ابن خفاجة الأندلسي و"الجبل"
ابن خفاجة الأندلسي و"الجبل"
د.عثمان قدري مكانسي
مرّ ابن خفاجة الأندلسي ليلة بجبل .. فتخيله رجلا معمرا قد شهد عهودا وعصورا .. وعرف الحياة خبيئها وظاهرها ، والتقى الصالح والطالح ، واللص والشريف ، والناسك والدنيويّ .. ومل من الحياة من طول ما خبرها ..
تظهر سمة التشخيص واضحة في أبيات القصيده ؛ إنه إسباغ الحياة على الأمور المعنوية أوعلى الجمادات و تجسيمها و مخاطبتها مخاطبة الكائن الحي، و هي سمة انتشرت في الشعر العربي عامة والشعر الأندلسي خاصة . ومن أبرز الأندلسيين وصفاً " ابن خفاجة " ..
و يظهر من السمات أيضاً أن معظم شعر وصف الطبيعة جاء جميلاً موشّى ، في أبيات قليلة قلت القصائد فيها. كما أنّ معظم شعر الطبيعة جاء سهلاً واضحاً لطيف السبك ، لا تعقيد فيه ولا غرابة .
ونجد هذا الفن – الوصف - قد امتزج في معظم الأحيان بموضوعات تقليدية أخرى كالغزل و المدح و الخمريات، وكان بديلاً عن وصف الأطلال والحمُر الوحشية ووصف الناقة في استهلال القصائد ، حتى رأينا امتزاج الذات النفسية بالطبيعة الأندلسية . فكأنما الطبيعة هي النفس البشرية ، والنفس البشرية هي الطبيعة .
بعض أبيات ابن خفاجة في وصف الجبل :
وأرعـنَ طـمّاحِ الذؤابةِ ، يَـسدُّ مهبَّ الريحِ من كلّ وجهةٍ وقـورٍ عـلى ظَهرِ الفلاةِ ، كأنهُ يـلـوثُ عـليهِ الغيمُ سُودَ عمائمٍ أصختُ إليهِ وهوَ أخرسُ صَامتٌ فـما كان إلا أن طوتهم يد الردى فحتى متى أبقى ويظعن صاحب وحتى متى أرعى الكواكبَ ساهرًا | بَاذخٍيُـطـاولُ أعنانَ السماءِ ويـزحـمُ لـيلاً شُهبهُ بالمناكب ِ طـوالَ الـليالي مُفكِرٌ بالعواقبِ لها منْ وميضِ البرقِ حُمرُ ذوائبِ فـحـدثني ليلَ السُرَى بالعَجائبِ وطارت بهم ريحُ النوى والنوائبِ أودّع مـنـهُ راحـلا غيرَ آيب فمن طالعٍ أُخرى الليالي وغارب | بغاربِ
ترجمة الشاعر :
أبو إسحاق إبراهيم بن خفاجة، ولد في (شقر) وهي مدينة منعزلة في شرقي الأندلس، عام 450 للهجرة عاش حياة هادئة, منقطعاً إلى اللهو في شبابه , ولم يتولَ عملاً من الأعمال، وإنما فرغ نفسه للشعر.
وقد اشتهر بوصف الطبيعة فلُقب : " الشاعر البُستاني “.
ولُقب أيضاً ب " صنوبري الأندلس " ليقابل صنوبري المشرق الذي شابهه في شعره واهتماماته. توفي عام 523 ،
عاصر المرابطين الذين أنقذوا الأندلس من القشتاليين ، ومدحهم غير متكسّب حبّاً بهم وعرفاناً بفضلهم وبطولاتهم وجهادهم .
قل نثره عن شعره مكانة ، فلم يبرَعْ فيه كما برَع في الشعر .
المناسبة :
وصف جبل ، يظهر الشاعر بهذا خبرته في الحياة وملالته من طولها
معاني الكلمات:
أرعن: مرتفع.
باذخ: عال.
طماح الذؤابة: شديد علو القمة.
الغارب: الكاهل.
وقور: من الوقار و الرزانة.
الفلاة: الصحراء الواسعة.
يلوث: يلف.
وميض البرق: إشعاعه.
الذوائب : أطراف الشعر من مقدمة الرأس
. أصخت: استمعت.
السرى: السير ليلاً.
التصوير :
التشخيص : في باذخ ، وقور ، يفكر في العواقب ، العمائم وحمر الذوائب ، والصمت ، والحوار. الكناية : في الطول " يطاول أعنان السماء " . الضخامة في : " ويزحم ليلاً " الموت في " طوتهم .. وطارت " الملل من الحياة في التساؤل " وحتى متى أرعى .."
الاهتمام بالبديع : منها على سبيل المثال :
1- الطباق : أخرس وحدّث . سود ووميض . أبقى ويظعن . طالع وغارب .
2- الجناس الناقص : النوى والنوائب . حتّى متى .
3- الترادف : يسدّ ويزحم . طمّاح وباذخ . وقور ومفكر . أخرس صامت .
4- التلوين : ليل وشهب . وميض البرق وحُمرالذوائب .
ولعل كثرة الصور – إذا جمع بعضها إلى بعض – أرتنا صورة شبه ممتدة ، فكأننا أمام صورة متحركة .
المعاني :
تصوير لحالة الكآبة التي يعيشها الشاعر بعد أن بقي وحده وغادره أترابُه ، فكأنه والجبل يحكيان الغربة والوحدانية القاسية .
فهذه صورة الجبل الذي يمثل الطموح والارتفاع والاعتراض والوقار الصامت الذي يشبه إطراق المتأمل, ثم يأخذ هذا الصامت في سرد ما مرّ به من مشاهد, فهو شخص آخر تتدفق منه الشاعر الإنسانية واضحة معبرة عما في صاحبها .
ونرى إنسانية الجبل تتزايد تدريجاً في القصيدة, فإذا هو يمثل الشاعر نفسه, وهو لا يعبر عن طول الصمود ولذة الخلود ، وإنما يعبر عن استثقاله للحياة ، ووحدته بعد ذهاب إخوانه ويهون من وقع الموت على نفسه التي تفرق وتهلع من ذكره ، وتحاول الهرب من شبحه المخيف . وارتاح الشاعر حين بكى , ووجد في مثيله - الجبل - عزاءً وودعه وهو أقوى نفساً على مواجهة القدر المرسوم الذي لا بد أن يذوقه كل حي مهما طال الزمان به .