بالإسلام، وخلق في نفسه حب الدعوة إليه، هو الذي سوف يؤازره بنصر من عنده، ويمنحه الرسوخ في العلم، والصحة في الفكر، والسلامة في القلب، والطهارة في النفس، والسمو في الروح (4)..".
وبهذه العزيمة الفذة يمضي الشاب الفقير الأعزل، إلا من سلاح الإيمان والرؤية الواضحة والتصميم الحاسم، في طريق الدعوة التي وهب لها نفسه، ووقف عليها مجلته التي لم يكن لها مؤنس سواه، فهو مديرها ومحررها، ومصحح طبعاتها والساعي الذي يحملها إلى البريد.. والمجيب على كل استفسار يتعلق بها.. فمن أجلها يسهر الليالي يطالع ويكتب إلى صلاة الفجر، ومن أجلها يتحمل شظف العيش حتى لتأتي عليه أيام لا يتاح له من الطعام إلا العدس والماء(5)...
وعلى غلاف المجلة كتب عهده للقراء بأن " غايتها إعلاء كلمة الله والدعوة إلى الجهاد في سبيله، ووسيلتها إلى ذلك نقد الأفكار المنحرفة ومبادئ الحضارة الغربية بمحك القرآن، ثم عرض المبادئ التي جاء بها كتاب الله وسنة رسوله في كل مجال من الفلسفة والعلوم والسياسة والاقتصاد والاجتماع... إن هذه المجلة تدعو الأمة المسلمة إلى حياة جديدة، وخلاصة دعوتها:
" أيها الناس. اجعلوا قلوبكم وأذهانكم مسلمة خاضعة لله ، وتخلوا عن نظم الجاهلية واسلكوا صراط الله المستقيم، وخذوا كتاب الله بالقوة لتكونوا سادة العالم وأئمة الحضارات ".
وسرعان ما انتشرت هذه الأفكار في مواطن المسلمين على مدى القارة، كما ينتشر شعاع الفجر في ليل كثيف الظلمات.. وأخذت كلماته سبيلها إلى القلوب والعقول تتداولها وتتأملها وتتفاعل معها...
المودودي وإقبال:
والأحداث التي شاء الله أن تنضج على نارها شخصية المودودي وأفكاره، هي نفسها التي مازجت عقل إقبال وقلبه، فتشابهت الشخصيتان إلى حد بعيد ، وتلاقت أفكارهما في إطار يكاد يكون واحداً.. ولعل أبرز نقاط التلاقي بين العملاقين هي إيمان كل منهما بعظمة الإنسان المسلم، واحتقارهما للضعف الذي مسخ ذاتيته في أتون النوائب، التي أطبقت عليه في كل مكان من وطن الإسلام، فكان من الأهداف الفكرية لكل منهما إيقاظ تلك الذوات المخدرة، وإعادة الثقة بالنفس إليها، وبعث وعيها لحقائق هذا الدين، التي غيرت مسيرة الإنسانية من قبل، وهي على أتم الاستعداد لتغييرها من بعد..
وأحس شاعر الإسلام إقبال من خلال مقالات المودودي في " ترجمان القرآن " قوة الوشائج التي تجمع بينهما، فكتب إلى صديق له في حيدر أباد ليبلغه رغبته في مقابلته، فلم يتلبث حتى شخص لزيارته في لاهور.. وكان لقاء ضاعف من قوة تلك الوشائج، إذ وجد كل منهما أفكاره في صدر صاحبه وتم الاتفاق بينهما على أنه ثمة ركيزتين أساسيتين لا نجاح بدونهما:
إحسان العرض لعظمة النظام الإسلامي بالأسلوب العلمي المقنع، وإعداد الرجال الذين يصلحون لقيادة المسلمين فكراً وعملاً..
واستجاب الأستاذ لاقتراح إقبال بالهجرة إلى البنجاب، التي تعتبر مهد الحركات والدعوات والتيارات الفكرية، واتخذ فيها موطنه منذ ذلك العهد، بيد أن الأجل سرعان ما وافى الشاعر العظيم، فحرمه القدر الحكيم فرصة التعاون مع ذلك القلب الموّار بنور الإيمان وهدايته.. وسجل المودودي مشاعره بإزاء هذه المصيبة في قوله:
" فقدت أكبر سند في الدنيا بموت هذا الرجل العظيم.. ".
وكان على المودودي أن يستفيد من جو لاهور العلمي فاستجاب لدعوة كلية " حماية الإسلام " وشرع في العمل بها محاضراً دون أجر لمدة عام.. ومن ثم اتجه إلى العديد من المدن يلقي فيها المحاضرات على الطبقات المثقفة، فكان منها واحدة في قاعة بلدية لاهور بعنوان " الجهاد في سبيل الله " وأخرى في " مجلس الأخوة الإسلامية للطلبة الجامعيين " بلاهور أيضاً، ثم محاضرتان بعنوان " منهاج الانقلاب الإسلامي " و " معضلات الإنسان الاقتصادية وحلها في الإسلام " ألقاهما في جامعة عليكره عام 40 و 41 ثم أخرى في " دار العلوم لندوة العلماء " بعنوان " منهج جديد للتربية والتعليم " وواحدة بعنوان " الإسلام والجاهلية " في " مجلس الدراسات الإسلامية " بالكلية الإسلامية في بشاور.
الجماعة الإسلامية:
والمتحدث عن الإمام المودودي ملتزم بأمرين اثنين أحدهما أفكاره التي انعكست في مقالاته ومؤلفاته الموسوعية والثاني هو الجماعة التي أراد أن يجعل منها مجالاً حياً لتطبيق مخططه في تكوين الرجال المؤهلين لحمل رسالة الإسلام، وقد شاء الله أن يخلد أعمال هذا الرجل، فحفظ أفكاره وجعل منها منارة تستمد من أنوار الوحيين، كما يستمد القمر من ضوء الشمس فينقل عطاءها للناظرين..
لقد آمن المودودي بطريقة إمامه وقائده المصطفى، صلوات الله عليه وسلامه، القائمة على الجمع بين التربية والتعليم جميعاً، كما وصفها كل من عثمان وابن مسعود وابن عمر، عليهم رضوان الله ، بما مؤداه:
" كنا نتعلم الآي من كتاب الله فلا ننتقل منها على غيرها حتى نتعلم العمل بها "
فكان من ثمرات ذلك الإيمان أنه لم يكتف بالعلم يبثه في الكتب والصحف، فأقام لترجمته ذواتاً تحمل طابعه، وتمثل معالمه في سلوكها وسائر تصرفاتها... وهكذا نشأت الجماعة الإسلامية، التي على الرغم من انقسام القارة إلى دولتين، وتجزئها أخيراً إلى ثلاث جماعات، فقد احتفظ كل منها بطابعه الإسلامي الراسخ الرصين.
وقد تم أول اجتماع لتأسيس هذه الجماعة عام 1941 وبعد الاتفاق على نظامها الأساسي أعطى كل من أعضائه الخمسة والسبعين عهده بتنفيذ ذلك الميثاق ذي الفقرات الثماني عشرة، الشاملة المحددة لهويتها الإسلامية.. مجدداً ولاءه لكتاب الله وسنة رسوله ومؤدياً شهادة التوحيد في خشوع المتأمل في أبعادها المدرك لعظيم تبعاتها... وكان من أوائل التزاماتهم لمبادئ الجماعة انسحاب كل موظف بينهم من خدمة الحكومة البريطانية والوقوف في سائر تصرفاتهم عند حدود الشريعة المطهرة، ورفض محاميهم المرافعة أمام المحاكم التي تقتضي بغير ما أنزل الله (6).
والمتتبع لأعمال هذه الجماعة يتبين أنها تنظيم غير مسبوق يتناول بأنشطته سائر جوانب الحياة، من تعليم وتعاون واقتصاد، وتنمية وسياسة، وطاقات بشرية تشمل الأستاذ والطبيب والتاجر والطالب والفلاح والنساء والرجال على السواء...
وقد يقف المتأمل في هذا التنظيم وهو يتذكر نظيره الذي قام بمصر على يد الإمام حسن البنا وإخوانه، في نفس الفترة من حياة العالم الإسلامي، فيتساءل: أيهما الذي اقتبس من الآخر ؟!. كما يقف مشدوهاً أمام التلاقي المائل بين أفكار المودودي والشهيد سيد قطب، دون أن يستطيع فصلاً تاماً بين المؤثر والمتأثر. ولقد أكرمنا الله بلقاء العديد من هذه الجماعة سواء في المدينة الحبيبة ملقى المؤمنين، الوافدين من أربعة أقطار الدنيا، أو حواضر الهند وباكستان حيث قمنا بزيارات لبعض مؤسساتها، فلمسنا عن كثب ثمرات الجهود التي بذلها رائدها في تربية الرجال، الذين لا نبالغ إذا قلنا أن بينهم من ينطبق عليه وصف الفضلاء الذين يقال في الواحد منهم: إنه قرآن يمشي على الأرض.
وفي مقر هذه الجماعة بدهلي ـ حاضرة الهند ـ التقينا بأميرها ومعاونيه على وضع يذكرنا بحياة السلف من أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، قبل أن يتحول الحكم النبوي إلى الملك العضوض ومما ضاعف سرورنا بهذا اللقاء ما وفقنا عليه من استمرار المسيرة التي بايعوا عليها الإمام الرائد، إذ [ صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً ] فهم مواصلون خطة الجماعة في التبليغ والتذكير والتعليم، في معزل تام عن كل عون مشبوه ولا سيما من ناحية الدولة، وقد بلغت معاهدهم التعليمية المئات للذكور والإناث، وتتابعت منشوراتهم ومؤلفاتهم وصحفهم على مستوى الهند كلها وبمختلف اللغات.. ولا يزالون على أسلوبهم المعهود، يضيئون طريق الناس بنور الله ، ويدفعون هجمات المغرضين والشاتمين، بالكلمة الطيبة والدعاء لهم بالهداية والتسديد، لأنهم ينوؤن بأعباء الواجب فلا متسع لديهم للغو والمراء...
ولا شك أن لهذا التميز الخلقي أثره السلمي في نفوس مخاصميهم، الذين عجزوا عن استدراج الجماعة إلى الدخول في معاركهم المثارة، فراحوا يؤلبون عليها بسطاء المشايخ، فيصدرون الفتاوى بتسفيه أفكارها وتشويه دعوتها، وتحريم المطالعة لمنشوراتها، ويحرضون الحكام على الإيقاع بها، ولم يضنوا على مؤسسها حتى بالتفكير أو ما يشبه التفكير..
مرحلة الصراع:
كانت المسيرة حتى الآن في حدود الفكر والعلم، تتوسل إلى تحقيق أهدافها العليا بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن.. أما بعد تقسيم الهند وقيام الباكستان باسم الإسلام. فقد تعددت الحلقات، وتكاثفت المشكلات، وتحركت الأهواء يريد كل منها أن يفرض نفسه على المجتمع الجديد..
وأخطر هذه المشكلات هو في اضطراب الرؤية عند الساسة الذين قادوا حركة الانفصال، فهم يتكلمون عن دولة إسلامية، ويتحدثون عن مميزاتها القومية، ولكنهم لا يملكون أي فهم لمضمون الإسلام، من حيث كونه نظاماً مستقلاً بذاته عن كل نظام آخر عرفه الإنسان الحديث في شرق أو غرب..
ومن هنا تدفق سيل البلاء على دعاة الحق، إذ أصبحوا يشكلون الجبهة الوحيدة المقاومة لتلك الشواذ الخطيرة، والمتصدية لتصحيح الأفهام، ولنشر التوعية بحقائق الإسلام، والمعارضة لكل انحراف عن جادته في أوساط الحكام.
ومن البديهيات المألوفة في عالم السياسة الميكافيلية أن أصحاب الحكم المطلق لا يقرون معارضة تحدُّ من سلطانهم، فكل محاولة لتغيير وجهتهم من قبل الآخرين إنما هي بنظرهم تطاول على كرامتهم، واستهانة بشأنهم، لا مندوحة من القضاء عليها بكل الوسائل الممكنة.
وهكذا وجدت الجماعة الإسلامية وقائدها الملهم أنفسهم في أتُّونٍ من المحن المتلاحقة لا يفرغون من الواحدة حتى تتلقفهم الأخرى...
إنهم يرون اتجاه الدولة في الطريق نفسه الذي طالما عانوا من شروره في ظل الاستعمار الإنجليزي بل إنهم ليرون هؤلاء الحكام المحسوبين على الإسلام أشد عداءً له من الإنجليز أنفسهم، وأشد منهم اندفاعاً في تأييد قوانينهم المنافية لدين الأمة، فعلام إذن حدث هذا الانفصال، وفي سبيل أي شيء تحمل المسلمون تكاليفه التي ذهبت بعشرات الآلاف من إخوانهم وبآلاف الملايين من ممتلكاتهم ؟!..
كلا.. إن الله لن يعذر مسلماً يرضى بهذه الخيانة التي ستقرر مصير المسلمين إلى أحقاب طويلة وإذا كانت التبعة على قدر الإدراك فعلى عاتق الجماعة الإسلامية يقع العبء الأكبر منها.
في معركة الدستور:
وهكذا أخذ المودودي زمام المبادرة لمواجهة كل تدبير يضاد الخط الإسلامي، وكان سلاحه في هذه المعركة ذلك القلم الذي استطاع بتوفيق الله أن يوقظ النائمين، ويقض مضاجع الظالمين ثم تلك الجماعة التي احتضنت أفكاره، من خلال إيمانها بكتاب الله وسنة رسوله، وشاركته التصميم على تحمل كل مسئولية في سبيل الله.
ومن الطبيعي أن يقع ثقل المعركة بين الطغيان الجديد، والجماعة الإسلامية، بين علمانية المتسلطين وإسلامية المودودي وإخوانه العاملين.
وحشد كل من الفريقين أعوانه في التحام غير متكافئ من حيث الإمكانات، فبينما يقود رجال السلطة مرتزقة الغوغاء من السياسيين والعسكريين وأتباعهم، من عميان العامة والحاقدين على الإسلام، ليضربوا بهم جنود الحق العزل بكل ضروب الإرهاب، كان هؤلاء يدفعون الشر بالخير والحماقة بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد وطنوا أنفسهم على التضحية بكل شيء من أجل الإسلام، الذي باسمه ولأجله قامت باكستان.
وتفاقم الصراع بين الطغيان والجماعة الإسلامية، على تفاوت ما بين وسائل كل من الفريقين، وقد تجلى ذلك أكثر ما يكون في معركة الدستور، التي حفزت كلا منهما لتعبئة أقصى ما يملك من الطاقات، ولا غرو، فالدستور هو المنطلق الذي سيحدد الخط النهائي لنظام الحكم.. وهو الفيصل الحاسم في حياة المجتمع الباكستاني وفي مسيرته العامة، فإما أن يكون إسلامياً ينسجم مع طبيعة السواد الأعظم من الأمة، التي دفعت فداء إسلامها عشرات الألوف من الشهداء والمشوهين، فازدادت به تشبثاً، يقيناً منها بأنه لها بمنزلة الروح من الجسد، والمأمن الذي ليس وراءه إلا العار والدمار..
وإما مخطط شيطاني تمليه أهواء الأقليات الضالة من متسلطين نشئوا في محاضن الاستعمار فلا يستسيغون سوى طريقته في الحياة، ووثنيين خُلِّفوا في باكستان ليكونوا " الطابور الخامس " لأعدائها المتربصين بها الدوائر... ماركسيين فقاديانيين يدعون الإسلام وهم ألد أعدائه، الذين أعطوا ولاءهم لبريطانية التي حطمت كيان الدولة الإسلامية في الهند، وملأت شوارعها بجثث العشرات من آلافهم...
وكان على الجماعة العزلاء إلا من سلاح الإيمان أن تثبت للمتسلطين تأييد السواد الأعظم من الأمة لدعوتها إلى الدستور الإسلامي، فراحت تعقد الاجتماعات الشعبية هنا وهناك، فتتهافت الجموع المؤمنة لتأييدها في تصميم لا يعتريه خوف الموت..
وصدرت الأوامر إلى مرتزقة السلطة وجنودها بمهاجمة هذه الاجتماعات بكل وسائل الإرهاب، وثبتت الجماعة بوجه المجرمين، معتصمة بالصبر والهدوء والرد بالتي هي أحسن..
وهكذا يمضي الفريقان كل في الطريق الذي ارتضاه أو سيق إليه... وكان أشد الجميع إيذاءً للجماعة الإسلامية جمهور القاديانيين من أنصار وزير خارجية باكستان، التي يقول أول رئيس لوزرائها لياقات علي خان: " إنها هبة الإسلام " ومع ذلك لا يتورع حكامها أن يشهروا الحرب على الإسلام وأن يسلطوا عليه أشرس أعدائه..
وعلى الرغم من المنهج السلمي الذي أخذ به الأستاذ المودودي جماعته لم يجد بداً من مواجهة القوى الشريرة بالتظاهرات السلمية المصممة تملأ شوارع البنجاب هاتفة بسقوط القاديانية. وغر القاديانيين سلطانهم في قوى الأمن فانهالوا على المؤمنين بالنار التي حصدت من المتظاهرين عدة مئات... ولكن الإيمان كان كشأنه دائماً أقوى من الموت، فلم يقف الزحف السلمي حتى سقط قائد القاديانية ظفر الله خان، وتضاءلت قواته حتى كادت تنحصر في حوك الدسائس من وراء الدستور..
أكبر من الموت:
في هذه الظروف ألف الأستاذ المودودي رسالته في موضوع القاديانية ففضح عقائدها ومؤامراتها الرهيبة على المسلمين، وكن حاكم باكستان غلام محمد ما لبث أن اتخذ منها مسوغاً لإعلان الحكم العرفي ولإلغاء الجمعية التأسيسية، ولوقف البحث في الدستور الجديد، الذي يوشك أن يأخذ طابعه الإسلامي تحت ضغط الشارع، الذي يقوده المودودي وأنصار فكرته.. وتلا ذلك اعتقال الكثيرين من رجال الإسلام، وعلى رأسهم المودودي بتهمة تأليف كتيب وصف بأنه ضاعف من أسباب الاضطرابات والقلاقل.. وهي مناسبة تتيح لأولئك المتسلطين فرصة التخلص من الرجل الذي يشكل بنظرهم العقبة الكبرى في طريق الدولة العلمانية، التي تطلق أيديهم في رقاب الشعب، وتمكنهم من العبث بكل قيمه الإسلامية..
وأصدرت محكمة العسكر قرارها بإعدام المودودي، في محاكمة صورية كالتي يساق إليها الإسلاميون في مصر وتركية وإندونيسية، والعديد من أقطار المسلمين الرازخة تحت كابوس العسكريين.
ويصف مرافقه خليل أحمد الحامدي موقفه وهو يتلقى ذلك الحكم الظالم فيقول:
" لقد استمع إلى هذا القرار بوجه باسم وقلب مطمئن، ولم يزد على قوله "الحمد لله على كل حال ..".
وجاء الضابط ليسلمه نص القرار وهو يقول:
" يمكنك أن تقدم الاسترحام خلال أسبوع. "
ولعل هذا الضابط كان يظن أنه يقدم بذلك بشرى سارة إلى ذلك المحكوم بالموت، وهو يجهل أنه تلقاء نوع من الرجال لم يسمع بمثله قط ، لذلك لا بد أنه فوجئ بقول الشيخ في الرد على عرضه:
" لن أسترحم أحداً لأن أحكام الموت والحياة لا تصدر من الأرض، بل من السماء، فإذا قدر الله لي موتي فلن يستطيع أحد إنقاذي ، وإذا قدر الله الحياة فليس بمقدور أحد أن يضرني قيد شعرة "
ثم توجه الأستاذ إلى إخوانه الحاضرين تلك المحاكمة بقوله:
" لا يقدم أحد منكم أي استرحام بشأني، وأؤكد بذلك على والدتي وأخي وزوجتي وأولادي جميعاً..".
ولكن.. وعلى الرغم من استنكاف الأستاذ عن طلب الرحمة فقد أعادت المحكمة العسكرية نفسها النظر في قرارها واستبدلت به حكماً بالسجن لمدة إحدى وعشرين سنة.. ولعلها قد فعلت ذلك بإيعاز من السلطة التي تدرك مدى الخطر في إعدام الإمام المودودي، الذي استحوذ بشخصيته المثالية على حب المسلمين، وعرف الطريق إلى قلوبهم فهو يؤلبهم لتوكيد انتمائهم الإسلامي، فأقدمت على ذلك التغيير تفادياً للعواقب التي لن تستطيع دفعها..
إلى المحكمة العليا:
وقد قضى الأستاذ خمسة وعشرين شهراً فقط من تلك السنين في السجن.. إذ انتهز إخوانه فرصة قيام وزارة جديدة فرفعوا إلى المحكمة العليا بلاهور اعتراضاً على ذلك الحكم بالباطل متذرعين بالبراهين القانونية التي لا تدفع ...
يقول الأستاذ الحامدي (7):
" لما دخل الإمام المودودي قاعة المحكمة العليا وقف قضاتها احتراماً له.. وهو موقف لم يعرف له مثيل في تاريخ القضاء..".
في هذا المشهد الرائع سمع الإمام المظلوم قرار المحكمة العليا بالإفراج عنه، مصحوباً بالتكريم الأسمى من أعلى هيئة قضائية وثقافية في باكستان، فكان ذلك إدانة دامغة لعهد خان قضية الإسلام، الذي لولاه لما كان لباكستان من حق في الوجود..
وإن كل ذي ضمير حي في العالم الإسلامي ليشعر بالتوقير البالغ لأولئك القضاة الذين أثبتوا أنهم فوق الأهواء، وأنهم مع الحق الذي لم يوجد القضاء إلا لحمايته من عسف البغاة والمستبدين..
ولقد كان لهذه الظاهرة أثرها العميق في ارتفاع معنويات المسلمين، فإذا بالمسيرات والمواكب والحفلات تعم أرجاء لاهور بمظاهر الفرح والاستبشار، وأقيمت الاحتفالات العديدة لاستقبال البطل الظافر، وفي أحد هذه التجمعات رد على كلمة الترحيب بقوله:
" لقد ذكرتم ما قدر الله علينا من محن الحكم بالإعدام إلى امتحان السجن، وأحب أن أقول لكم إن هذه الأحداث لم تفاجئنا قط ، بل إني كنت أتوقع أمثالها منذ أن وضعت أول خطاي في هذا الطريق قبل اثنين وعشرين عاماً.. إذ من خصائص العقيدة التي نؤمن بها أن نواجه بالمحن، وقد علمنا التاريخ أن الدعوة امتحنت في الماضي، ولا بد أن يتكرر الامتحان في الحاضر والمستقبل، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.."
المفاجأة الرهيبة:
وكانت هدنة تحرر المسلمين أثناءها من كابوس الإرهاب العسكري، وبخاصة بعد أن عادت الجمعية التأسيسية الجديدة إلى أعمالها، وصدقت على الدستور الإسلامي، الذي أجمعت عليه الأمة بلسان علمائها وجماعاتها وجماهيرها الشعبية، واعتبر يوم صدوره من عام 1956 منطلق حياة سعيدة للمسلمين جميعاً، لم يشذ عنهم إلا قلة من المستغربين والشيوعيين والقاديانيين والنفعيين، الذين ألقوا بأقدامهم إلى مزلقة الإثم، فلم يعودوا بقادرين على التوقف قبل أسفل الهاوية...
وعبر الإمام المودودي أيامئذ عن فرحة المسلمين بذلك التصريح الذي يصور مدى أمل المسلمين في مستقبلهم المنشود:
" نبدأ اليوم حياة جديدة، حياة شعب حر قرر بلسان ممثليه أن الحاكمية في باكستان لله عز وجل، وأن السلطة أمانة في عنق الأمة لا تزاولها إلا في نطاق ما حدد الله ورسوله.. فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله....".
ولكن شاء الله ألا تقف محنة باكستان عند هذه النهاية البهيجة، لأن أعداء العدالة والخير قد صمموا على ألا يلقوا سلاحهم وفيهم عرق ينبض، وهكذا فوجئت باكستان ذات صباح بمثل الحال التي أشار إليها قول الشاعر:
قد سالمتك الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر
ففي الثامن أكتوبر عام 1958 أغار الجنرال محمد أيوب، وكان رئيساً لأركان الجيش الباكستاني، على أمنها في انقلاب عسكري ألغى البرلمان ونقض الدستور، وأدخل البلاد في تيار المحن والمتاعب المتلاحقة طوال إحدى عشرة سنة، لم تعرف لها باكستان نظيراً في كثافة البلاء وجرأة الحكام على دينها وشريعتها..
لقد صمم محمد أيوب على اجتثاث المعارضة لحكمه بكل الوسائل الممكنة، وبدا له أن يجرب أسلوب المكر مع الإمام المودودي، وكان ذلك عام 1960 حين جاء مدينة لاهور، وهناك بعث إليه يدعوه لمقابلته في قصر الحكم، وبعد تردد بين الإجابة والرفض قرر مقابلته رجاء أن تكون المقابلة في صالح الدعوة، واستقبل أيوب الشيخ بترحيب حار وأحاطه بحفاوة جميلة، وراح يطري جهود الشيخ ويكثر الثناء على خدماته للإسلام، وقدرته البارعة في اكتساب العقول والقلوب... حتى إذا انتهى على ما يريد قال:
" أيها الشيخ الفاضل. أقترح عيك التفرغ للدعوة والتبليغ بعيداً عن التورط في السياسة والانغماس في أوحالها... وبذلك تكون أكثر نفعاً لقومك ووطنك... ولكن الشيخ سرعان ما أبطل مكره حين أجاب:
" حقاً إن السياسة قد استحالت أوحالاً، ولذلك دخلتها لأطهرها من الأوساخ، وأجعلها نظيفة سديدة لا تدنس الأذيال بل تعود رحمة على الوطن وأهله...".
مؤامرة على الإسلام:
وكان هذا الجواب بمثابة النذير بمعركة جديدة بين الطغيان والإيمان.. وقد امتازت هذه المعركة بضروب من العنف والهول أكبر من كل التجارب السابقة، ذلك أن محمد أيوب قد دخلها في برنامج صريح يستهدف حرباً للإسلام لا هوادة فيها.. فقد قرب إليه منكري السنة من أتباع المدعو أبرويز، وما أدري أذلك اسم له أو لقب، ولكن المعروف أنه اسم لآخر أكاسرة الفرس، ذلك الأحمق الذي مزق كتاب رسول الله فمزق الله ملكه وقتله بيد ولده، ولعل هذا الخائب قد اختار لنفسه ذلك اللقب إعلاناً لنيته بتمزيق الكيان الإسلامي في باكستان..
لقد راح هؤلاء الخائبون يثيرونها حرباً شعواء على السنة النبوية فيصدرون الكتب والمجلات المشحونة بالطعن عليها، وتتولى أجهزة الإعلام الحكومية توزيعها وإشاعتها، وأقبلت على وضع تفسيرات مضللة لمعاني الكتاب الحكيم، تصرفها عن مقاصدها الإلهية إلى توجيهات هدامة، كتفسيرها القطع للسارق بتأديبه في السجن والغرامة، وتفسيرها للصلاة بالحركة والنشاط والتزام الدوام الرسمي في الموعد المحدد، وقولها في الزكاة إنه استثمار المال في المشروعات الإنمائية، وأتموا مؤامراتهم باعتبار رئيس الدولة بمثابة الرسول في امتلاك السلطة المطلقة في التشريع والتقنين وتفسير الأحكام القرآنية بما يراه مصلحة لعصره دون مراجعة لسنته صلى الله عليه وسلم..
وبهذه القحة أصدر محمد أيوب عدداً من القوانين المضادة للشريعة المطهرة، وبخاصة في نطاق الأحوال الشخصية، التي يعتبر الإخلال بها سلخاً للمسلم من صبغته الإسلامية، ومن ذلك حظر الزواج على الفتى الذي لم يبلغ السادسة عشرة مع إباحة الزنى والمخالّة له مع أيّ شاء من النساء...
وفي هذا الجو الخانق أغلقت أفواه العلماء، وحيل بينهم وبين إبداء مرئياتهم في هذه التصرفات الخرقاء، ولم يبق في الساحة من يرجى للتنفيس عن صدور المسلمين سوى الرجل الذي وهب حياته للإسلام، فلا يبالي على أي جنب كان في الله مصرعه..
لقد انبرى المودودي لعدو السنة أبرويز وجعل يفند أضاليله الواحدة بعد الأخرى في مجلته " ترجمان القرآن " حتى أتى عليها جميعاً، فكشفه للناس عدواً مبيناً لدين الله، وهو يعلم يقيناً أنه لا يهاجم أباطيله وحدها، بل يهاجم من ورائه السلطة التي تمده بكل أسباب القوة.. ويهاجم كذلك كل من أخذ بترهاته من أعداء السنة. وهذا كتابه " مكانة السنة في التشريع " يجعل من هؤلاء في كل زمان ومكان أضحوكة العقلاء، بما يعري من جهلهم لحقائق الإسلام، القائمة على الكتاب والسنة دون أي انفصام.
وتصدى لقوانين أيوب المنافية لشريعة الله بالنقد العلمي الذي قطع ألسنة كل المدافعين عنها.. مما أثار حنق الطاغية فأمر باعتقال بعض قادة الجماعة الإسلامية، وزج بالسجن صاحب المطبعة التي أقدمت على نشر ذلك النقد... ولكنه لم يتعرض لشخص المودودي، ولعله توهم أن تجريده من إخوانه في ذلك الجو الرهيب كاف للحد من نشاطه، ومُلْقٍ في قلبه الرعب فيمسك عن مهاجمة دستوره الهدام، ولكن خاب فأله، حين رأى البطل المؤمن يتناوله بالتشريح الفاضح، فيبرز بوائقه، ويبين أخطاره على الحرية، وما يستهدفه من توطيد النظام الاستبدادي وعلى الرغم من إحجام الصحف الباكستانية عن نشر ذلك النقد الفاضح، فقد حملته الألسن إلى كل مكان فتردد صداه على مستوى الدولة كلها.
تصميم أعظم من الإرهاب:
وبذلك تهيأت الأذهان لحضور الاحتفال الذي أعدته الجماعة الإسلامية لإعلان قرارها الحاسم في ذلك الدستور البغيض... واستحصلت على إذن من النيابة بعقد ذلك الاجتماع الذي ضم ما يزيد على عشرة آلاف مندوب وعزّ على السلطة الاستبدادية أن تمر تلك المناسبة الهامة بسلام، فدفعت أدواتها من رجال المباحث لإحداث البلبلة، فاندسوا خلال المجتمعين، وجعلوا يثيرون الشغب ويطلقون الشعارات المعادية للجماعة ولقائدها.. وهو قائم يلقي خطابه في الجمهور، وعمدوا إلى أسلاك المكبر فقطعوها لكي يمنعوا صوته من الوصول إلى الأسماع.. إلا أن الجماعة سرعان ما تداركت هذا الحال بالعودة إلى طريقة المبلغين، الذين نهضوا في جوانب الحفل، وجعلوا يستقبلون كلمات الأستاذ ليوصلوها إلى الحضور كاملة مفصلة.. وساء المشاغبين إخفاقهم في إفساد الاجتماع فعمدوا إلى السلاح يطلقون النار لمجرد الإرهاب أولاً، ثم وجه أحدهم طلقته إلى الأمام نفسه، ولكن شاء الله أن تصيب رجلاً آخر من الجماعة فيسقط شهيداً في الحال، ويظل الأستاذ منتصب القامة يترقب الفرصة لاستئناف خطبته، وأحاط به بعض إخوانه يدعونه للجلوس حفاظاً على سلامته، ولكنه أبى وأجاب :
" لو جلست فمن سيبقى واقفاً ؟!".
ولم يذهل حرج الموقف عزيمته، وأخذ يوجه تنبيهاته لأفراد الجماعة بالتزام الهدوء، والاكتفاء بإخراج المشاغبين دون أذى... وما هي إلا دقائق حتى عاد الوضع إلى طبيعته، وهنا أرسل المودودي الحكيم كلمته التي ذهبت مثلاً:
" إن مثل الحركة الإسلامية كمثل الماء المتدفق، إذا واجه صخرة في طريقه لا يضيع جهده في تحطيمها، بل ينعطف يميناً ويساراً حتى يترك الصخرة وراءه تعض أنا ملها من الغيظ..".
قضاء فوق الأهواء:
ولقد سعر أحقاد محمد أيوب إخفاق أدواته التخريبية في إفساد ذلك الاجتماع، الذي حقق واحداً من أكبر الانتصارات الإسلامية في معركة الدستور، إذ شحن صدور المسلمين وغيرهم من ذوي الضمائر المنصفة، بالنقمة من عهده وأساليبه ووحشية أتباعه، حتى لم يجد مندوحة من محاولة القضاء على الجماعة بأجمعها، فصدرت الأوامر بحلها ومصادرة أموالها واعتقال زعمائها وعلى رأسهم الإمام المودودي.. ولكن ذلك التدبير الآفن لم يستمر سوى ثمانية أشهر حتى نقضته المحكمة العليا في لاهور بقرار يبرئهم من جميع التهم الموجهة إليهم، ويرد إلى الجماعة حرية العمل كاملة..
وهذه المرة الثانية التي يثبت القضاء العالي في باكستان أنه فوق أهواء المتسلطين، وأن في رجاله من قوة الشخصية والإيمان بشرف المهنة ما يجعلهم ضماناً للعدالة في بلد استولى الطغيان فيه على كل شيء.. وهو الضمان الذي فقدته معظم الشعوب الإسلامية في جحيم الديكتاتوريات، التي جعلت من القضاء، الذي طال صموده من قبل في وجه الاستعمار الأجنبي، مجرد تابع لأهواء السلطة الباغية، لا عمل له إلا تنفيذ الأحكام التي تصدرها مراكز القوى من مباحث ومخابرات وما يسمونه بأمن الدولة.
على أن الإنصاف للحق أن نتذكر هنا موقف بعض رجال القضاء المصري، الذين لم يقصروا على مستوى إخوانهم من قضاة تلك المحكمة العليا في لاهور، حين أطلقوا صيحتهم المدوية في وجه الظلم، بقرارهم الذي فضحوا به طغمة السجن الحربي في عهد جمال عبد الناصر، إذ اعتبروه وصمة عار في جبين مصر، توجب على خلفاء الطاغوت إزالة معالمه...
ويستتبع ذلك موقف محامي مصر الأشاوس بجانب جماعة الجهاد، ومرافعاتهم النبيلة في الدفاع عن فدائييها، الذين أنقذوا كرامة وطنهم من عبث صاحب كامب ديفيد، فأثبت هؤلاء الشرفاء من حماة العدالة قضاة ومحامين أن في مصر رصيداً من العزة يمكن أن يحجبه الطغيان بالمرتزقة والمنافقين وفنون الإرهاب إلى حين، ولكنه لا يلبث أن ينتفض ليعلن أن الحق أقوى من جبروت الظالمين...
وهكذا القول في إخوان لهؤلاء وأولئك في أقطار عربية أخرى هالهم أن تغرق أوطانهم في غياهب الذل والرعب والقمع، فوقفوا يعلنون بإضرابهم ومقرراتهم استنكارهم لأنظمة الطوارئ، التي يتخذها المتسلطون ستاراً لإمرار المؤامرات على مصالح شعوبهم وحرياتهم.. ثم لم يتوقفوا عن كفاحهم العظيم حتى زجهم الطغيان في ظلمات السجون فقطع ما بينهم وبين العالم منذ سنين..
الكفر ملة واحدة:
ولعل من غرائب الاتفاق أن تتكرر الصورة الواحدة من عدوان الطغاة في أكثر من دولة إسلامية، فهذا التحرش الذي أحدثه عملاء محمد أيوب باندساسهم في صفوف الجماعة الإسلامية، ومحاولاتهم إفساد الحفل بالمشاغبات الشريرة حتى إطلاق النار على الأبرياء... هو نفسه الذي قام به عملاء العهد الناصري بتسللهم داخل تجمع الإسلاميين في أحد الاجتماعات المعارضة، حيث راحوا يتحرشون ويهددون ويشوشون على الخطباء، حتى اضطر الإسلاميون إلى إخراجهم بالقوة، وإتلاف شحناتهم من السياط التي أعدوها للعدوان عليهم...
ويذكرنا هذا وذاك بمشهد آخر من العينة نفسها، واجهه مصلوا الجمعة في دولة عربية أخرى بلغ التعسف العسكري فيها حد تهديم المساجد على روادها، واقتحامها بالآليات المعدة لحرب إسرائيل..
لقد علم أولئك الانقلابيون عن طريق عملائهم أن ثمة خطيباً عرف بالجرأة في الحق، قد يتعرض لبعض تصرفاتهم الحمقاء، فقذفوا بهؤلاء العملاء لتخريب الجمعة على المصلين، واندفع هؤلاء إلى قلب المسجد يهتفون بالشعارات المثيرة، ويتحدون الخطيب والناس، يريدون بذلك استفزازهم لمواجهتهم بالرصاص.. ولكن حكمة الخطيب قد فوتت عليهم الفرصة.
ولولا ذلك لغرق المسجد بدماء المصلين، كما فعل ظافر شاه يوم سلط القتلة على علماء الأفغان المعتصمين في مسجد " بل خشتي " احتجاجاً على تحكيمه الشيوعيين برقاب المسلمين.. فقطع العملاء الكهرباء عن المسجد، فأضاء المسلمون بالمصابيح، ومنعوا العلماء من الماء، ولكن الناس أدركوهم به في الدلاء.. ولما نفدت حيلة هؤلاء في إكراه المشايخ عمدوا إلى رشاشاتهم فحصدوا بها الأنفس، حتى استحال المسجد بركة من دماء العلماء، ولم ينج منهم إلا من توهموا موته...
اللعبة الماكرة:
بإزاء هذه الوقائع لم يجد محمد أيوب بداً من تعديل أسلوبه الاستبدادي، فاعتزم سلوك الطريق الأقرب إلى إرادة الجماهير، وذلك بترشيح نفسه للرئاسة، وليكن ما يكون موقف الناخبين منه، ففي يديه الوسائل التي تفرض نجاحه على الأمة ولو لم ينل سوى أصوات من حوله من المرتزقة، وكفى بهذا تدبيراً يسبغ ستار الشرعية على سائر تصرفاته الدموية !. ولم يتردد في قراره فأعلن عن ترشيح نفسه لانتخابات الرئاسة.
وكان على الأستاذ المودودي وإخوانه وأنصار فكرته من أهل العلم والرأي أن يقرروا موقفهم من هذه المناسبة دون تأخير، فاتفقت الآراء على اتخاذ كل الأسباب لإسقاط الطاغية في هذه المعركة، إذ إن خروجه منها بالنجاح المزور سيمكنه من القضاء على أمل الأمة بإقامة المجتمع الطاهر الصالح لتمثيل الإسلام.. ولكن هذا يتطلب منهم أن يقدموا للجمهور شخصية تملك من الشهرة ما يساعدها على التفاف الناخبين حولها.. ومن هنا كان إجماعهم على ترشيح فاطمة جناح، أخت محمد علي جناح، الذي اقترن استقلال باكستان باسمه حتى صار لقبه الغالب على كل لسان هو " القائد الأعظم "..
ولتوكيد المصلحة الإسلامية أخذوا على فاطمة جناح الميثاق الغليظ بأنها ستدع الحكم لأهل الإسلام يقيمون على ضوئه كيان البلاد المقبل...
وكان لا بد لأشياع الطاغية من استغلال هذه الظاهرة الاضطرارية المتمثلة في ترشيح امرأة لرئاسة الدولة، فراحوا يثيرون الخواطر، ويستحصلون على الفتاوى البريئة لتشويه عمل أهل الإسلام، إذ يطرحون أسئلتهم الملغومة على ثقات العلماء بمثل هذه الصيغة: ما حكم الإسلام في إمارة المرأة ؟
فيأتي الجواب الطبيعي بأن ظاهر الحديث الصحيح يعارضها... وهو جواب سليم لأنه بمقدار السؤال. وكان الوجه الحق أن يقال: طاغية يحول دون إقامة حكم الله في الأرض، ويشجع الملاحدة على الطعن بصلاحيته، ولا سبيل لكف بغيه إلا بتأمير امرأة مسلمة عاهدت الله أن تسلم الحكم إلى أهل الإيمان بمجرد انتخابها للرئاسة.. أفيصح تأميرها صيانة لمصلحة المسلمين، أم يترك المجال لإنجاح الطاغية، وتمكنه من رقاب الأمة، وحرمانها من تحكيم شريعة الله ؟!!
ولو عرضت هذه الصيغة المعللة على أهل العلم لكانت الفتوى في غير مصلحة العملاء بلا شك...
ولقد تسللت دعاية الطاغية إلى جامعتنا يومئذ عن طريق بعض هؤلاء، والمؤسف أنها لقيت استجابة من بعض المدرسين المؤيدين لذلك الجانب، فانطلقوا يرفعون عقائرهم بالطعن على المودودي وإخوانه، ويشنعون على موقفهم من ترشيح تلك المرأة حتى ضيقوا الخناق على أنصاره في الجامعة وهم كثرة الطلبة الباكستانيين وخيرتهم..
وكنت أشهد هذه المعركة بكثير من الأسى المكظوم، ولا أملك لأنصار الإسلام في باكستان سوى الدعاء، وهو في مثل تلك الحالة أضعف الإيمان.
بين الخرافة والغرور:
وبلغ الغرور بمحمد أيوب بعد فوزه الصوري في ذلك الانتخاب حده الأقصى.. وكان ذلك في آخر رمضان من عام 1957 إذ حل عيد الفطر في يوم الجمعة، فكبر على الرئيس أن يجتمع على المسلمين خطبتا الجمعة والعيد في يوم واحد، وذلك بنظر الخرافيين في باكستان نذير بإنهاء الحكم القائم، لذلك بادر بمحاولة تغيير موعد العيد فأصدر الأوامر بوجوب إفطار المسلمين يوم الخميس، مع التهديد بالاعتقال لكل من يخالف ذلك الأمر، ولم يكن للميدان غير فارسه المعلم، فأعلن الأستاذ رحمه الله استنكاره لتلك الخرافة، وأكد للمسلمين بأن موعد العيد موقوف على ثبوت الرؤية، وليس لأحد أياً كان مركزه أن يقدم في ذلك الموعد أو يؤخره بعد الرؤية الثابتة بالشرع.. واعتبر محمد أيوب هذا التصريح من المودودي تحدياً لمقامه وإلغاء لكلامه، فأمر بإعادة اعتقاله، حيث لبث في السجن شهرين، غادره بعدهما ليشهد عقيب أشهر قليلة سقوط الطاغية وزوال عهده الأسود.. ولكن لم ينته إلى هذا المصير إلا بعد أن مهد السبيل لخليفته ذي الفقار بهوتو، ومجيب الرحمن، اللذين قضيا على وحدة باكستان.
نظرة في مؤلفات الإمام:
وطبيعي أن القارئ الذي يريد الإحاطة بشخصية الإمام المودودي، لن يكفيه الاطلاع على ما كتبه عنه وعن جهاده الكاتبون، حتى يرجع إلى مؤلفاته نفسها فيُنْعِم فيها الفكر والتأمل، ويتغلغل من خلالها في أعماق تلك الشخصية الفذة، التي أعدها القدر إعداداً خاصاً لإيضاح معالم الإسلام، ولإيقاظ الوعي لحقائقه الجامعة المانعة على ضوء العصر، فكان بها أحد المجددين لهذا الدين..
ولننظر الآن في عنوانات بعض هذه المؤلفات التي تتجاوز المئة عدداً، والتي ترجم بعضها إلى أكثر من أربعين لغة:
1 ـ الحضارة الإسلامية: أصولها ومبادئها.
2 ـ نحن والحضارة الغربية.
3 ـ الإسلام في مواجهة التحديات المعاصرة.
4 ـ مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة.
5 ـ في محكمة العقل.
6 ـ الرسول والرسالة.
7 ـ حقوق الزوجين.
8 ـ تحديد النسل.
9 ـ مبادئ الإسلام.
10 ـ أسس الاقتصاد بين الإسلام والنظم المعاصرة.
11 ـ الحجاب.
12 ـ الإسلام كما جاء به الرسول.
13 ـ نظرة الإسلام السياسية.
14 ـ نظرة فاحصة على العبادات الإسلامية.
15 ـ موجز تاريخ تجديد الدين وإحيائه.
16 ـ منهاج الانقلاب الإسلامي.
17 ـ استفسار ذو بال.
18 ـ المصطلحات الأربعة في القرآن.
19 ـ الإسلام والجاهلية.
20 ـ منهج جديد للتعليم والتربية.
21 ـ معضلات الإنسان الاقتصادية وحلها في الإسلام.
وفي هذه العنوانات البارزة لمضموناتها تصوير جامع لطاقة فكرية تناولت أسس الحياة الإنسانية في ضوء الإسلام. فالحديث عن الحضارة الإسلامية ـ في الكتاب الأول ـ يتطلب علماً يتسع لأبعاد الحياة البشرية وموقف الإسلام من كل جزء فيها، ولا يقل عن ذلك أهمية تحديد موقف الإسلام من حضارة الغرب، التي يراد فرضها على المجتمعات الإسلامية، ثم عناصر الصمود الإسلامي في وجه التحديات العصرية.. وهكذا نلاحظ من مجموع هذه الأسماء التي اختارها المؤلف لكتبه طابع الشمول الذي يتصف به ذلك العقل الجبار، الذي ترك بصماته عميقة في ثقافة العالم الإسلامي المعاصر.
ولا عجب فقد رأينا من حديث الأستاذ عن مصادره الثقافية ما أقنعنا بأن لديه من نعمة الله وتوفيقه القدرة على معالجة مختلف المشكلات التي تشغل الفكر البشري في هذا الزمن، ومواجهتها بالحلول الشافية المستمدة من كتاب الله الخالد وسنة رسوله الذي علمه ما لم يكن يعلم، وزوده من الحكمة بكل المؤهلات التي تؤكد أنه الرحمة المهداة..
خلوات مباركات وكرامات:
ومع أن الميزة الأولى لهذه المؤلفات سواء الصغير منها أو الكبير، هي الجدة والعمق والنسق المنطقي، الذي يخاطب عقل القارئ وقلبه جميعاً، فقد لفت انتباهي منها حديث الأستاذ الحامدي عن كتاب " مبادئ الإسلام " الذي يقول أنه ترجم إلى ثلاثين لغة، وصدرت منه ملايين النسخ، وكان من المهتدين به شاب أسباني كتب إلى الأستاذ عقيب قراءته إياه في ترجمته الإسبانية يقول:
" إنه كان قد اختار حياة الترهب فما إن اطلع على كتابه هذا حتى أُخِذَ به وانطلق من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.. لا إيمان الوداع بل إيمان من لا يخلد إلى الراحة حتى يُخضِع الصليب في أسبانية لله الواحد الأحد الصمد (8).
ولئن صح ما يقوله الأستاذ الحامدي رواية عن الإمام المودودي بأنه قد أتم تأليف هذا الكتاب لإدارة التربية والتعليم في حيدر أباد، خلال أسبوع واحد فقط ، فلا أشك أنها كرامة قد قيضها له الله ، من نوع تلك الكرامات التي كانت توافي شيخ الإسلام بن تيمية فينتج من الأعمال العلمية في اليوم الواحد ما يعجز الآحاد من العلماء في الأسابيع والأشهر..
ولم يلتق المودودي وابن تيمية على هذا فحسب بل كان بينهما أكثر من جانب مشترك واحد. فقد كان السجن لشيخ الإسلام خلوة تساعده على المزيد من التأمل والإنتاج العلمي؛ وكذلك المودودي إذ بارك الله عليه في سجنه ، فقدر له إخراج العديد من الكتب الصالحة ، منها كتابه المشهور عن " الربا " و " مسألة ملكية الأرض في الإسلام " كما أتم المجلد الأول من تفسيره الذي يسميه " تفهيم القرآن " في غياهب السجن أيضاً.. وقد شاء الله أن يشاركهما في هذه الفضيلة الشهيد سيد قطب، إذ أتاحت له خلوة السجن أن يكتب أروع مؤلفاته في ظلماته.. وصدق الله القائل في كتابه الكريم:
[ فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً ] (9).
دسائس وأحقاد:
كثيرون الذين قبلوا أفكار المودودي كلها عن قناعة لا يعتريها الشك، وفريق آخر رفضها كلها لغير سبب سوى أنها تخالف ما ألفه من تهاويم لا يريد تغييرها، وآخرون تجاوزوا في رفضها حدود الأخلاق، فلم يكتفوا باستنكارها، بل راحوا يؤلفون المفتريات حول صاحبها، ويصدرون الفتاوى بتكفيره، ولا يتورعون أن يقوّلوه ما لم يقل.. وكان بين هؤلاء مشايخ لهم ألقاب علمية، ولهم مؤلفات.. ولكنهم استهوتهم الدنيا فأعلنوا انحيازهم إلى بعض مراكز القوى، التي تشن غارات القتل على دعاة الإسلام، وتعمل ليل نهار لمحاربة شريعته..
وفي مقال ضاف كتبه السيد زهير الشاويش عن أبي الأعلى المودودي في جريدة اللواء الأردنية يتحدث عن بعض هؤلاء الذين يدينون بكراهية المودودي، ممن ينتسبون إلى العلم في الهند، فينسب إلى أحدهم قوله:
" إن المودودي يتكلم في أمور الدين ويفتي الناس وهو لم يتخرج في مدرسة شرعية.. ويتكلم في أمور الدعوة ولم ينتسب إلى طريقة صوفية !..
ويذكر لقاء آخر مع عالم هندي كبير كان أكثر اعتدالاً من ذاك في كراهية المودودي، وقد صرح له بأن المستقبل في الهند وباكستان هو للجماعة الإسلامية بشرط أن تعدل موقفها من السادة العلماء.. وليس له على المودودي من مآخذ سوى عدم التعاون مع العلماء ويعتبر ذلك منه غروراً يحسن أن يقلع عنه ويقدم الاحترام اللازم لهم !.
ثم يقول: والظاهر أن المودودي لم يعدل موقفه من هذا الشيخ وأضرابه فقام بتأليف رسالة يكفره بها.(10)
وأنا أيضاً قد لقيت شيوخاً من هؤلاء يحسنون الكلام في كثير من محتويات كتب الفقه والحديث، ويعتبرون كل كلام خارج حدودها نوعاً من التجديف، لأن مؤلفي تلك الكتب قد استوفوا بنظرهم الكلام عن كل شيء.. فإذا ذكر لديهم المودودي لم يحسنوا البيان المقنع، فعمدوا إلى مثل هذا الطعن الذي قرأته في جوانب الشيخ الأول، وقد يخشى بعضهم أن ترد مطاعنه بما يفضح جهله، فإذا هو يكشف عن حسده للمودودي، لانتشار آثاره، ويعبر عن نقمته الشخصية لإعراض المودودي عن أمثاله.
وقد قرأت رسالة هذا الشيخ فلم تزدني به علماً لأني عرفته من قبل واحداً من أعوان الطواغيت الذين يبيعون دينهم بدنيا غيرهم.. بيد أن الذي هالني منها جرأته على تحريف الكلم عن مواضعه، وإقدامه ومن معه على إصدار الفتاوى التي تصل إلى حد التكفير.. بحق الرجل الذي أضاء الله به الظلمات..
وشد ما أضحكني دسائسه على المودودي وتهوين أمره لدى علماء المملكة ورابطة العالم الإسلامي، ظناً منه أنه يحط من مكانته لديهم.. وقد فاته أن مكانة المودودي بناها إخلاصه للحق، وما فتح الله عليه من العلم الذي قدم به الحلول لمشكلات الإنسان في هذا العصر. وما أحكم قدر الله الذي ألهم مقدري فضله في المملكة السعودية أن يمنحوه جائزة الملك فيصل، وما أروع استقبال المودودي لذلك التكريم حين حول الجائزة بأسرها إلى حساب الجماعة الإسلامية، لتنفقها في خدمة الدعوة إلى حقائق الإسلام !!.
الحوار البناء:
بقي أن نحدث القارئ عن ذلك الفريق الآخر الذي حفظه الله من نزغات الشيطان، فوقف من الإمام المودودي وأفكاره موقف المؤمن الذي يراقب الله في حكمه على الأحداث والأشخاص، فكان نظره إلى أعمال المودودي موزوناً بقسطاس العدل والإنصاف.
لقد وقف هؤلاء على أفكار هذا الرائد المجدد، فاقتنعوا بأكثرها، وأعطوه حقه من التقدير والثناء ، ووقفوا من قليلها موقف الغيور الناصح، الذي يرى في هذا القليل بعض الشطط عن الأصول التي التزم بها الإمام في بحوثه الأخرى، فكان عملهم نوعاً من التعاون على تأييد الحقيقة التي هي رائد الجميع، ولا جرم أنه اجتهاد مأجور أخطأ أو أصاب.
من هؤلاء الفضلاء المنصفين سماحة الأخ الشيخ أبي الحسن الندوي، صاحب التآليف، التي قلت وأقول إنها مع مؤلفات المودودي، المركب الذي باركه الله ليكون دليل الجيل المسلم المعاصر في مسيرته الجديدة الهادية إن شاء الله .
في كتاب " التفسير السياسي للإسلام " الصادر في رمضان 1398هـ يناقش الأستاذ أبو الحسن الندوي بعض أفكار أخيه المودودي، فيترجم إعجابه الكبير " بمقالاته القيمة التي كان يكتبها في مجلته الغراء " ترجمان القرآن " في نقد الحضارة الغربية ونظام الحياة الغربي، التي تتميز بأسلوبها الهجومي ونقدها اللاذع لحركة التقدمية والتجدد وفكرة القومية المتطرفة، التي نجمت وباضت وفرخت في حضن الثقافة الغربية، وكذلك موضوعات وقضايا في صميم الشريعة الإسلامية... وسطر قلمه مقالات قوية مؤثرة معضدة بالدلائل أمثال " الربا " و" الحجاب " و" الجهاد " و "الأضحية " و " الرق " و " حجية الكتاب والسنة " و " الأحوال الشخصية " وما إليها من المسائل الهامة .." حتى ينتهي إلى القول بأنه " سيكون من الإجحاف الكبير إذا لم نوف حقه من الاعتراف بما لعبته مقالاته هذه... ومؤلفاته ووسائله المستقلة من دور رائع في إعادة الثقة إلى الطبقة الذكية المثقفة ثقافة غربية بالإسلام، وبقيمه وتصوراته وفي تخليصها من مركب النقص ونفسية الهزيمة الداخلية حيال الإسلام وتعاليمه، مما جعل بعض الكتاب يدعونه " متكلم الإسلام ".
النقد البريء:
ومن ثم يقف على بعض النقاط التي يرى شذوذها عن الخط الذي يطريه في كتابات المودودي، فيقول: " إن الأستاذ المودودي من خلالها " يمارس عملاً آخر نستطيع أن نسميه " الصياغة الجديدة للفكر الإسلامي " أو " الصياغة الجديدة للإلهيات الإسلامية ".
ويشرح ذلك بأنه يعني كتابه " المصطلحات الأربعة في القرآن " الذي فسر فيه تلك المصطلحات تفسيراً خاصاً يتميز بالطابع السياسي، ويدور حول " حاكمية الإله " و " سلطان الرب " يحدد علاقة العبد بربه في حدود... " تأسيس " الحكم الإسلامي " و " إقامة الحكومة الإلهية " فحسب..
والمصطلحات الأربعة التي يدور حولها كتاب الإمام المودودي هي: الإله والرب والدين والعبادة ، وخلاصة ما ذهب إليه بشأنها هي أنها المحور الذي يدور الكيان الإسلامي كله، وأن مفهومها الصريح الواضح في الحقب الأولى قد تغير في تصور المسلمين اللاحقين تغيراً أفقدها روحها وفاعليتها.. حتى باتت العقيدة في الألوهية والربوبية محدودة الأثر في حياة جماهير الأمة، بل أقرب إلى الموت، لا تحرك ساكناً لتنفيذ شريعة الله ، وبذلك استحالت العبادة حركات لا مردود لها في نطاق الطاعة الواجبة لأوامر الله ونواهيه..
فالمسلم في عبادته الخالية من روح الوعي لحقائق الإسلام والعمل بها شأنه كشأن الخادم الذي يكتفي من تعظيم مخدومه بترديد اسمه والقيام بين يديه دون أن يقوم بتنفيذ أي من تعليماته الحاسمة.. وفي تمثيل آخر يشبهه بالمريض الذي كتب له الطبيب الحاذق وصفة شافية، لكنه بدلاً من استعماله الدواء الموصوف اكتفى بقراءة الوصفة وترديد كلماتها...
ولكي يتم القيام بمضمون المصطلحات الأربعة بنظر المودودي لا بد من الجمع بين التلبس بالعقيدة السليمة في الألوهية والربوبية والتزام العبادة الحقة مع النهوض بواجب التنفيذ لأوامر الله ، التي في رأسها السعي لإقامة حكم الله في الأرض، وإزالة ظلمات الشرك عن عباده.. حتى ليجعل أركان الإسلام الأربعة بعد الشهادتين.. مقررات تدريبية لتحقيق ذلك الهدف.
ومأخذ سماحة الشيخ أبي الحسن الندوي على هذه الأفكار المتحدة عند المودودي وسيد قطب، أنها تفرغ العبادة من صفتي الذل والحبالتي يقرر شيخ الإسلام ابن تيمية أنها ـ العبادة ـ " تتضمن معنى الذل ومعنى الحب إذ تتضمن غاية الذل لله تعالى بغاية المحبة له.." وهو مأخذ لا مندوحة من النظر إليه، لأن تجربة المؤمن الذاتية، بل اليومية، تؤكد له أن علاقته بربه قائمة على الرغبة والرهبة، وأن ثمة لحظات من التجلي تمر به فتغمره بحبه، حتى ليكاد يذهل في غمار نشوتها عن كل معاني الرهبوت والجبروت...
ولكن كيف فاتت عقل المودودي البعيد الغور هذه الحقيقة ؟.. ألم يحسها في ذاته قط ؟!.. أولم يلاحظها في والده الذي آثرها على متاع الدنيا كله ؟!!.
والكلام عن الحب متصل حتماً بموضوع التصوف السليم الذي لا يزال بصاحبه حتى تصفو روحه من كدورات الأرض فتتألق بوهج الحب الأعلى.
التصوف بين الخير والشر:
والحق أن للأستاذ المودودي رأياً جميلاً في هذا النوع من التصوف، الذي لا يتجاوز سبيل المجاهدة لنوازع النفوس، ورياضتها على حب الله وطاعته، للتحقيق بالتزكية التي قرن الله بها فلاح المؤمن في سورة الشمس. فإذا تعرض للتصوف بالنقد فإنما يريد به ذلك الذي يشاهده في بعض مدعيه من الذين يتولون تخدير الأتباع يقطعهم عن الاهتمام بشئون الدنيا، حتى يصبح التصوف بهذا الضرب من السلوك عبارة عن مدرسة مهمتها تخريج الكسالى وأحلاس البطالة.
حتى والده.. ذلك الرجل الطيب النظيف.. ألم يدع الدراسة العصرية خوفاً من تلويث عقله بثقافة الإنجليز ؟!. ثم ألم يرفض عمله في المحاماة حفاظاً على دينه من الانحراف إلى غير طريق العدالة؟!..
وماذا نتج عن هذه السلبية سوى البؤس والحرمان وتعريض الأسرة كلها للتعاسة والشقاء !!...
إن الثقافة العصرية ضرورة لا بد منها لحماية الإسلام من طغيان أهلها، وقد كان على والد الإمام أن يحصن قلبه بما ثقفه من العلوم الإسلامية إلى جانب تلك الروافد الأجنبية، فتكون له قوة لخدمة دينه وأمته كما فعل ولده النابغة !...
وكذلك المحاماة، فإذا كانت مشبوهة السلوك لدى المستهترين من معظم أهلها، فلم لا يرفعها عن حضيضهم، فلا يدافع إلا عن حق، ولا يجابه إلا الباطل، وبذلك يخدم الإسلام من خلال المحاماة، إذ تكون استقامته في مهنته بمثابة الدعوة إلى ملته !!.
ومهما نختلف في موضوع التصوف فالاتفاق واقع على أنه ليس لوناً واحداً، وليس أصحابه على سواء.. وأي منا لا يعلم أن كثيرين من رجال التصوف المستقيم قد نهضوا بالعظيم من إحياء الجهاد في سبيل الله ، كما نعلم أن كثيرين من مدعي التصوف قد سخروا ويسخرون طاقاتهم وأتباعهم لخدمة الطواغيت، فيعطون بذلك الحجة المريبة لأعداء الإسلام.
وأي مؤمن سليم الرؤية ينكر على الأستاذ المودودي قوله عن غلاة الطرقيين في كتابه " واجب الشباب المسلم ":
" وإن تعجب فعجب حال الصوفية فلا تجد بينهم من عمل بالإسلام الحقيقي وعلمه إلا عدداً يسيراً، وأما معظمهم فكانوا يدعون إلى تصوف مزاجه الفلسفات الإشراقية والمانوية والرواقية، التي اختلطت بالتصوف حتى لم تبق له علاقة مع عقائد الإسلام وأعماله الخالصة إلا القليل...".
وهل نحن بحاجة إلى التذكير برواسب هذا المزيج الهندي الفارسي واليوناني، في مذاهب أولئك الطرقيين، الذين شحنوا أذهان مريديهم بأفكار الحلاج وابن عربي والتجاني والجيلي، والعشرات من أمثالهم، الذين أصبحوا قادة السواد الأعظم من عامة المسلمين... وأصبحت أضاليلهم أعمق أثراً في قلوبهم من كلام الله ورسوله والأئمة من علماء الإسلام !!.
أما ذلك العدد اليسير من أهل الرياضة النفسية الزكية المستقيمة على طريق الوحي. فقد رأى سماحة الشيخ أبي الحسن مدى تقدير أخيه لهم فيما نقله من كلامه عنهم (11).. فهم موضع احترامه وتكريمه، ولكن هذا لم يمنعه من التوكيد على أن الإقبال حتى على هذا الضرب من التصوف النقي لا يتفق مع مصلحة الإسلام في الظروف الراهنة، فهو بنظره كالماء الذي استيقن المريض ضرره، فيجب عليه تركه على الرغم من إباحته الأصلية (12) وقديماً قال الحكماء " الحكم في الشيء فرع من تصوره " ولاجرم: أن لقسوة الإمام على بعض المتصوفة صلة وثيقة بواقعهم الذي نشهده في كل مكان من بلاد العرب والإسلام، إلا ما رحم الله وقليل ما هم...
تعاون لا تشاحن:
وهكذا القول في تركيز الإمامين المودودي وسيد قطب على الجانب السياسي من موضوع المصطلحات الأربعة، لا يكفي النظر إليه في معزل عن الواقع الرهيب، الذي يعانيه الإسلام تحت سلطان الحكومات الجاهلية، التي لا تدخر وسعاً في تحطيم الطاقات الإسلامية بالقتل والتعذيب، واختراع التهم الباطلة لتشويه سمعة رجال الدعوة.. فذلك هو الذي استقطب تفكيرهما إلى موضوع الحكم حتى أغفلهما عن ناحيتي الحب والذل، اللتين لا كمال لعبادة المسلم بدونهما. وأحسب سماحة الشيخ أبي الحسن، حفظه الله وأمتع بحياته، لو راجع ذاكرته لوجد في معلوماته عن مؤلفاتهما ـ خارج المعالم والمصطلحات ـ ما يؤكد أنهما على رأيه في موضوع الحب والذل..
وعلى ضوء هذا التصور يغدو موضوع الخلاف بين أبي الحسن الندوي وأخويه لا يزيد عن كونه خلافاً لفظياً، واختلاف الرأي.. لا يفسد للود قضية.
كما يقول شوقي....
ونحن على أتم الثقة بأن نقد أبي الحسن للمودودي وقطب لا يعدو أن يكون كما أسلفنا نوعاً من التعاون على البر والتقوى، فالأجر مضمون على كل حال إن شاء الله.
وقد رأينا الإمام أبا الأعلى ـ أعلى الله مكانه في الجنة ـ يولي نقد أخيه أبي الحسن كل تقدير، ويوجه إليه أطيب الثناء. وذلك من منطلق إيمانه بالشورى التي تجعله رحب الصدر لكل نقد بناء ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
كلمة أخيرة:
بقيت نقطتان من موضوع هذا الخلاف أرى من الخير إيضاح غامضهما.
إحدى النقطتين تفسير الشيخ أبي الحسن لكلام المودودي بشأن مفهوم الأمة لمعاني المصطلحات القرآنية الأربعة عقيب الصدر الأول.
فالشيخ يرى في كلام أخيه عن هذه المصطلحات تعميماً يتهم بجهلها طبقات الأمة كلها.. والذي نراه أن الأستاذ المودودي إنما أراد بوصفه ذاك سواد الأمة دون أئمة العلم فيها، وهي قوله الحق، لأن كثرة المسلمين شغلت عن تلك المعاني العلوية بالزلزال التي خضت بها الأرض، وبالتطورات الاجتماعية والثقافية التي غزتها من كل جانب، فعزلتها عن حقائق دينها، حتى كان أكبر هم العلماء الأعلام ضبط مسيرة الشعوب الإسلامية في نطاق الأصول التي تحفظ عليهم انتمائهم العام...
وقد رأينا سماحة الشيخ كذلك يكاد يجزم باستمرار توافر العلم الجامع المانع لآيات الكتاب المبين، مع أنه يعلم أن بين كبار رجال علماء الإسلام من تعذر عليه أن ينفذ إلى أبعاد الكثير منها، فاضطربت رؤيته حتى أنكر ما يعتبر اليوم من بديهيات الأمور. فهو مصر مثلاً على أن الأرض ساكنة لا تدور، مع أنه يقرأ في كتاب الله ذكر الأرض قبل كل آية أخبر الله سبحانه عن حركة الشمس والقمر بقوله الحق: [ وكل في فلك يسبحون ] (سورة الأنبياء وسورة ياسين)، وهو كذلك متشبث بالظن أن الكواكب من متعلقات السماء الدنيا، حتى بعد أن هبط الكفار على سطح القمر، وأرسلوا مكتشفاتهم الصناعية باتجاه المريخ والزهرة وزحل !..
ويفهم كذلك من كلام سماحته ـ ص 40 ـ أن القول بخفاء معاني بعض الآيات ينافي إخباره تعالى بحفظه القرآن لأن " الوعد بالحفظ في موضع الامتنان وتذكير الفضل والإحسان يستوجب الفهم والشرح " وعندي أن هذا التقرير خارج حدود المحكمات من آيات الأحكام يتنافى مع قوله تعالى آخر سورة " فصلت " [ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ] وهو إخبار صريح بأن في القرآن أسراراً يعجز العقل عن الإحاطة بها إلا على ضوء الكشوف العلمية، التي تبرز كل يوم جديداً من كنوز هذا الكتاب الذي لا تنفد عجائبه..
وما أحكم قول القائل:
وكل العلم في القرآن لكن تقاصر عنه أفهام الرجال
أما النقطة الثانية فحول رأي الشيخين المودودي وقطب عن مفهوم العبادة والحكم في المصطلحات الأربعة. وقد رأيت أن أعرض لرؤيتي في الموضوع فإن كان صواباً فمن توفيق الله ، وإلا فمن نفسي وأستغفر الله .
1 ـ يقرر ربنا تبارك اسمه أن الغاية من خلقه الثقلين إنما هي عبادته وحده، فيفهم من ذلك أن كل حركة وسكنة من وجودهما داخلة في نطاق العبادة، ولكي تكون العبادة مقبولة وموافقة للحكمة التي تحدد غاية الخلق يجب أن تكون خالصة لله ومنسجمة مع الوحي الإلهي. أي كما يقول الفضيل بن عياض يجب أن تجمع بين الإخلاص والصواب.
وإذن فلن تكون العبادة قاصرة على أركان الإسلام الخمسة، ولا على أركان الإيمان الستة، بل شاملة لكل عمل يأتيه المؤمن وحسبنا أن نتذكر هنا قوله صلى الله عليه وسلم عن الإيمان أنه " بضع وسبعون شعبة أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق..." فإماطتك الأذى عن الطريق رغبة في مرضاة الله من فروع الإيمان ولا عبادة بغير الإيمان.
2 ـ ويزيد ذلك إيضاحاً قول ربنا تبارك اسمه لنبيه: [ قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين ] (الأنعام) وهو خطاب يعم الرسول صلى الله عليه وسلم والأمة كلها من ورائه، فيعلمهم أن وجودهم كله ينبغي أن يكون في الاتجاه الذي يحبه الله ، يستوي في ذلك أنواع العبادات المحضة ، والأعمال العامة، التي تتحول بنية الطاعة إلى عبادة.
3 ـ أن الله جل ثناؤه يقرن نصره لعباده بطاعتهم إياه فيقول: [ ولينصرن الله من ينصره... الذين إن مكاناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ](الحج) ونصر العبد لربه إنما هو استغراقه في طاعته، حتى يكون ذلك الرباني الذي ينسجم وجوده كله مع مرضاة ربه، كما ورد وصفه في صحيح البخاري، يقول صلى الله عليه وسلم عن ربه " .. وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها. وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (13)..".
فهذا العبد السعيد لم يكتف بالفرائض حتى ضم إليها النوافل، فهو يتتبع في عمله كل ما يقربه إلى الله. وفي فتح الباري نقول كثيرة في شرح هذا الحديث، ومن أجملها قول بعضهم: " لا تتحرك له جارحة إلا في الله ولله ، فهي كلها تعمل بالحق وللحق " ومن هنا كان استحقاقه للإجابة والإعاذة، وهما مفتاح النصر الذي وعد الله به ناصريه..
ونظرة أخيرة إلى عاقبة هذا النوع من الطاعات تؤكد لنا أن إقامة حكم الله في الأرض لقيادة الإنسانية إلى السبيل الأقوم، ولحمايتها من الانحراف السالب للأمن والعدالة والكرامة، حقيقة بأن تكون هي غاية العبادة بمعناها الشامل لكل تصرفات المؤمن..أو على الأقل لا يعتبر القائل بذلك مجانباً لسبيل المؤمنين.
ونحن لا نستطيع استيعاب هذه القضية على الوجه الصحيح ما لم نستحضر واقع الإسلام في ظل الجاهليات القديمة والحديثة، والخطر الهائل الذي يهدد الإسلام والمسلمين بالزوال، إذا لم يكن لهم الكيان الذي تحكمه شريعة القرآن ، على النحو الذي تصوره الآية الكريمة التي نحن بصددها.. فأنا إذن مع الإمامين المودودي وسيد في تركيزهما على موضوع الحكم، ولكني لا أعتبر حديثي هذا رداً ولا نقاشاً للشيخين الأعزين الهضيبي تغمده الله برحمته، وأبي الحسن أمد الله بحياته.. ولكنه حوار أخوي أرجو عليه من الله العذر والأجر.
والحمد لله رب العالمين، الذي جعل كتابه المبين حجته العظمى إلى يوم الدين.. وإياه نسأل أن ينفعنا بجهود المودودي وسيد وابي الحسن وإخوانهم أجمعين، وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير ما يستحقه من فضله المصلحون المخلصون...
الهوامش:
(1) في خطاب من أمير الجماعة الإسلامية إلى المؤلف يقر كل ما كتبناه عن الفقيد إلا أنه يتوقف عند هذه الفقرة عن دراسته الابتدائية وحفظه موطأ مالك، وقد نقلنا الخبرين من كتاب الأستاذ الحامدي ص6.
(2) المرجع نفسه ص7 .
(3) بتصرف عن كتاب الحامدي ص18.
(4) المرجع نفسه ص19.
(5) المرجع نفسه ص 20.
(6) من دراسة مكثفة في مجلة " الأمان " عدد 35/ 7 ذي القعدة 1399 ص8.
(7) ص64 من كتابه " الإمام أبو الأعلى المودودي " ط المكتبة العلمية بلاهور.
(8) كتاب الحامدي ص26.
(9) سورة النساء الآية 19.
(10) أنظر المقال في جريدة اللواء الأردنية ت24/10/79 ص 3.
(11)أنظر ص 117 من " التفسير السياسي للإسلام ".
(12) أنظر ص 117 من "التفسير السياسي للإسلام ".
(13) من حديث أخرجه البخاري في صحيحه أنظر كتاب " الرقائق " ص 344 ط السلفية ج11.