الأستاذ انطون مقدسي
مفكر الطليعة السورية
جمال باروت
ليس من غيابٍ يكشف بهاء الحضور مثل غياب أنطون مقدسي شيخ المثقفين السوريين، الذي لعب على مدى أكثر من خمس وعشرين سنةً على الأقل، ما يمكن أن نصفه مبدئياً بدور «المثقّف» أو ربما بصورةٍ أدق «الأستاذ» بمعنى جيل الأساتذة الذي انتمى إليه المقدسي. يكاد ألا يكون هناك أديب وكاتب وناقد ومشتغل بقضايا الفكر ومترجم من مختلف أجيال المثقفين في سورية إلا ويذكر شيئاً مما قاله المقدسي له عما ينتجه. وعلى رغم أن المقدسي أشرف على إصدار ما لا تقل نسبته أولياً عن ستين في المئة من الحجم الكمي للكتاب السوري، فإنه نفسه لم يترك كتاباً معتبراً في المجالات التي كان أستاذاً فيها، لكنه ترك عشرات المقالات والدراسات المعمّقة، التي كان في الوقت نفسه متردداً أو بالأحرى حاسماً ونهائياً في عدم طبعها، ويمكن أن تشكل ما لا يقل عن دزينةٍ من الكتب، فضلاً عن كتابٍ وحيدٍ يحمل عنواناً مباشراً «حرب الخليج: اختراق الجسد العربي».
يضيء ذلك جوانب من شخصية الراحل، فحين كنت أسأله باستمرارٍ عن أسباب عزوفه عن نشر دراساته في كتبٍ، بصفته شيخ الكتاب السوريين بلا منازعٍ، كان يجيب دوماً إنه يحتاج إلى مراجعاتٍ. عدت في هذه العجالة إلى ما تبقى من حوارٍ مسجلٍ تم بيني وبينه في 3-11-1995 على هامش ندوةٍ عن القاص السوري الراحل جورج سالم، وتمّ في بيت سالم نفسه، واتفقنا على أن ينشر بعد وفاته. ووصل به الأمر إلى درجة أن نصه المعمق عن مفهوم الحداثة، والذي كتبه في الواقع كله في صيغة أسئلةٍ - هي بحد ذاتها مقطع مركز من نص - وأجوبةٍ، ونشره أدونيس في «مواقف» قال إنه يحتاج إلى مراجعةٍ لم نستطع تقدير جوانبها لكنه كان متشبثاً بها.
كان المقدسي مجهداً في الحوار التلقائي وفيه تعليقاته وآراؤه المبعثرة حول وقائع وأحداثٍ وشخصياتٍ وتواريخ خاصة واتجاهات أفكارٍ تمتد من الفكر القومي إلى مناهج تعليم الفلسفة وعلم النفس إلى النقد الأدبي وفلسفة التاريخ والصوفانية ومصير الأمة والمسيحيين والانقلابات والسياسة ومفهوم المثقف والحداثة.... وصولاً إلى مرحلة ما بعد الحداثة التي لا ريب لديّ أن المقدسي كان من أوائل من كتبوا وتحدثوا عنها بعمقٍ كبيرٍ لا يزال يتمتع حتى اليوم بنداوة الحضور.
أنقل أجواء بعض ما جاء في التسجيل المضطرب، والذي تخللته بعض التدخلات التذكيرية للقاصة ليلى صايا السالم زوجة جورج سالم كي أشير إلى أن الشخصية الثقافية والفكرية للمقدسي كانت متعددة الأبعاد في شكلٍ مدهشٍ، بما مكّنه من فهم الجديد في ملامح الاتجاهات الفكرية والجمالية، وتوجيه جزءٍ من سياسة النشر والترجمة باتجاه تعزيزها. وكانت روح الفلسفة التي تشكل المكوّن الأساسي في عقل المقدسي تلف ذلك كله. وفي تلك الجلسة جرى تداول نشر الأعمال الكاملة لجورج سالم على أن يكتب المقدسي بكونه صديق عمره شخصياً وثقافياً، المقدمة، وقد تأخر الأستاذ في كتابة ذلك مدةً لا تقل عن ستة عشر عاماً، لكنه كتبها أخيراً.
وربما كان ما كتبه عن جورج من آخر مقالاته المعمقة التي لها صلة بحركة الثقافة نفسها.
ما لا يعرفه الكثيرون عن الجانب العملي الفكري - السياسي من شخصية المقدسي، وها أنا أضيء بعضاً منه، هو أن المقدسي الذي قطع لأسبابٍ خاصةٍ دراسة الفلسفة في السوربون في أوائل الأربعينات من القرن الفائت، وعاد مدرساً لعلم النفس والفلسفة في ثانوية جودت الهاشمي في دمشق، وقبلها في حمص، كان المنظّر الأساسي للحزب العربي الاشتراكي الذي أسسه أكرم الحوراني في العام 1950. وأكد لي أنه كتب نظامه الداخلي ودستوره من ألفه إلى يائه. وفي ذلك الوقت كان هناك انقلاب أديب الشيشكلي الذي اعتبره بعض كوادر الحزب انقلابه، ووجد فيه المقدسي «الرز مخلوطاً بالبصل» على حد تعبيره. إبان ذلك الانقلاب سيحضر أدونيس في شكلٍ مستقلٍ جلسةً عرض فيها الشيشكلي تسليم السلطة السياسية على الحزب السوري القومي الاجتماعي، كما سيحضر المقدسي في شكلٍ مستقلٍ جلسةً عرض فيها الشيشكلي على العربي الاشتراكي الاعتماد عليه في السلطة مكان حزب الشعب والاحزاب التقليدية «الليبرالية». خلاصة المقدسي كانت الرفض، وأن الفيلسوف لا يمكن أن يكون سياسياً، وأن الدكتاتور هو الديكتاتور، ولا يوجد تعريف آخر له. هذا هو بالحرف ما جاء في استرسالات المقدسي.
ما يهم هنا أن المقدسي الذي كان ينتمي نسبياً إلى جيل الأساتذة في العمل القومي مثل زكي الأرسوزي وميشيل عفلق لم يسر في طريق البعث. كان معجباً بالتكوين الفلسفي العميق للأرسوزي وبصدقيته الشخصية السلوكية لكنه يأخذ عليه تورم الشخصية. أما تقويمه لميشيل عفلق فكان شديد القساوة الممزوجة بنوعٍ ما من الاشمئزاز، وربما درجة خفيفة مهذبة من الكراهية. ترك المقدسي العمل السياسي ليتفرغ إلى عمل الأستاذ أو المثقّف. وشكلت الثقافة لديه الحقل الذي يتم البذر والحصاد فيه. وفي آخر اكتهاله أخذ يكتب الرسائل إلى الرئيس بشار الأسد، وكان من أبلغها في خلاصة عمره و«حكمة» جيله من الأساتذة رسالته إلى حفيده. ولقد
رحل أنطون غير أن بصماته فيما إذا ما تمعنت فيها أجيال المثقفين السوريين ستبقى كبيرةً، وإن كانت غير مرئيةٍ حتى اليوم.
الحياة 2005/01/07