شهادة إبداعية

شهادة إبداعية

 نبيلة الخطيب*

لم أكن قد تجاوزت الخامسة من عمري، وما زالت في لساني لثغة بحرف الراء، بينما طائر سنونو كان ينقل الطين بمنقاره وقدميه من ضفتي وادي الباذان الرقراق ليصنع عائلة في سقف العراق القديم الذي بجوار منزلنا، ذلك العراق الذي سكنه جدي ذات شمس وربما أجداد قبله آخرون.

كان أبي شاباً أنيقاً وسيم السمرة، بهي الطلعة، يردد أهازيج الحرية بين الأذان والإقامة، ويضم البندقية إلى صدره وكأنها الحلم الذي جمعه بأمي، أو الأمل الذي ربطه بالحياة، فالبندقية للمحارب قلبه الذي يصر على الحياة في لجة الموت، ولسانه الذي يعلن حريته عندما يهيج الطغيان.

أمي جميلة رقيقة كأنسام صباحات الباذان المعطرة بعبق النعناع وزهر الليمون حين تداعب سلاسل ورق العناب في وضح الشمس.

المكان بهي رائع الخضرة بل الخضرات، فلكل نوع من الخضرة بهاؤه الخاص به مما جعل الوادي الطيب يجمع مياه الينابيع العذبة لينطلق بها إلى مواطن النماء فيمنحها الخصب والتجدد.. في تلك الإشراقات كان عش السنونو ينعم بدفء يغري بالرقود، فالمناقير ما زالت بيوضاً تملأ العش أملاً بالنشيد.

لم أع ما كان يجري، ولكنني فجأة رأيت أمي وجاراتنا يتجمعن في بيتنا وقد علت وجوههن تعبيرات لم أشهدها من قبل، كانت المرة الأولى التي تصمت النسوة ليتصدر الحديث مذياع.

كان النفير إلى خيام من ظلال البرتقال، وقد تركت المنازل خالية إلا من كل أمتعتنا، في تلك الظروف المغلفة بالغموض كنا نحن الصبية من الإخوة وأبناء الجيران يدهشنا أن نجتمع هكذا في مكان غير عادي ونكسر المألوف، فازداد نشاطنا ورغبتنا في التراكض تحت أشجار البرتقال، مما زاد من معاناة أمهاتنا اللواتي رحن يوثقننا بأذرعهن كالعصافير يجمعن إليهن الفراخ.

خلع قلوبنا صوت هو الأقوى الذي سمعناه منذ ولادتنا، هرعنا إلى أحضان أمهاتنا ودفنا رؤوسنا في صدورهن، لقد عرفنا أن في تلك الطائرات أعداء جاءوا ليأخذوا أرضنا.. ولكن أبي وجيراننا الرجال سيقتلون الأعداء ببنادقهم.

الخيام الشجرية الخضراء لم تعد آمنة رغم التفاف الأغصان وتهدل عناقيد الثمر، فكان عراق السنونو ملجأنا التالي، لم أكن أعلم أن النسوة يبكين خوفاً على كل شيء.. الوطن والأزواج والحرية، ومع هذا قلت لعله ينبغي علي أن أكبر وأبكي مثلهن، بللت خدي بقطرات من ريقي، ولم أكن أعلم أنني سأصطلي بلهيب تلك القطرات حتى يومنا هذا.

سويعات.. ورفعت على أسطح المنازل رايات بيضاء، حتى جارتنا العجوز أصرت أن ترفع على العريشة التي كانوا ينزلون بها في الصيف راية بيضاء رغم محاولات أمي إقناعها أن تحتفظ بغطاء رأسها الذي شقته لهذا الغرض، فالعريشة غير معنية بالرايات البيضاء ربما لأنها –أي العريشة- ضرب من الحرية بشكل أو بآخر.

وما زالت في جعبة أبي بضع رصاصات ولكن ما باليد حيلة، فقد صدرت الأوامر بالانسحاب، وفي طريق عودته إلينا سأل أحد الذين مروا من الباذان عن أخبارها، فأجاب بأنها لم يبق فيها حجر على حجر.

سقط قلب أبي من بين جنبيه ولم تسقط بندقيته من يده، هب مسرعاً إلينا، ناداه الرجل:

- أنج بنفسك فلا أمل لك هناك..

أبي عاد ليصلي علينا ويواري أجسادنا التراب، لكن بارقة أمل بقيت تلوح في خاطره لعله يجد أحد أطفاله ما زال في قيد الحياة هائماً في الوديان فيضمه إليه ويبقي على أثر من رائحة الأسرة التي تلاشت بين ليلة وضحاها.

المقبرة التي كان أبي سينشئها لأحبائه دفن فيها بعض خوفه وحزنه علينا، ودفن أيضاً بندقيته والكثير من أحلامه ولكنه آثر أن يبقى منغرساً بجانب بندقيته ولم يعترف بانتهاء الحرب، بل ربما اعتبر هذه المرحلة تكتيكاً عسكرياً أو استراحة محارب، لذلك استحضر عاملاً ليحفر في الصخر ملجأ بالكاد – يتسع لنا- عصياً على الطائرات، وعلى كل أنواع المدافع، كان أبي غير قادر على تجرع الرعبة الأول مرة ثانية.

كانت لأمي وجهة نظر أخرى فهي ترى أن الحرب قد انتهت وأننا نحن الصغار أولى بالدنانير التي سيأخذها عامل الملجأ.

فراخ السنونو التي كانت تنقر قشور البيض، قبل أيام اضطرت للهجرة أسراباً إلى البلاد البعيدة بحثاً عن بعض الدفء عندما حل فصل الصقيع، منذ ذلك الزمن ظل أبي يمتنع عن تقديم الحلوى في كل عيد على أمل أن يقدمها في العيد الذي يليه رافعاً شعار (لا عيد مع الاحتلال).

في الليالي شديدة الحلكة كان أبي يتسلل إلى الجنائن حيث أخفى سلاحه الملفع بقماش أبيض ومحشو بإطار مطاطي ومغلف بطريقة مبالغ بها بكل ما يلزم لحفظ السلاح وحمايته من الرطوبة، الأمر في غاية الخطورة فحيازة السلاح باتت جريمة تلقي بصاحبها في السجن الطويل، وتشرد العائلة حيث ينسف بيتها. كان أبي يتولى تنظيف القطع الكبيرة وأمي تعتني بتلميع الرصاص، ليصبح كأنه الذهب الخالص يومض بتجدد بالغ في ضوء القنديل الخافت.

في إحدى الليالي الماطرة قبل أن يفك أبي وثاق البنادق فوجئنا بطرق شديد على الباب وصرخات آمرة (افتح الباب) سارعت أمي إلى إخفاء السلاح في خزانة الملابس وهي تشعر أن جبل (بلال) المقابل مال على صدرها بثقله وكأنها الآن تسدد فواتير هزائم العرب منذ فجر التاريخ إلى اليوم. لقد اقتاد الجنود المدججون بالسلاح أخي محمود الطالب في الثانوية العامة بتهمة قذف الحجارة على دبابات العدو.

الولوج في الزمان توحد يخف بالروح حيناً ويثقل عليها أحياناً، قد تمر الساعات مثقلة جاثمة، وساعد الألم أشد وطأة على الفؤاد، وقد تطير السنون كأنها لحظات عابرة.

وامتد ليلي كأن الدهر آخره       لا الوقت يمضي ولا تنساب لي عبر

فالزمن تساقط أوراق وتبرعمها، والإحساس به يزيد من الخشوع أمام عظمة الديمومة غير المتجدّدة، وينمي الدهشة والجمال ونحن نلحظ يد القدرة تعمل في كل شيء كيف تشاء والمكان هو مادة الزمان ومحتواه..

الأرجوحة العارمة بالطفولة، زغرودة الصفصاف، التمر حنة، عناقيد العنب..

لو استطاعت حواسنا أن تستوعب مساحة المكان لأحسسنا بأنا نملك المكان كله، لعل نفس الشاعر تعيش كل ذلك وتحيط به للحظات إحاطة تولد ومضات خاطفة، فإذا لج ضيقي بالمكان، أو ضاق المكان بي كنت في تلك اللحظة قد احتويته بين يدي، وأحسست أنني أكبر منه وأوسع، فأحلق في فضاءات غير متناهية، وأحياناً أخرى يضيق صدري ويضني مهجتي الكدر، فيوشك الفؤاد أن ينفطر في الضلوع.

وأرسم الحلم في عيني أدثره. ليندثر الحلم إذا فتحت عيني، هذا هو سر التنازع بين الضيق والسعة، والقرب والبعد مما يجعلني في غليان ظاهر حيناً وباطن أحياناً، ولولا التعبير عنه شعراً لتفتتت كل خلاياي أو تفجرت والناس من حولي لا يشعرون.

حينما يستجمع الزمن في لحظة واحدة فإن الحدث يستجلب كل الأحداث وكأنها حاضرة بين ناظري، أرى ما أسمع وأسمع ما أرى.

اتل المواجع قد أعلنت نافلتي       من البكاء وأوجاع الحشا كثر

فوجع لبنان يستدعي قابيل وهابيل:

بدءاً بهابيل يا قابيل ما اقترفت    يد ابن آدم والأحقاد تستعر

ووجع مرج الزهور استدعى هوريشيما.. لا فرق، فكله دمار وإفناء وعذاب للبشر أبناء آدم، الجرح واحد لكن أكثر الناس لا يعلمون، فالنفس الإنسان نفس واحدة.

(من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً).

لو صاح منكم مناد (آه) لانطلقت      قبل ارتداد صداه البدو والحضر

ولكن الانحياز للحق والعدل من علامات الفطرة السليمة التي لم يطمس نورها حقد أعمى يجرد الإنسان من إنسانيته، جنين شاهد على شيء غير الإنسانية، الطفل الذي انتفض بين أيدي أطبائه ثم استسلم للسكون الأبدي لم يحرك ضميراً، يهيج الظلم ليدمر حضارات الرافدين ساحقاً الإنسان والفكر والثقافة ولا يجد من يرده أو يوقفه، بينما تمثال بوذا الحجر يهز كل أركان العالم!

إنني أستحضر التاريخ في زفرات شعرية قابلة للتشظي لها أجيج تنوء به البحار، ليس المبدع بالمؤرخ، بل إنه مكثف للحدث متحرر من قيود الزمان والمكان، لا تحكمه دقات الساعة ولا طلوع الشمس وغروبها، ليس إلا وجيب القلب يصدح وانفعالات النفس تمور، أجد نفسي في لحظة أعيش مع نوح أو عمر أو صلاح الدين.. لا أدري أهو هروب من قدر حاضر إلى قدر ماض أم تحيز إلى فئة أكرَّ بها علَّ واقع لم أجد فيه المثال على الماضي يسقي الحاضر بمزن الطهر والغيث.

تتسرب الحكمة من شقوق المعاناة وقد تشبع العمر بالتجربة فيوم واحد من الشقاء يفوق دهراً من الدعة، إنني أحمل كل هذا الشقاء بين جنبي، أصرخ مع الجياع: يا رغيف الخبز، وأسرج حصاني عندما يهيج الغضب وأتحول إلى قطرة من ندى لأروي ظمأ زهرة، لقد أرسل إلي أحد الأدباء العرب رسالة يقول فيها إنه كان يظنني سوداء حتى رأى صورتي في صحيفة، كان ذلك لأنه لاحظ في ديواني صبا الباذان صدق رفضي للتمييز العرقي واعتزازي بإنسانية الإنسان ووحدة أصله:

عبتم علي سواداً لست صانعه     من نسل آدم إني مثلكم بشر

لقد كان لثقافتي الإسلامية الأثر الأكبر في تكوين مفاهيمي للكون والحياة والإنسان، فبزغت من خلال الكلمات إما صراحة وإما رمزاً لتعبر عن مرادات نفسية وعقائدية واجتماعية، ولم تخل من المرامي السياسية ذلك لاعتقادي أن التفكير والتعبير والسلوك ينبغي أن يكون متكاملاً ومنسجماً، فهمت ذلك جيداً من خلال قوله تعالى:

)يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة(.

فأنا أطلب الخير للجميع وأسعى أن تتكامل المفاهيم في نظام واحد متسق.

كل ذلك أثر في طرحي للحكمة التي تحمل هذه المعاني لدرجة أني أحياناً توجهت بالنصائح شبه المباشرة لغلبة العاطفة وحب الخير.

يا صاح أنت ترى الأشياء ظاهرها     والناس فيهم من الأسرار ما ستروا

لا تظلم الناس ما يدريـك علَّ لهم      ما لـو علمت مـن الأعذار تعتذر

للأديب دور في البناء والإصلاح والتغيير لا يقل عن الفيلسوف والسياسي والمصلح الاجتماعي، بل أزعم أن دور الأديب الشاعر أهم على المدى الطويل، فالوعي الاجتماعي ينضج على نار هادئة، ومن يريد إقناع المستمع يرصع حديثه بقلائد من الشعر فيطرب السامع وتنجذب نفسه إلى الكلام لذلك يحفظ الشعر ولا يحفظ نثر الخطيب.

كثيراً ما يتكرر علي سؤال: إذا كنت مع الحر من الشعر أم العمودي، وفي أذهان السائلين أن الحر يعني المعاصرة والحداثة، والعمودي يعني التقليدي أو القديم أو الأصالة، ويختلف المعنى حسب اختلاف الرؤى والتوجهات، فلا أرد إلا جواباً واحداً أيضاً مكرراً من حيث المضمون وهو أن الشعر معنى وشكل أو موضوع ووزن، فإذا خلا من هذين الركنين أو أحدهما لم يكن عندي شعراً.. بعيداً عن التاريخ والتعصب لهذا جمعت بين العمودي ولا أقول التقليدي، والتفعيلة ولا أقول الحر، فكتبت المطولات من كلا النوعين، وكتبت القصائد المتوسطة والقصيرة الومضات التي تجمع المفارقات والمفاجآت والمعاني الفلسفية أو ما أحب أن أسميه الماورائية، وبذلك أكون عاملاً مصالحاً بين الأطياف المختلفة في آن، لاعتقادي أن الذوق العربي في طبيعته متطور مبدع، غير جامد ولا منغلق، أن لا لأدب عالمي مفتوح في جانبيه "محدود" وهو المعنى حيث الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وجانب غير منتم وهو الشكل أو الصورة، وهذا لا يدخل في باب الحلال والحرام ألبتة، ما أود تأكيده أن حديث الأمس هو ذاته قديم اليوم والغد.

الرومانسية.. العاطفة.. الحب.. الوجدان.. مصطلحات ذات مدلولات متناغمة أوجدها الله في التكوين الأول للخلق كله دون استثناء، فلو نزع من الماء الأكسجين لمات كل شيء حي: )وجعلنا من الماء كل شيء حي(.

ولو سكن الهواء لما تلقح الزهر ولو لم يعشق النحل الزهر لفقدنا الشهد.. وهكذا الإنسان الذي هو أحدث المخلوقات لم يأت بالحب بل عاش به، وما أغرى إبليس آدم إلا بغريزة حب الخلود والملك، فالعاطفة الجاذبة أصيلة ليس العيب فيها ولا يستحيي منها، إنما يكمن سر جمالها واستقرارها وبقائها في حسن التعامل معها وانضباطها، فكل أمر إذا انفلت من عقال قوانين الله ارتج واضطرب ودمر حتى الذات الداخلية، والتعبير عن ذلك إنما هو تعبير عن مباح أوجده الله وحلله، نتغنى بجمال الأصيل. وعاشق الزنبق.. ونذوب في فنجان قهوة.. ونتوحد في عقد الروح.

نتذوق الحب تذوقنا الجمال، ونرى الجمال فيما لم يره غيرنا وقد يمتزج الحب والجمال في المعنى والروح والشيء سواء، وأقصد ب "قد" هنا وجوب التحقيق لا الفصل والمغايرة، فكل أشياء المكان فيها روح لا يدركها إلا ذو الروح الشفافة القادرة على النفاذ في ذوات الأعيان:

(إنا سخَّرْنا الجبال معه يسبّحن بالعشي والإشراق) سورة ص الآية 18.

(يا جبال أوبي معه والطير وألنا له الحديد) سورة سبأ الآية 10.

(ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه والله عليم بما يفعلون).

هذا المعنى العميق الذي أحمله في نفسي لمفهوم الحب يدمجني ويوحدني في الكون كله، فأستنبطنه واستظهره في نفسي وقلمي شاهدة على الكون والحياة، فلوصف الطبيعة والجمال بشقيه نصيب وافر في شعري، وما الإنسان إلا مظهر من مظاهر الطبيعة فكان له جانب اهتمام أبرزت فيه صفاءه ونقاءه، وأما الجانب الآخر في هذا الإنسان فإنه يتمثل في القنديل الذي توشح بالسواد ليحجب نوره عن الأعين، وفي الأهرامات الممعنة في التعالي وهي في حقيقة أمرها سكانها موتى وليست في عداد المنشآت سوى مقابر، لم أكن أقدر أشخاصاً بأعيانهم بقدر ما أردت التعميم من أجل رسالة العدل والحق.

قد يستثيرني موقف أو مشهد يبدو عادياً بسيطاً ولكني أراه يحمل في طياته تلخيصاً لمواقف حياتية أو فلسفية معقدة، وأرى فيه لوحات مختلفة قد تختزل تاريخاً سياسياً أو اجتماعياً أو نفسياً، هذا المشهد ينعكس بإشعاعاته نحو العقل والوجدان معاً مكوناً لقطة فوتوغرافية تحمل الأبعاد كلها وأهمها البعد الجواني حين تصادف الإشعاعات المنبعثة صفاء في الجانب العقلي والوجداني.

أجدني أحياناً محرجة في موضعين، الأول مع نفسي حينما أراها مشبعة بلقطة عصفور يحط على زنبقة، أو طفل فقد والده في موت أو سفر.. بينما أسمع وأرى وأعيش وفاة والدي مثلاً ثم لا أستطيع أن أكتب قصيدة في ذلك ما يفسر هذه الغرابة أنّ حدثاً بحجم كارثة العراق لم يلجئني إلى التعبير! أنا نفسي لم أكن قد توصلت إلى تفسير لذلك إلا بعد حين، إنه الصدق مع ذاتي، ذلك أنه عندما يكون الحدث كبيراً تتقزم كل الكلمات وكل المعاني والصور وحتى الخيالات، ولكن بعد أن تركد المياه وتصفو الرؤية أجد نفسي أكتب غير متأثرة بعاطفة المفاجأة بقدر تأثري بالموضوع، وهذا في ظني له أكبر الأثر على صدق النظرة وموضوعيتها.

أما الإحراج الثاني فعندما يطلب إلي أن "أنظم" في مناسبة ما فيأتي الحرج في إمكانية الشرح والتوضيح، إن الذي يملي علي ويدفعني للكتابة إنما هي إشعاعات الحدث أو المناسبة ثم انعكاساتها، فالكاتب والشاعر خاصة لا يقال له اكتب، وهذه أنا على الأقل، فإذا استكتبت أحس بأن قلمي تكسر وعقلي توقف ومشاعري تجمدت.

يجرفني الحنين إلى هناك فأسافر عبر الزمان والمكان في آن، لأكتشف أنني في رحلة جوانية إلى الذات بين الذاكرة حيث الأيام الدافئة والليالي الرائعة التي شكلت مساحة واسعة من بنائي النفسي والفكري، فرغم قسوة الظروف في ظل الاستعمار كان عشنا دافئاً وادعاً جميلاً، وكانت أجنحة أمير وأبي ترفرف علينا وتضمنا كأننا فراخ السنونو، نبرعم عبر زغب الحياة.. ما أسعدني وأنا أتنقل بين حضني أبي وأمي وهما يحتسيان الشاي أو القهوة ويفترشان العشب ويستظلان الأغصان كعاشقين حالمين..

يا الله ما أرع صوت أبي يؤمنا في الفجر أو وهو يقوم في هدأة الليل يصلي ويرتل القرآن، فتنساب في وجداني موسيقى عرفت فيما بعد أنها في القرآن فقط!! كان أحب إلي أن تمتد الصلاة لأستزيد من سماع تلاوته الندية، فصرت وأنا أقرأ القرآن أحلق في ملكوت لا يمكن وصفه وأتخيل المشاهد والصور القرآنية حية متحركة بين ناظري على أنها حقيقة أحسها وألمسها وأسمعها، لقد تأثرت عواطفي ومشاعري وتخيلاتي بكتاب الله مما أفادني أيما فائدة وظهر في شعري ما يسمى بالتناص اللفظي والمعنوي إن جاز التعبير، فلم تخل قصيدة من ذلك دون تعمد أو قصد، فما أسعدني بهذا الالتحام!

أذكر يوم قرأت قصيدتي (صهوة الضاد) الفائزة بالجائزة الأولى في مسابقة مؤسسة عبد العزيز سعود البابطين الشعرية.. في الاحتفال الذي أقامته المؤسسة في الكويت، قال أحد الحضور: أراهن أن الشاعرة ختمت القرآن مئة مرة قبل كتابة هذه القصيدة..

ومما لم أذكره إلا هنا أنني كنت في بلدتي الجميلة الباذان أستمع إلى تلاوة القرآن الكريم من غير البشر بصوت ولحن ولا أجمل!!! هذا الأمر عمق في نفسي ووجداني أحاسيس ليست معهودة أثرت (إنماء) خيالاتي وتصوراتي ومنحت روحي شفافية تطوف بها في عوالم النور والبهاء..

هذا التعلق الجمالي بكتاب الله جعلني مولعة بالإعجاز القرآني في مختلف نواحيه وخاصة الجمالي منه، فكلما ازددت إطلاقاً وتأملاً ازداد إقبالي وإحساسي بضعفي البشري، فلا أزداد قرباً حتى أزداد دهشة وانبهاراً.