فارس الخوري
فارس الخوري
بقلم: عبد الله يوركي حلاق
"أغلى ما أتمناه بعد أن نلنا استقلالنا أن تنال أمتنا أمنيتها الكبرى، وهي الوحدة العربية الكاملة الشاملة".
فارس الخوري.
كانت حياة فارس الخوري حافلة بالجهاد في سبيل العروبة، غنية بالعلم والفضل والأدب والدفاع عن الحق مزدانة بكل ما يثير الإعجاب بخلقه الكريم، ومبدئه القويم، ووطنيته المثلى، وإنسانيته الفذّة.
خُلق فارس الخوري، وفي نفسه حب العرب، وفي قلبه أسمى مشاعر الإخلاص لأمته وللغته ولتراث آبائه وأجداده، ونشأ والكتاب جليسه وسميره، وسير مشاهير قومه زاده الروحي، أما الكتب المقدسة الثلاثة: التوراة والإنجيل والقرآن، فكانت منارته المشعّة بأضواء الخير والهدى والفضيلة والتشريع المنبثق من أصفى وأحلى ينابيع الرسالات.
وُلد فارس الخوري في قرية "الكفير" بالقرب من حاصبيا –لبنان سنة 1877، وكان أبوه يعقوب الخوري، رجلاً فاضلاً ينتسب إلى الطائفة البروتستانتية، فأرسل ابنه إلى صيدا حيث تلقى علومه الابتدائية، ثم تابع دراسته الثانوية في الجامعة الأمريكية ببيروت.
وفي عام 1897 بدأ حياته العملية أستاذاً للرياضيات في الكلية الأمريكية ببيروت، ثم انتقل إلى دمشق، وتسلّم إدارة كلية الروم الأرثوذكس فيها، فازدهرت هذه الكلية في عهده وكثر طلابها.
وفي سنة 1904 نال معادلة "الليسانس" بالحقوق وامتهن المحاماة، فاشتهر بقوة حجته، وبلاغة منطقه، ونزاهة ضميره، فأحبّه الناس، وعهدوا إليه بالدفاع عن حقوقهم، فكان لا يقبل دعوى باطلة، بل ينصح صاحبها أن يرضي خصمه بالتي هي أحسن.
وفي عام 1912 انتُخب نائباً عن دمشق في المجلس العثماني "مجلس المبعوثان" بالأستانة، فدافع عن حقوق العرب، وطالب بمعاملتهم على قدم المساواة مع العثمانيين.
ولما نشبت الحرب العالمية الأولى 1914-1918 اتُّهم فارس الخوري بالخيانة ضد النظام العثماني، فأوقف في عام 1915 وحوكم أمام المحكمة العرفية فبرّأت ساحته، وأطلقت سراحه. وعُيّن بعد ذلك، عضواً في مجلس الدولة فبقي فيه حتى عام 1917.
ولما وضعت الحرب أوزارها عُيّن في شهر تشرين الثاني 1918 مستشاراً في القضاء السوري، فبقي في منصبه إلى أن تشكلت في 8 آذار 1920 أول وزارة في ظل المملكة الفيصلية، فعهد إليه رئيس تلك الوزارة رضا باشا الركابي، بمقاليد وزارة المالية، فاضطلع بأعبائها على أحسن وجه.
وعلى أثر استقالة الوزارة الركابية، عُيّن فارس الخوري من جديد وزيراً للمالية، في وزارة هاشم الأتاسي بتاريخ 3 أيار 1920.
وعندما احتلّ الفرنسيون سورية في 25 تموز 1920 عاد فارس الخوري إلى حقل المحاماة، وانتُخب في سنة 1921 نقيباً للمحامين، وفي حزيران 1922 عُيّن عضواً في مجلس الاتحاد السوري، وأستاذاً في كلية الحقوق بدمشق.
ولما اشتعلت في سنة 1925 نيران الثورة السورية، نُفي إلى جزيرة أرواد مع نخبة من مناضلينا الأحرار، الذين ناهضوا الانتداب الفرنسي وقاوموه بقوة القلم والسلاح، وبمساندة الشعب السوري الأبيّ التوّاق إلى الحرية والاستقلال.
وأمام الضغط الشعبي الهائل، اضطرّت السلطة الفرنسية إلى أن تفرج عنه وعن رفاقه المجاهدين، فعاد إلى دمشق وعيّن في 26 نيسان 1926 وزيراً للمعارف في وزارة الداماد أحمد نامي، وبقي فيها إلى يوم 12 حزيران من السنة نفسها، وهو اليوم الذي نُفي فيه إلى الحسكة.
وفي عام 1928 عاد إلى العاصمة السورية، وبدأ نشاطه السياسي، فحالت السلطة المنتدبة بينه وبين ترشيح نفسه للانتخابات النيابية لتمثيل دمشق في الجمعية التأسيسية والجمعية الاستشارية بسبب اعتناقه المذهب البروتستانتي القليل العدد في سورية.
ولكنّ الشعب السوري، أبى إلا أن يرفع فارسه الحرّ إلى أعلى مناصب الدولة وأكثرها أهمية، وإلى أشرف مجامع العلم ومحافل المعرفة والأدب، وها نحن نختصر الوقائع، ونقف أمام مقال كتبناه على أثر وفاة ذلك الإنسان الكبير، الذي استأثرت به رحمة الله في الساعة العاشرة والنصف من ليل يوم الثلاثاء 2 كانون الثاني 1962:
انطفأت الشعلة الخيّرة النيّرة، وسكت الصوت المدوي بالحق، وسكن القلب الأبيّ الوفي، الذي لم يتقلّب بتقلّب الزمان، ولم يخف غضبة ظالم، ولا نقمة سلطان(1).
وانحنت الرؤوس أمام الجثمان الصامت، وفي العيون دموع، وفي الصدور زفرات، وفي أعماق الأفئدة لوعة وأسى، تكاد تمزّق المهج، وتقرّح الجفون.
ولم يكن البكاء من شأن القادة الصناديد، ولكنهم بكوا الإنسان المثالي الراحل، وحزنوا على البطل المجاهد الباسل، الذي قاوم المنتدبين، وناهض المستعمرين، وضرب أروع أمثلة البطولة والفداء، في كل معركة حامية حاسمة، ولاسيما في معركة الجلاء.
غاب عن الوطن العربي، وجهٌ من أشرف الوجوه، وأكثرها مهابة ووقاراً، وأبقى فراغاً واسعاً هيهات أن يملأه غير الأفذاذ المخلصين، الذين أنكروا ذواتهم، ووقفوا جهودهم ومواهبهم وكلّ ما يملكون على خدمة الله والعروبة والمجتمع الإنساني.
نام عن إخوانه ومحبيه، بعد أن تقدّم الركب المنطلق في معراج السمو، وبعد أن علّم جيلين متعاقبين من شبان العرب وشاباته، دروساً قيّمة في الوطنية والنضال، فكان في شبابه وكهولته وشيخوخته، الأستاذ الأول، والمرشد الأكبر، في المعهد النموذجي الحرّ، الذي لم يخرج طلاّباً يحملون الشهادات العلمية فقط، بل أخرج أشبالاً يزدانون بالعقيدة القومية المنزّهة، ويحملون أنبل الشعارات العربية وأسناها.
انتقل عن هذا الكون الفاني، الرجل المحلّق بأجنحة من عطر ونور فوق عوالم الفناء، ونفض عن منكبيه غبار أربع وثمانين سنة، أمضى ربعها الأول في الدرس والبحث والدأب على ارتشاف العلم من أعذب موارده وأصفى ينابيعه، وأمضى ثلاثة أرباعها الباقية، في الكفاح المستمر من أجل أمته وعروبته وإرضاء ربه وضميره.
وافتقدنا هذا الرجل الكريم في أحلك الظروف، كما يُفتقد البدر في الليلة الظلماء، فلم نجد سوى ذكرياته الحافلة بالمآثر والمفاخر، ولم نقع إلا على أنباء تضحياته من أجل عزة العرب، وجمع صفوفهم، وتوحيد كلمتهم، وإعلاء رايتهم.
لم يكن الراحل الغالي، زعيماً من زعماء هذه الأمة فحسب، ولا كان مناضلاً في حومة العروبة وحدها، ولا كان جهاده منحصراً في مجالات وطنه فقط، بل كان إلى جانب هذا كله زعيماً سياسياً له قدره وحرمته في نفوس أقطاب السياسة العالمية، وكان لكلمته أثرها القوي الفعّال في المحافل الدولية، وكان صاحب رسالة إنسانية ووطنية معاً، يعطي من ذات قلبه وذات يده، ويأبى أن يحبس عبارة صدق تجول في خاطره، بل كان يطلقها صريحة مجلجلة، يؤيدها البرهان القاطع، وتدعمها حجة لا تدحض ولا تنقض.
كان عصامياً بكل ما في العصامية من معنى ومبنى، ولم تكن طريق النجاح أمامه ممهدة معبدة، بل كانت وعرة شائكة تملؤها العثرات، وتعترضها الحواجز والعراقيل. وكان على من يريد الوصول إلى القمة المطلة من بعيد على نهاية الطريق، أن يتزوّد بجناحي نسر، وأن يتسلّح بعزيمة أسد، وأن يسكب على دربه الطويل الشاق، قطرات غزيرة من عرق ودم. أما الدمع فلا يترقرق في مآقي الرجل الصادق الرجولة، إلا حزناً على عظيم، أو إشفاقاً على أرملة أو منكوب أو يتيم.
واستهان الفارس المغوار بالشدائد، وتحمّل من المتاعب والآلام، مالا يستطيع أن يتحمله إلا الجبابرة المؤمنون بحقهم وحق شعبهم في العزة والسيادة والموقنون أنهم بالغون هدفهم الأسمى، مهما بعدت الشقّة وطال المسير.
بهذه العقيدة الوطنية الراسخة، صبر على ما قاساه في غياهب السجون، من مضض وعذاب، واستخفّ بما لقيه في منافيه البعيدة من وحشة واغتراب، وظلّ كالصخرة الصلدة تتكسّر عليها أمواج الرجعية البغيضة، وتتحطّم على جوانبها قرون وعول الاستعمار.
وحاول المستعمر مراراً، أن يغريه ويسترضيه، فما لان ولا استكان، ولا أغراه جاه ولا سلطان، لأنه خلق من عنصر هو مزيج من العفة والقوة والإباءة العربية الصافية.
كان بسعة علمه، وتوقّد ذهنه، وروعة إخلاصه، وإشراق بيانه، وقوّة إيمانه بحق وطنه بالحرية الكاملة والسيادة المطلقة، الدماغ المفكر واللسان المعبّر في الكتلة الوطنية، التي قادت الشعب السوري في الثلاثينيات والأربعينيات، نحو الاستقلال. وكان الزعيم إبراهيم هنانو ورفاقه الميامين، يعولون عليه في الملمّات، ويعهدون إليه بحل المضلات، فكان يثبت لهم في كل مرة، أنه عند حسن الظن به، وأن نظرته إلى بواطن الأمور لا تخطئ ولا تخيب.
كان مشرّعاً كبيراً حاذقاً، وخطيباً مصقعاً، يؤثر في جماهير سامعيه، ويدفعهم إلى ما يريده الوطن، كما كان دائرة معارف حيّة، استوعبت أبواب العلم والأدب والتاريخ، وجمعت القوانين والشروح والتفاسير والاجتهادات، وضمت أخبار العرب ونوادرهم، وكانت ندوته المسائية في دمشق، تجمع النخبة المختارة من الوزراء والنواب والقضاة والكتّاب والشعراء، فكان يجول معهم في كل موضوع، ويناقشهم في كل بحث، وكان كلامه في نهاية كل حديث، خلاصة المنطق، وفصل الخطاب، حتى لقبه بعض خاصته، وبعض إخوانه في المجمع العلمي العربي(2) بابن خلدون هذا العصر.
بمثل هذه الصفات الأصيلة، استطاع أن يرتفع على سواعد الشعب وممثليه، إلى أعلى مناصب الجمهورية السورية فانتخب عضواً في الوفد السوري الذي ناقش المعاهدة الفرنسية –السورية بباريس عام 1936 ثم انتخب نائباً عن الأقليات ثم انتخب رئيساً للمجلس النيابي مراراً(3) وصار رئيساً لمجلس الوزراء مراراً أخرى(4) وابتداءً من شهر نيسان إلى شهر حزيران 1946 مثّل سورية في مؤتمر سان فرنسيسكو، كما مثلها في ذلك العام نفسه، في منظمة الأمم المتحدة، وفي شهر حزيران 1948 ترأس منظمة الأمم المتحدة، ثم عاد فمثّل بلاده لدى هيئة الأمم المتحدة خلال سنتي 1950 و1951 واشترك في مؤتمرات دولية قانونية عديدة، كان له فيها كلها، جولات بارعة، ومواقف مشرفة.
هناك في أكبر منظمة دولية، وقف يدافع بمنطقه الخلاّب، وبنبراته الرزينة، وبلغة شكسبير عينها، عن قضايا العرب جميعاً، ويتصدّى لأعدائهم، ويُطالب حماة الشعوب، بما يعتقده حقاً لا غبار عليه.
وبفضل جرأته النادرة، وموهبته الخطابية الساحرة، وبراعته في الحوار والنقاش، ووضع النقاط على الحروف، كان يحرز إعجاب فحول المشرّعين، وممثلي الدول الوافدين من كل حدب وصوب، وينتزع الحق من أشداق الباطل.
وكم كان موقفه رائعاً، يوم انبرى يذود بقلبه ووجدانه وبجميع حواسّه، عن القضية المصرية، وعن القضية الفلسطينية، وكان رأيه هو الرأي السديد دائماً، ولو أصغى إليه ملوك العرب ورؤساؤهم في ما أبداه بشأن حرب فلسطين، لما منينا بهذه النكبة المروّعة، فقد حذّر الدول العربية يومئذ من قبول الهدنة الأولى، وبيّن لهم بألف دليل ودليل، أن هذه الهدنة، التي يلحّ الأعداء بطلبها بعد هزائمهم المتوالية، ستكون كسباً لهم، ووبالاً علينا. وقد صحّ قوله، ووقعت الكارثة المروّعة، وشُرد مليون عربي، وراء كل أفق وتحت كل سماء.
كان فارس الخوري رجلاً حراً مناضلاً في كيان أمة ثائرة على الطغيان، توّاقة إلى الانطلاق، مندفعة إلى ما خُلقت له من كرامة وسؤدد، فكان مكانه في وطنه، مكان الإنسان من العين، والمهجة من الجسد، والدم الساري في الشرايين.
إنّ أقل ما يُقال في فارس الخوري، أنه كان في مستوى الزعامة الشعبية والعلمية التي انقادت إليه، وألقت مقاليدها بين يديه، وسيظل العرب، كل العرب، يعطرون مجالسهم بذكراه، وينوّهون بفضله، ويشيدون ببيض أياديه، ويعتزون بما قدّم لهذا الوطن الحبيب من جلائل الأعمال.
إنّ فارس الخوري حي في كل جنان، واسمه العذب على لسان كل منصف عارف بتاريخ وثبتنا الوطنية، فالموت أجبن وأعجز من أن يصل إلى حمى الخالدين، أو أن يمدّ يده إلى ذخائر الزعماء المصلحين.
حقاً، لقد وفّى فارس الخوري قسطه للعلى، وأدّى رسالته القومية الرفيعة، على أحسن وأشرف ما تؤدّى رسالات العباقرة الملهمين.*
الهوامش
(1) مجلة الضاد العددان 1 و2/ 1962 ص3.
(2) بدّل اسمه فصار "مجمع اللغة العربية بدمشق".
(3) انتُخب فارس الخوري رئيساً لمجلس النواب –لأول مرة- يوم الاثنين 21/12/1936 وبقي في منصبه حتى عام 1939 عندما حُل المجلس المذكور، وفي يوم الثلاثاء 17 آب 1943 انتُخب للمرة الثانية رئيساً للمجلس نفسه. وفي 30 أيلول 1945 جدد انتخابه لرئاسة مجلس النواب. وفي سنة 1947 انتُخب رغم غيابه عن سورية في الولايات المتحدة الأمريكية رئيساً للمجلس النيابي السوري.
* عن مجلة (الضاد) الحلبية.
(4) سُمي رئيساً لمجلس الوزراء في 14 تشرين الأول 1944 وبقي في منصبه حتى 5 نيسان 1945، وفي 7 نيسان 1945 شكّل للمرة الثانية، الوزارة السورية وتسلّم رئاستها حتى 23 آب من السنة نفسها، ثم عاد فشكّل للمرة الثالثة وزارة جديدة وفي 29/10/1954 شكّل وزارة أخرى استمرّت حتى 12/2/1955.