جولة في ذاكرة الراحل هاني الطايع
(3)
باسل الرفاعي
باحث في تاريخ سورية الحديث
في عام 1961 م. انتقل هاني الطايع إلى دمشق منتسباً فيها إلى قسم اللغة العربية بكلية الآداب، ومنخرطاً في المزيد من نشاطات جماعة الإخوان المسلمين في العاصمة التي أسرته بعراقتها، ورأى فيها "مركزاً حضارياً متميزاً من مراكز التفاعل العروبي والإسلامي عبر التاريخ"؛ ولقد حدثني الطايع بإجلال كبير عن أساتذته في دمشق أمثال سعيد الأفغاني، أمجد طرابلسي، أديب الصالح، محمد المبارك، وعمر فروخ، معتبراً أن وجوده في هذا الوسط كان بداية خروجه من "قوقعة المحافظة الجانبية الهامشية إلى لبّ النشاط والحركة الثقافية في البلاد".
ولقد ساعد وجود الطايع في دمشق على تعميق صلته بالحركة الإسلامية والحراك السياسي السائد وقتذاك، ومكّنه من متابعة التطورات المتسارعة التي شهدتها سورية في المرحلة التي أعقبت "الانفصال"، من انتخابات نيابية، ومحاولات انقلابية، وصراعات حزبية زادت الحال تعقيداً ووهناً، حتى أتى انقلاب الثامن من آذار عام 1963 م. فكان بنظر الطايع "غير مفاجئ لا للإخوان ولا للمواطنين السوريين".. فيما "أمّن موقف الإخوان الأول من عدم التوقيع على بيان الانفصال، ومواقف الأستاذ عصام بعد ذلك التي لا تحسب لجهة معينة، ومحاولته مدّ الجسور والأيادي لمختلف الفرقاء، أمّن ذلك كله صدمة الساعة الأولى بعد الانقلاب فلم يصب أحد بأذى؛ وعندما صدرت قرارات الحجز والسجن والإبعاد لم ينل أحداً من الإسلاميين شيء من شررها، واستمرت جريدة اللواء الناطقة باسم الإخوان في الصدور، تحمل عناوين باهتة لا تشيد ولا تهاجم، وكانت قيادات الدعوة تأتي إلى الجريدة وتجتمع في الساعات الحاسمة: الأستاذ عصام، عمر عودة الخطيب، نبيل الطويل، سعيد العبار.. يتناقشون ويتشاورون.. وكان الشيخ محمد علي مشعل، أو الشيخ عبد الفتاح أبو غدة يحضران أحياناً، وربما حضر عدنان زرزور في بعض الأحيان.."؛ ويكشف هاني الطايع أن عصام العطار "أجرى بعد قيام الانقلاب لقاءات مع قيادات الحركة الجديدة، وقابل لؤي الأتاسي(1) الذي أثنى على موقفه وموقف الإخوان من الوحدة؛ ويقال إنه (العطار) ذهب وقابل ميشيل عفلق أيضاً، ونحن ما كنا ندري بذلك وقتها، وعندما كان يُسأل في اللقاءات المغلقة للإخوان لم يكن يجيب إجابات قاطعة.. وهكذا مرّت الفترة الأولى من الانقلاب، ثم لم تلبث أن هبّت عواصف الخلاف بين الانقلابيين أنفسهم، وبدأت التصفيات كما هو معروف، فما شُغلوا بنا وقتذاك، ولم تصدر عن الجماعة بيانات أو مواقف محددة تجاه تلك الأحداث، لكننا كنا في حالة احتقان وترقّب، وكان الشعور أننا مقبلون على محنة ووقت عصيب؛ ولم تلبث أن بدأت حوادث حماة، وجرى اعتصام مروان حديد رحمه الله، وأخذت المشاكل في الظهور، وبدأ الشعور بالخطر الإسلامي؛ وأعقب تلك الأحداث وفاة الأستاذ السباعي(2) فكانت جنازته تحدياً كبيراً جداً للحكم لم نملك منه فكاكاً، وكانت جنازة تاريخية بكل المقاييس"!
بيننا وبينهم الجنائز!
يتحدث الطايع عن تفاصيل ذلك اليوم المشهود في دمشق ويقول: "ما إن خرجنا بالنعش من بيت السباعي في المالكي حتى فقدنا السيطرة عليه نهائياً! وبينما كان من المفترض أن تحمل السيارات النعش إلى المسجد الأموي لتخرج الجنازة من هناك، تدفّق شباب الدعوة من كل المحافظات وحملوه على أكتافهم وهم يطلقون شعارات التحدي ونداءات الإشادة بالرجل وبالدعوة وبالإسلام، والناس يملؤون أرصفة الطرقات بأعداد كبيرة: الشيخ الكبير، والإنسان العادي، وطالب المدرسة، والبائع المتجول، وكبار إخواننا في الدعوة يهتفون جميعاً وينادون؛ خرجت دمشق كلها تقول كلمتها من المهاجرين إلى بني أميّة، فكانت الجنازة استفتاء شعبياً عجيباً، وكان الموقف مؤثراً يُذكّر بقول القائل: بيننا وبينهم الجنائز! ووقف الخطباء بعد ذلك على المقبرة، فتحدّث الأستاذ المبارك، والدكتور حسن هويدي، وألقى الحسناوي قصيدته المشهورة، وكان يوماً لا يُنسى في تاريخ دمشق وتاريخ سورية، ورغم ذلك فإن موقف الإعلام الرسمي كان لئيماً جداً، ومع أن الأستاذ المبارك اتصل وقتها بصلاح البيطار رئيس الوزراء ليعطي تعليماته للإذاعة إلا أنها لم تذكره بشيء أبداً، وتوافق أن مات في ذلك اليوم أحد وجهاء آل جربوع من جبل الدروز فكانت كل نشرة تذكر وفاته وتشيد به، والأستاذ السباعي علم من أعلام البلاد كلها تنكّروا له ولم يذكروه بشيء!".
معركة مخطّطة!
ويتابع الطايع فيقول: "أخذت الأحداث بالتسارع، فبدأ الإضراب العام ينتشر في دمشق وبقية المدن السورية، وكان الأستاذ عصام قد خرج إلى لبنان ومُنع من العودة إلى سورية، ولما توفّي السباعي أراد أن يأتي ليشارك في الجنازة فمنع على الحدود ولم يسمحوا له مرة أخرى؛ وبينما كانت قيادة الإخوان تريد الابتعاد وعدم خوض المعركة المتوقعة، فإن الحركات الشبابية التي لا تملكها أنت أدّت إلى ما جرى في الجامع الأموي، فيما الحكم يسعده ـ لأنه صاحب القوة ـ أن يستجرّ هذه القوى إلى معركة يبطش بها ليجهض ما يليها؛ ولم يكن للإخوان علاقة بما جرى في الجامع الأموي، ولم تكنْ لهم علاقة بما سمّي "كتائب محمّد"، إلا أن الناس اعتصموا في المسجد بالآلاف، ودخل العسكر المسجد بالقوة وأخرجوهم تحملهم الشاحنات إلى السجون والمعتقلات، وشاهدت بنفسي حيث كنت أعمل في وزارة التموين بالحريقة أفاضل دمشق وفي مقدمتهم الأستاذ محمد القاسمي محمولين في الشاحنات يهتفون ويتحدّون، ووضح أنّ الصراع الآن بين الإسلاميين وبين الحكم الذي آل للبعثيين، وأنّ المعركة كانت مرتقبة ومنتظرة"!
خلل واضطراب!
توفي السباعي والمراقب العام للجماعة ممنوع من العودة للبلاد، والحالة الأمنية والسياسية في تأزم متفاقم، فيما ساد التنظيم الإخواني حالة من الاضطراب أفقدته القدرة على مواكبة التطورات ومواجهة الخطر الداهم، يقول الطايع: "أخذ الوضع في سورية يتفاقم والأمور تزداد تدهوراً، وبدأت السيطرة على الشباب تفقد وهم يتضرّمون ويرون البلاد تباع وتشرى ويقفز العسكر إليها ويتبادلونها ككرة القدم! والشباب الإسلامي يعلم رصيده الشعبي ويرى نفسه معزولاً ومهدّداً بالخطر، فكان يتضرّم ويبحث عن دور يؤديه؛ وفي تلك الفترة كان الأستاذ عصام قد أنشأ قيادة ثلاثة عهد إليها بإدارة الأمور: أمين يكن الذي كان بمثابة نائب المراقب العام، ومعه موفق دعبول وعدنان بدر سعيد، وبقي هؤلاء الثلاثة يديرون أمور الدعوة بغياب عصام، لكن الخلافات لم تلبث أن بدأت ضمن الجماعة، فاعترضت بعض المحافظات على كفاءة القيادة في مواجهة الواقع الذي جدّ في البلاد، وعلى كفاءة أشخاص محددين فيها، ولم يلبث أن انشق أعضاء القيادة الثلاثة هؤلاء بعضهم على بعض، فأخذ موفق خط الأستاذ عصام، وأخذ الآخران خط المعارضين، ولم يطل بي الأمر فابتعدت عن التفصيلات اليومية وخرجت من سورية إلى قطر، وكان ذلك في عام 1968 م.".
ويختتم هاني الطايع هذا الفصل من مذكراته بالإشارة إلى معنى بالغ الأهمية طالما لفت الأنظار إليه في أحاديث دعوية سابقة ويقول: "عندما تحدثت للإخوة عن شخصية الأستاذ السباعي وعن المعوّقات التي حجبته عن أن يحقق طموحاته الدعوية والتنظيمية كان الأمر الأول الذي أشرت إليه أنّ الدعوة نشأت بتركيبة شبه عشائرية: جماعة دمشق، جماعة حلب، جماعة حماة، اللاذقية.. وكذا، وأنه لم تتأسّس الدعوة كما ينبغي بالإعلان عن مبادئ معينة ثم تختار لها رجالاً يأتون فينضجونها بالتفكير وبالممارسة، لكن ما حدث أن جمعيات قائمة من قبل انتفع بوجودها فضُمّت إلى ما سمّي بدعوة الإخوان، وهي جمعيات تمثل صوراً من محافظاتنا ومددنا وقرانا من بقايا العصور العثمانية المتطاولة التي حملت رصيدها الاجتماعي والديني والفقهي والسياسي الخاص بها، فهي مدارس ومناهل متنوعة متباينة، وهي لا تزال باقية لم نتحرر بعد من رواسبها إلى اليوم"!
فهارس:
(1)&n لؤي الأتاسي: القائد العام للجيش والقوات المسلحة آنذاك، وقد تولى منصب رئيس الجمهورية بعيد الانقلاب الذي ارتبط به وساهم فيه.
(2)span> كانت حوادث حماة قد بدأت في شهر نيسان/ابريل من عام 1964 م. فيما حدثت وفاة السباعي في الثالث من شهر تشرين الأول/أكتوبر من نفس العام.