جوهرة السّفّاريني
|
جوهرة السّفّاريني بقلم: حسني أدهم جرار |
جوهرة السفاريني شاعرة فلسطينية معاصرة، ولدت في ظلال النكبة ورضعت من لبانها. نظمت شعرها ليكون وقفاً خالصاً للوطن وقضاياه، وليحمل في ثناياه هموم القضية الفلسطينية، ويستجمع في مضامينه صراع العرب مع خصومهم شت مأساة جيلها، ووجدت في ذلك متنفساً عمّا يملأ
أرجاء على الساحة الدولية.. شاعرة اكتوت بنار القضية، وعا نفسها المرهفة من الحزن والأسى.. ففلسطين وقضيتها ومأساتها، امتزجت وتفاعلت لتكون هماً مقيماً تعيشه جوهرة بكل مشاعرها وأحاسيسها.. همٌّ كبير ناء بحمله ملايين العرب والمسلمين.. ويكفي جوهرة أن تكون واحداً من القلّة التي لا يزال يؤرقها ذلك الهم الكبير، وأن تقول لهذه الملايين شيئاً يمكن أن يوقظ بعض المشاعر المتبلورة التي لم يعد يقضّ مضجعها ذلك الهم.
شعرها متخصص في تشخيص الواقع السياسي والاجتماعي، إذ قصرت جهودها على تجسيد مأساة اللاجئين، والارتباط الوثيق بالأرض والوطن، وتأريخ لحقبة من تاريخ الأمة الإسلامية في العالم العربي وصراعها مع خصومها والطامعين بها..
وإن نشأة شاعرتنا وظروف حياتها، وحظها من العلم والثقافة، ومعاناتها واغترابها، واتجاهها الفكري.. كان لكل ذلك أثر واضح في شعرها.
نشأة الشاعرة وسيرتها:
الشاعرة جوهرة بنت مصطفى حسين العيسى، وكنيتها أمّ غسّان، تُنسب إلى "سفارين" مسقط رأس جدها –وهي قرية من أعمال طولكرم في فلسطين- فتُعرف بجوهرة السفاريني.
استوطن جدها "عيسى" مدينة الناصرة، وعمل فيها مقاولاً لأعمال البناء والتعمير، وهي مهنة مارسها أعمامه وأجداده..
ولدت جوهرة في الناصرة سنة 1947م، فكانت طفولتها متزامنة مع النكبة التي وقعت على أهل فلسطين، حيث أُخرجوا من ديارهم قسراً، وتفرّقوا في بلدان كثيرة، ولجأ مصطفى –أبو جوهرة- إلى دولة لبنان، ونزل في مدينة بعلبك، وكانت جوهرة يومئذ طفلة رضيعة، ولم تطمئن نفس الرجل إلى بعلبك، فشدّ رحاله إلى دمشق واستقرّ فيها، فلقي في ربوعها الراحة، وتفتحت له فيها أبواب الرزق.
وفي أرض الفيحاء فتحت جوهرة عينيها على ضياع وطنها، ومأساة قومها، وكبرت وكبر معها حسّها المرهف، وقلبها الرقيق، وعاطفتها الجيّاشة، وانتماؤها الوطني.. وخفق قلبها بحبّ وطنها الضائع، وبحب أرض هذا الوطن وأطفاله، فطفقت تلتمس الأساليب والوسائل التي تعبر بها عن حبها لوطنها وإخلاصها له، ونقمتها على مغتصبيه ومن يساندهم، فشاركت في المظاهرات الوطنية، التي كانت تُنظم في دمشق، فأدى ذلك إلى فصلها من المدرسة التي كانت تتلقى العلم فيها مع ستّ من زميلاتها.
شبّت جوهرة في دمشق، وتلقّت علومها في مدارسها العامرة، وحصلت على شهادة البكالوريا عام 1965، وعملت في سلك التدريس مدة ثم التحقت بأخيها في الكويت عام 1966م –الذي عمل مدرّساً فيها منذ الخمسينيات- ودفعها طموحها العلميّ إلى إتمام دراستها، فدخلت معهد المعلمات لدراسة اللغة العربية وآدابها، وبعد أن تخرّجت فيه، عملت مدرّسة في مدرسة الجميل الخاصة، ثم مشرفة على تدريس اللغة العربية في مدرسة النصر.
وتزوّجت من مصطفى أحمد سليمان سنة 1967ن، وكان زوجها يعمل مدرساً للرياضة البدنية في إحدى مدارس الكويت، وحين نشبت حرب الخليج، شدّ رحاله إلى أمريكا الشمالية، وزاول مهنة التجارة هناك. أما شاعرتنا، فإنها سئمت المقام في بلد أجنبي، فاستأذنت زوجها في أن تعود إلى وطنها الأردن لتستقر فيها، وفي الأردن عملت جوهرة في مجال التربية والتعليم مشرفة تعليمية في مدرسة الخمائل، وواصلت نشاطها التربوي والأدبي.
شعرها:
بدأ نشاط جوهرة الفكري والأدبي في سن مبكرة، فكانت تصوغ ما يخطر ببالها من أفكار، وتدفع بما كتبت إلى إحدى الصحف أو المجلات، وكان أول مقال نشرته في مجلة الجندي الدمشقية، وكانت وقتها في الحادية عشرة من عمرها. تقول جوهرة عن بداية تجربتها الفنية: "كان شعوري مرهفاً منذ الصغر، وكبرت وكبر معي هذا الشعور حتى إنه دفعني إلى الانطواء عن الأهل والأصدقاء، وفزعت إلى القراءة والمطالعة، فكنت أقضي ساعات في قراءة القصص والأشعار، وكانت أمي تشفق علي، وترشق وجهي بالماء، إذا وجدتني نائمة والكتاب بين يديّ، وحين بلغت الثانية عشرة، كتبت قصة خيالية بلغة شاعرة، وأرسلتها إلى مجلة "حواء" المصرية، فبادرت المجلة إلى نشرها مقرونة بتعليق أمينة السعيد -رئيسة التحرير- حيث قالت: إنني أتوقع لهذه الصغيرة أن تكون شاعرة في المستقبل القريب"(1).
ووسّعت جوهرة دائرة نشاطها وأخذت تنشر إنتاجها الأدبي في جريدة فلسطين، وفي عدد من الصحف والمجلات التي تصدر في الكويت كالوطن والقبس والرأي العام والأنباء واليقظة وشاركت في نشاط اتحاد الكتّاب الفلسطينيين بالكويت.
ودخلت المجتمع من خلال الأمسيات الشعرية والمناسبات الوطنية، فأحيت أمسيات شعرية كثيرة مع عدد من الشعراء والشواعر الذين اتخذوا من الكلمة المختارة سلاحاً نافذاً، ووسيلة من وسائل الكفاح، وإذكاء جذوة النضال، من أمثال: يوسف الخطيب وهلال الفارع ورجا سمرين وأبو الأديب الزعنون وجنة القريني ومريم الصيفي، وغيرهم من الشعراء الذين عاشوا في تلك الفترة في الكويت.
وتأثرت جوهرة في حياتها الفكرية والأدبية برجلين هما: الشاعر الفلسطيني يوسف الخطيب، فهي تقول: "إنني لأذكر أنني أُعجبت بشعر يوسف، وتأثرت بمنهجه في التناول، منذ أن كنت مدرّسة في إحدى مدارس دمشق المتوسطة، فكنت أقرأ قصيدته الوطنية التي يُعبّر فيها عن حنينه لمدينة يافا، وشوقه إلى ربوعها، فأحسّ بنشوة بالغة، ولذّة عارمة".
والثاني: المناضل الفلسطيني صلاح خلف (أبو إياد) فتقول أنه كان ذا فضل كبير في توجيه مسيرتها الوطنية، وحثّها على تجنيد شعرها لصالح المعركة التي يخوضها أبناء قومها ضدّ اليهود، فانضمّت إلى اتحاد الكتّاب الفلسطينيين، وكانت عضواً فاعلاً ومنتجاً.. وحين أُنشئت جمعية بيادر السلام في الكويت، انخرطت في صفوفها، وكانت تقوم بتوجيه الأطفال، وتعمل على غرس الروح الوطنية في نفوسهم، وتثقيفهم تثقيفاً دينياً يذكي فيهم جذوة الكفاح.
لقد وجّهت جوهرة طاقاتها الفكرية والأدبية منذ نعومة أظفارها توجيهاً وطنياً، فكانت فلسطين همّاً مُقيماً في أعماق نفسها، فهي لا تنفكّ تلهج بذكرها في كل همسة من همساتها، واستطاعت أن تقول لبقية أبناء وطنها العربي شيئاً يمكن أن يوقظ بعض المشاعر الغافية التي لم يقضّ مضجعها ذلك الهمّ.. فأصبحت بهذا واحدة من الفلسطينيات الشواعر اللائي أسهمن بدور فعّال في المجالين الأدبي والفكري.
إنّ أهم ما يميز شعر جوهرة أنه يحمل في ثناياه هموم القضية الفلسطينية والعربية، ويستوعب في مضامينه صراع العرب مع خصومهم، ويفصح عن معاناة الشاعرة ومتاعب قومها، فالشاعرة نفسها ربيبة القضية والمكتوية بنار المأساة، والمقاسية من تباريح اللجوء، والشاكية من أوجاع الاغتراب، وآلام التآمر والظلم والعسف، فقد ولدت في ظل النكبة، وتأثرت بها في كل أحوالها، فقرضت الشعر –وهي صغيرة- لأنها وجدت فيه متنفساً عمّا يملأ جوانحها من حزن وأسى(2) يتبيّن ذلك من قولها في قصيدة "من عتاب اللوز"(3):
أنتِ يا لوزةُ والأرضُ.. هُمومي..
ثَوبيَ المُلقى على عُري الجُسوم..
صورةُ الوجه التي.. تُخفي عيوبَ المُترفين..
وصياحَ الخائفين
لوثةَ الحُزنِ.. وغاراتُ وُجومي..
والمتتبع لشعر جوهرة يجد أن إنتاجها الأدبي قد سار في اتجاهين:
الأول: سياسي وطني.. اتجهت فيه الشاعرة إلى تصوير ما يعانيه اللاجئون الفلسطينيون في غربتهم، وفي كفاحهم ضد أعدائهم لاستعادة أرضهم، وفي صراعهم مع الحياة لكسب معاشهم، وأبرزت ما يلاقيه أبناء هذا الشعب من ألوان القهر والظلم والاستغلال، وصورت ما يختلج في صدر المرأة من نوازع مكبوتة..
والثاني: سياسي ديني.. اتجهت فيه إلى التعبير عن معاناتها ومعاناة شعبها، واتخذت من بعض المفاهيم الدينية معبراً إلى عرض قضيتها السياسية، وسلكت –في الأغلب- سبيل الموازنة بين الماضي والحاضر المتردي..
أما الأفكار والموضوعات التي طرقتها جوهرة في شعرها، فقد كانت فلسطين هي الفكرة الأساسية عندها، كما طرقت أبواب القضايا الوطنية والسياسية والاجتماعية وما شاكلها من القضايا العامة، وخاصة ما يتعلق بالكفاح والانتفاضة والرثاء والعودة والقومية والمرأة.. فكانت هذه القضايا هي وسائلها للتعبير عن ذاتها والتنفيس عن عواطفها وميولها..
الوطن والكفاح من أجله في شعرها:
لقد جاء شعر جوهرة رقيقاً وفيّاً ووقفاً سائغاً لوطنها الأول "فلسطين".. ذلك أن فلسطين في شعرها ذات نكهة فنيّة متميزة، فهي نسيج متجانس من الحبّ والودّ والحنين والتوق والتألم والمعاناة.. وقد امتزجت هذه العناصر في نفسها، وتفاعلت فيما بينها لتكوّن همّاً مقيماً تعيشه شاعرتنا بكل مشاعرها وأحاسيسها، فمعظم ما ورد في دواوينها الثلاثة هو عن وطنها الأم فلسطين..
ولاشك أنّ فلسطين تستحق ما يصدر في حبّها من فن القول، ولاشك أيضاً أنّ جوهرة مهما اختلفت مستويات التعبير في شعرها، فإنها تحيي في النفوس آمالاً عريضة، وتزرع في القلوب حباً أكيداً.. ويزداد هذا الإحياء، ويكبر هذا الحب حين تقسو الظروف على إنسان فتحمله على أن يعيش في أرض غير أرضه، وفي وطن غير وطنه.. عندها يتّسع حسّه باغترابه وبضياع وطنه، ويظلّ هاجس العودة يراود خياله، ويقضّ مضجعه.. ولقد كانت جوهرة صادقة مع نفسها حين قالت: "معاناتي أني بلا وطن وبلا أرض".
ولهذا فقد جادت قريحة جوهرة بشعر رقيق، عانقت فيه الأرض، واحتفت بترابها ونباتها، وافتخرت بالانتماء لها ولأهلها، لأنه انتماء إلى الجذور والحضارة والتاريخ.. فنراها تبدي حسرتها على ضياع الأرض، وتبدي حسرتها على شعبها النائم التائه، وتأسف على واقعه الزاخر بالهوان والضياع.. ويخالط نفسها يأس من هذا الواقع حين ترنو بعينيها إلى الماضي التليد والتاريخ المشرق، فتقول في قصيدة: "ومتى تعود الشمس"(4).
يا أرض في عينيك دمعةُ غاصـبٍ هاتي الحديثَ وعن شجونك بوحي
لا تذهلي من صَمتِ أهلـي إنهـم فـي تيههم ولجـوا بلا تصـريح
نِمنا فلا صحـوٌ تقـومُ طُقوسُـهُ كـالتـائهيـن بمهمـةٍ مفتـوح
فمتى تعود الشمس عبرَ صُروحنا والمسـجدُ الأقصى بغير جـروح
وتعـودُ أمتنـا بحـلّةِ مجـدهـا تزهـو بعـزٍّ خالـدٍ وطمـوح
لقد آلمها الواقع الذي نعيشه بكل ما فيه من هزائم وانتكاسات، ومحن، وتشريد واغتراب، وخلاف وفرقة.. ورأت جوهرة بأم عينيها أن بلادها قد أبيحت لغير أهلها، وأن الغاصبين لأرضها قد عاثوا فيها فساداً، وأن العالم كله قد تواطأ مع هؤلاء الغاصبين، فانطلقت تقول(5):
سأفجّرُ.. من أباحوا لكلابِ السّاح أرضي..
رِجسُهم أزكمَ أنفي
لم يعُدْ في جسدي الملهوف غير النّار تغلي كالأتون
كيف أرضي.. كيف نرضى.. كيف يرضى العالمُ الموبوءُ هذا..
لذئابٍ قرضت قبر المسيح.
كيف ينسى العالمُ الكذاب هذا.. طُهرَ أصحاب الجُروح
كيف ننسى أنّ ربّ الكون قد أعطى.. لكل الناس أرضا..
وسلاماً وصروحا..
وتُشخّصُ شاعرتنا الواقع السياسي الذي آلت إليه حال أمتنا عندما تأثّر أبناؤها بحضارة الغرب وتنكّروا لحضارتهم وعقيدتهم فذلّوا وشاع فيهم الجهلُ والضلال، فتقول(6):
وحضارة أكلت لُبـابَ نفوسنا ورَمتْ بنا عظماً وبعض فُتات
فغـدا بنـا عِزُّ العقيـدة ذلّةً بعـد التنـكّر وانتحارِ الذات
الجهلُ أطبقَ في جميع دُروبنا والغـيُّ يَسري كالظلام العاتي
والغاشمُ الموتور دنّسَ مسجداً هو في سمائكِ أقدسُ الواحاتِ
وسرعان ما تغوص جوهرة في أعماق التاريخ، وتتلمس فيه سير الأبطال المجاهدين، فتطمئن إلى أنّ أمتها أمة أصيلة، قادرة على أن تستعيد المقدّسات والوطن المغتصب، فهي إن كبَت يوماً فإنها قادرة على أن تقيل عثرتها، فتقول(7):
مـا هـزّنا أنّـا وجدنـا ثُلّةً ركعتْ لمن سرقوا الديار وجاروا
هي فترة ملأ الزمانَ دُخـانُها تمضي، وتـصعدُ بعدها الأنوارُ
وتبدأ الانتفاضة، وتشيد جوهرة بالطفل المجاهد الذي تجهّز بسلاح جديد نافذ سلاح الحجارة، ويتنفّس صبح فلسطين بالتحدي، وتشرق شمس كفاح جديد فيستيقظ العالم كله، وتتنبّه حواسه، ويُعجب من شجاعة الطفل وانطلاقته في سبيل الحرية والشهادة والإخلاص والوفاء.. وتحيّي جوهرة أطفال فلسطين بقصيدة سجّلتها على غلاف ديوانيها: "خيول لا تنام" و"لينتفض الضوء" قالت فيها:
حيّ الصّغار وقد تناسوا لعبة ومسـرة لهواً وحلو مذاق
ألعابهم حمر الحجارة تزدهي بين الأصابع جرعة الغسّاق
بدمائهم كتبوا بطولـة شعبهم لـم يركعوا إلا إلى الخلاّق
أطفالنا عظماؤنا.. أسيادنـا أقوى من الأغلال والأطواق
قد حرّرونا من خنوع نفوسنا ومن الخضوع يشدّ بالخنّاق
حيّ العمالقة الصغار وحيّهم تـاريخنـا كتبـوه بالآماق
صبراً على درب النضال وكلّنا نمضي لنصر مشرقٍ ألاّق
وتنظم لهم قصيدة أخرى بعنوان "سلال الحجارة" تصف فيا شجاعتهم وإصرارهم على طرد الغاصب المحتل، تقول فيها(8):
حانتِ الساعةُ وانشقّ الحجر.. وبدا الصبح نديّا
واستطالتْ نبتةُ القمح.. وغذّاها القمر
كلُّ ما حولَكَ سيلٌ.. من صغارٍ تتوهّج..
وعيونٌ أبرقتِ ثأراً.. وأعداءٌ تفرّ
آه يا طفليَ لما حَملوكَ.. فوق أزهار البنفسج
وبأعلام فلسطينَ أراهم كفّنوك
وجهُكَ الحلوُ تبسَّم.. عندما أنهى الرسالة.. عبرَ أطلال الخليل
يا صغيري ليتني كنتُ معك.. آه لو أني معك.
وكأنّ طيف الوطن رفيق درب، وأنيس وحشة، يصاحب شاعرتنا أينما ذهبت دون أن تحدّه حدود، ففي أثناء تنزّهها على "نهر جونكه" في أمريكا، انبرى لها هذا الطيف، فأحال النزهة إلى حوار مع النهر، وموضوع الحوار –هذه المرة- هم أطفال الحجارة الذين شنّوا على عدوّهم حرباً وُصفت بالشجاعة والإقدام، فأضحى حجرهم شمساً من شموس الحرية، تنشر أشعة التحرّر في كل مكان، وتعرّف العالم معنى الرجولة(9) تقول جوهرة السفاريني في قصيدتها الحوارية "حوار مع نهر جونكه"(10):
أمسكتْ كفّي حجاره من ريو "جونكه".. بلا معنى.. بلا معنى حِجاري
إنما الأحجارُ في وطني عظيمه.. ترتدي ثوباً جميلاً.. أرجواني.. أرجواني وتقول:
إنهم أطفالنا.. دون طفوله
عرّفوا العالمَ والأقزامَ ما معنى الرجولة
لقد أشعلت جوهرة في ربوع وطنها قناديل الحرية والكفاح، وسارت في المدن والقرى الثائرة في كل بقعة من أرض فلسطين، ورسمت صورة حيّة ناطقة لمسيرة استرداد الأرض المحتلة.
شعرها الديني:
لشاعرتنا جوهرة العديد من القصائد الدينية التي دوّنتها في دواوينها الشعرية، فلا تكاد تمرّ مناسبة إلا وتنظم فيها قصيدة، وهي تتخذ من هذا الشعر الديني مدخلاً لتذكير الناس بأرض المسرى النبوي الشريف عام 1983م نظمت قصيدة قالت فيها(11):
ذكرى الرسول تمرّ الآن تسعدنا تـزهو بمـولده ريّانة الرّطب
يسري إلينا نسيم الطهر يعتقنا مما ألمّ بنا مـن غامض الكُرب
والقدس تحمل أحزاناً ونحملُها والقدس تسأل سيفاً طاهر النسب
أين الحُماة الأباةُ الصّيد تُنقذني أين الحمية تُـذكي ثورة الغضب
ونراها تتخذ من شهر رمضان المبارك شاهداً يشهد على ضياع "القدس" فتقول في قصيدتها "رمضان شهر الفضائل"(12):
شهرُ الفضائل وافانـا بأنعمـهِ فالعفوُ عفـوٌ وخيـرٌ بـحرُهُ لجبُ
يسعى إلينا ليلقانا عـلى عجـلٍ ونحنُ غرقى ببحر الخوف تضطرب
أتيتنا وربيع القـدس منصـرمٌ والشـوقُ يحرقُنا والنور يصطخب
والصخـرةُ اليوم فارقها أحبتها والصخـرةُ الآن كم يجتاحها العتب
ربّاه أشكو لمن؟ من بات يسمعنا سـواك ربـي دم الأبـرار ينسكب
وفي ذكرى الإسراء والمعراج نجدها تطلق صيحة وتستغيث بالرسول صلى الله عليه وسلم، وتهيب به أن يقوم من مرقده ليشهد بنفسه ما يجري على الأرض المقدسة فتقول(13):
وعلى مُحيّا القدس نور قداسة ترنو إليها سائر الأقوام
يا ربّ والأقصى الجريح مُكبّل بإساره يبكي من الإعتام
قم يا محمد واشهد الأرض التي كانت مراح صحابة وكرام
ثم تقول:
يا مسلمون على الجهاد تعاونوا فالـكفر يبغي كبوة الإسلام
يا مسلمون تكاتفوا وتعاضدوا سيـروا لهدم معابد الأصنام
سيروا فأقداس النبوّة تـرتجي مـن مسلميها صحوة النوّام
الرثاء في شعرها:
الرثاء موضوع شديد الصلة بطبيعة المرأة ورقّة حسّها، ودقّة شعورها، وسرعة تأثرها، فهي إنسان تحسن التعبير عن الحزن والأسى، وتستجيب دموعها لكل عارض..
وشاعرتنا ابتُليت بضياع وطنها، وبسقوط زمرٍ من الشهداء من أجل هذا الوطن، وعلى أرض هذا الوطن، فنطق لسانها بمراثٍ لبعض هؤلاء الشهداء ولغيرهم، فحين استشهد خليل الوزير (أبو جهاد) رثته جوهرة بقصيدة ألقتها في أمسية التأبين في الكويت، قالت فيها(14):
أطفأوا المشعل أردوه قتيـلا لن ينـالوا من مسـيرتنا فتيلا
يا ابن هذي الأرض تبقى دائماً ألقَ الشـمس منـاراً ودليلا
صوتك العملاق هدّارٌ فمـا يتوارى كان بالجـذر أصيـلا
يا ابن أرض ثوبها أبناؤها ترتديهـم كلهـم كانوا خليـلا
إنْ يَدُ الغدر أصابت مقتلاً منك ما اسطاعوا إلى القتل سبيلا
أنـت حـيٌّ دائمٌ في دمنا لـو رصاص الغدر أرداك قتيلا
وحين استشهد طارق الجاعوني في الخليل، وجّهت إلى أمه ماجدة الجاعوني قصيدة تُعزّيها فيها بفقيدها، وجعلت عنوانها "إلى أمّ الشهيد" تقول فيها(15):
كلّما نامَ فـي التّـراب شهيـدٌ زادَ عشقاً أحرارهم والشّبابُ
قد رضعنا الصُّمود من ضرع أمّ واكبَ العمرَ في دُناها العذاب
إيـهِ أمّ الشهيـد أنـتِ بـنـاءٌ وشُمـوخٌ وعـزّةٌ وغِـلاب
وحين توفى الله المربية الفاضلة "ميسون كحالة" عام 1993 أبّنتها جوهرة بقصيدة عنوانها "تأبين مربية فاضلة" عدّدت فيها أوصافها الطيبة من ورع وتقوى، وطهر وعفاف، وبذل وعطاء، وقالت(16):
ودّعـت أغلى أحبائي وخلاني وسال دمعي دماً من بين أجفاني
وقلـتُ جـودا أيا عينيّ لا تقفا فإنّ شطراً لروحي بيـن أكفان
وكـنتِ شعلتنا في درب ظلمتنا وكنـتِ واحتنـا .. ماء لظمآن
يا نبعة الحبّ والتحنان كيف لنا مـن بعـد فيضك ينبوع لتحنان
ورثت دلال المغربي التي سقطت شهيدة في إحدى العمليات البطولية عام 1978م ورثت شهداء جامعة بير زيت عام 1986، ورثت غيرهم.
المرأة في شعر جوهرة:
أما المرأة في شعر جوهرة فهي مدرسة مؤثرة في مجتمعها، تحمل رسالة الحبّ والحنان، والعفة والوفاء، والبذل والعطاء، والتربية والتوجيه – يضاف إلى ذلك أن طبيعة المرأة وعاطفتها الجيّاشة وحسّها المرهف، تجري في شرايين هذا الشعر، فقد قادتها أنوثتها إلى الإكثار من استعمال الألفاظ التي تخص المرأة، وتتصل بطبيعتها، وأنماط تفكيرها.. فلنستمع إلى جوهرة وهي تبدو في صورة الواعظة التي تلبس الحجاب، وتقوم بتوجيه أخواتها النساء، وتدعوهن إلى التشبث بأهداب الفضيلة، والتقيّد بأحكام الدين الحنيف، وتنصحهن بالحجاب وغضّ البصر تجنباً للفتنة، فتقول في قصيدة بعنوان "نصائح في الحجاب":
إنّ التّحـلي بالفضيلة مَغنـمٌ وبفـضلها نرقى إلى الجوزاء
ليس الحضارة أن نُزيّن جيدنا بقـلائـد مـن زينةٍ ورداء
اللهُ ما جعلَ الحجابَ فريضةً إلا ليحفظنـا مـن الدّخـلاء
عودي إلى الدين الحنيف فإنه نورٌ يُضيءُ لنا الطريقَ النّائي
وتعرض لنا في شعرها صورة المرأة الجادة، التي ترى أنّ المعركة تحتاج إلى تجنيد كل الطاقات، فتصرح لتوقظ أختها المرأة من رقدتها، وتحملها على أن تنفض عنا غبار الوهن والضعف، وأن تشارك في مسيرة التضحية والفداء، فتقول في قصيدة بعنوان "صرخة"(17)
إيهِ يا أخت يا ابتداءَ ربيعٍ نَـوّرَ الأرضَ في الثّرى، أطلقيه
أعتقي النفسَ للفداءِ وهُبّي حرّضي النورَ في الدُّجى، أعتقيهِ
لا تمرّي وفي عيونك نومٌ اخلـعي الـوهـنَ جانباً، اقذفيه
ثم ترى أن مشاركة المرأة في الكفاح لا يشترط أن يكون بحمل السلاح وخوض غمار المعركة، وهي لذلك تهيب بالمرأة أن تتبرع بالمال والحلي لدعم المناضلين، لأن الوطن أغلى من الذهب ومن كل متاع الدنيا، فتقول في قصيدة بعنوان "الأرض ثم يميننا"(18):
أوَ تُدركينَ بأنَّ دِرهمكِ الذي تَهبينَهُ يمحو أسىً ومُصابا
نَزْرٌ يسيرٌ قد يصيرُ غمامةً يسقي نَداها هضبةً وجنابا
وغداً تَرين بأنَّ هذا حَربةٌ طَعنـتْ لئيماً خائنـاً كذّابا
ولشاعرتنا العديد من الأناشيد والقصائد الاجتماعية المتنوعة التي نجدها متناثرة في دواوينها الشعرية، كما أن لها أعمالاً أدبية ملحنة (أشرطة للأطفال، ومسرحيات).
ملاحظات على شعرها:
* جوهرة السفاريني شاعرة صادقة العاطفة والشعور، واسعة الخيال والتصور، دقيقة في رسم الصورة وتحديد أبعادها، مبدعة في استغلال التشبيهات والاستعارات، قادرة على التلوين والزخرفة، محقّقة لهدفها في مواكبة نكبة شعبها، ورصد أحداثها.. عاطفتها في شعرها موزّعة بين الأمل واليأس، والرجاء والقنوط، فنرى في شعرها رقة الحب، وقسوة التحدي، وكثرة الدموع التي تذرفها على ضياع الأرض، وعلى أطفال الحجارة، وعلى الشهداء والجرحى، وعلى أبواب القدس، وشوارع المدن وحارات القرى(19).
* طُبع الكثير من شعرها بطابع خطابي، وبنبرة تقريرية تفوح منها رائحة الوعظ والتوجيه والنصح، وتقتطع الخطابة جزءاً كبيراً من القصيدة حتى تقترب من تلك الأناشيد الوطنية التي تحاول أن تبعث الوعي والجرأة في صدر أبناء الأمة العربية، لتوقظهم من سُباتهم الطويل، وتذكّرهم بمجدهم الذي أرسى الأجداد دعائمه.
* قصائدها ذات التفعيلة الواحدة –المرسل- أشد حرارة، وأصدق عاطفة، وأرقّ تصويراً، وأوفى إيحاء من القصائد التي التزمت فيها بوحدة البيت والقافية.. ويذهب رجا سمرين إلى أنّ ماء الشاعرية وعفويتها وتدفقها وحرارتها في قصائدها ذات التفعيلة الواحدة هي أكثر بروزاً منها في قصائدها التي التزمت فيها بوحدة البيت والقافية(20).
* سلكت سبيل الرمز –أحياناً- للتعبير عن عواطفها وترجمة مشاعرها، واستعانت في رمزيتها بألفاظ أخذتها من البيئة، ومن بعض مظاهر الطبيعة.
* وعلى كل حال، فإن ما ورد في شعرها من عثرات وزلاّت لا يقلّل من القيمة الفكرية والفنية لشعر جوهرة، ذلك أنها قدّمت عصارة فكرها وعاطفتها ومواهبها، دون أن تدّخر جهداً في صناعة الشعر، وأعطت فَنَّها من وقتها وراحتها ما يكفي وزيادة، وتفاعلت مع الأحداث التي مرّت بها أمتها بكل جوارحها، وتشهد القوافي والسطور التي صدرت عنها أنها شاعرة مرهفة الحسّ، رقيقة العاطفة، نقيّة السريرة، صادقة مع نفسها، يمتلئ قلبها بحب وطنها وبالإخلاص لشعبها وقومها(20).
آثارها الأدبية:
جوهرة السفاريني شاعرة أردنية لها مجهود فكري وأدبي، وهي واحدة مكن النساء الأردنيات اللاتي أسهمن في الأدب.. ومع أن الشاعرة الأردنية مقلّة في إنتاجها الأدبي إلا أن الشاعرة جوهرة قد أسفرت جهودها الأدبية عن ثلاثة دواوين من الشعر مطبوعة، هي:
1 – ديوان "نداء الأرض وحجارة الأعماق".. وهو ديوانها البكر، وكله عن فلسطين، وقد صدر الديوان عام 1984م، وعدد صفحاته (95 صفحة) وعدد قصائده (30 قصيدة).
2 – ديوان "خيول لا تنام".. صدر عام 1999م، وعدد صفحاته (173 صفحة) وعدد قصائده (73 قصيدة).
3 – ديوان "ولينتفض الضوء".. صدر عام 19989م، وعدد صفحاته (158 صفحة) وعدد قصائده (73 قصيدة).
وكانت قد نشرت معظم قصائد الديوانين –الثاني والثالث- في الصحف والمجلات الكويتية والأردنية.
مختارات من شعرها (1):
عتاب الأرض
هذه القصيدة نظمتها الشاعرة عام 1972م، وأجرت فيها حوار عتاب وذكريات.. ذكريات أرض سليبة، كلما دارت بخلدها أقضّت مضجعها، وأثارت في نفسها حسرات تمزّق القلب والروح.
إن الأرض عند شاعرتنا لها قيمة وأيّ قيمة.. فكيف إذا كانت هذه الأرض "أرض فلسطين".. أرض الإسراء والمعراج.. أرض الرباط المقدسة.. أرض المعارك التاريخية بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال.. ولا عجب أن تسمّي شاعرتنا ديوانها البكر "نداء الأرض" وأن تكون عناوين مجموعة من قصائده تحمل هذا الاسم وتتحدث عن الأرض وهي: ثمن الأرض/11، عتاب الأرض/13، يا أرض فداء لعينيك قلبي/15، دمي يوقظ الأرض/27، الأرض والدم/36، يا أرض أنت الأم/38، الأرض ثم يميننا/46، الأرض وأنا/73.
لقد آثرت جوهرة قضية وطنها على كل القضايا، ووضعت فيها كل عالمها الإنساني الأنثوي، فصار الوطن هو الأب والأم، والحبيب والابن، وهو الزينة والحلم.. إنها تحلم بالعودة إلى هذه الأرض والعيش فيها، وتتخيّل نسائم هواها العليل وهي تهبّ عليها فتشجيها، وتشعرها بالفرح والسعادة والطمأنينة.
ومن أجل هذه الأرض فإنها تربي أبناءها على الجهاد في سبيل الله لتحريرها.. ليمضوا نحو تلك الأرض وهم يرفعون أعلام النصر إن شاء الله.
عتابُ الأرض(22)
هاجت الذّكرى شعوري، أخذت=تجذبُ القلبَ وتُرخي الأدمُعا
وألمّ الطّيفُ أذكى هاجساً=ورنا حولي أقضّ المضجَعا
هوّمتْ أنسامُهُ في خافقي=وتلت ذاك النّشيد الأروعا
من حنينٍ وادّكارٍ وهوىً=يُشعلُ الحُبَّ قصيداً مُبدعا
هاهو الليلُ مثيرٌ حولنا=وحواري الجنّ تلقي الأذرعا
ودراريه عيونٌ لِقَطا=أخذت ترنو فتُصمي الأضلُعا
قفزت روحي إلى أعطافه=أطلقَتْ حُبّاً وفيّاً رائعا
آه يا أرضي وقد طافَ بنا=بعضُ ريحٍ منكِ يشجينا معا
ويُنادينا بهمسٍ حالمٍ=لِمَ يا طفلي نسيتَ الأربُعا
قُلتُ آهٍ.. ثم آهٍ وهوى=مزّق الرّوحَ إلى القلب سعى
أنسينا؟ آه يا أمّ بنا=من نوى الغُربة حُزنٌ أمرعا
فمن الحُزن خَلَقْنا حِقدَنا=ومن الغُربةِ أذكينا الدُّعا
ذاتَ يومٍ سوف نمضي خُشّعا=وظبا النّصر حنيناً لَمَعا
طفلُكِ المُبعَدُ جنديُّ فِدا=وكذا الأنباءُ كلٌّ يدَّعى
ما نسينا وبنا تجري دما=كلُّ لونٍ من سنا التُّرب وعى
إنَّ في القلب وجيباً طالما=هزَّ تلك النّفسَ والذّكرى معا
مختارات من شعرها (2)
"رمضان.. ودّع نسور الخليل".. هذه القصيدة نظمتها الشاعرة عام 1994م.. ففي فجر يوم الجمعة 25/2/1994 الخامس عشر من شهر رمضان المبارك، فتح باروخ غولد شتاين النار من رشاشه على المصلين وهم سجود داخل الحرم الإبراهيمي الشريف.. وأعلنت السلطات الإسرائيلية –كعادتها في مثل هذه الأحداث- بأن غولد شتاين مختل عقلياً "مجنون"!!!
ولم يكن اختيار خليل الرحمن مسرحاً للمذبحة اختياراً عفوياً.. إن اختيار الحرم الإبراهيمي بالذات له أهدافه المقصودة.. واختيار فجر الجمعة في منتصف رمضان لا يمكن أن يكون اختياراً من رجل مجنون.. وليس جنوناً أيضاً اختيار لحظة السجود لله تعالى، لتكون لحظة الذبح.
إن ما جرى كان وفق خطة، وكان يوحي بأن فرداً واحداً لا يستطيع أن يقوم بتلك المجزرة، لقد كان غولد شتاين يعمل علناً، وقد شارك من قبل في اعتداءين على الحرم الإبراهيمي الشريف، وكانت الاعتداءات تتكرر يومياً، ولم يحدث أن اتخذت السلطات الإسرائيلية قراراً ضد تصرفات المستوطنين المعتدين، ولقد كان الهجوم على المسجد مدبراً، وتم بتسهيل واضح من السلطات العسكرية.. وأفاد شهود عيان فلسطينيون أن المجزرة نفّذت على أيدي مجموعة من المستوطنين –يصل عددهم إلى خمسة- أطلقوا النار على جميع المصلين في أثناء سجودهم، ولم يتدخل الجيش لوقف المجزرة واعتقال المستوطنين..
وقد تبيّن أن عدد الشهداء الذين سقطوا داخل الحرم زادوا على الخمسين شهيداً، منهم سبعة استشهدوا في المواجهات التي جرت في باحة الحرم، وفي ساحة المستشفى الأهلي في الخليل عقب المجزرة مباشرة، وعلى أيدي قنّاصين استهدف رصاصهم المواطنين الذين كانوا يساعدون في نقل الجرحى إلى المستشفيات.
وقد صدر قرار من مجلس الأمن حول المجزرة، ومما جاء فيه: "إن مجلس الأمن وقد هالته المذبحة الرهيبة التي ارتكبت ضد المصلين الفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل في 25 شباط 1994 خلال شهر رمضان المبارك.. والمجلس يدين بقوة المذبحة التي ارتكبت والأحداث التي أعقبتها مما أودى بحياة ما يزيد على خمسين من المدنيين الفلسطينيين، وأدى إلى إصابة عدة مئات آخرين بجروح".
وانطلقت مظاهرات غاضبة في عدد من البلدان العربية تطالب بالثأر لشهداء الخليل.. وكان لشاعرتنا جوهرة مشاركة بهذه القصيدة..
رمضان.. ودّع نسور الخليل(23)
يا طائفَ الرّوح هل ودّعت سُمّارا=وكنتَ تُزهرُ في الآفاقِ أنوارا
نفحاتُ طيبكَ تُرسلُها فتُغرقُنا=بالخير تجري لكلّ الناس أنهارا
ملأْتَ أكوابنا طييباً فبللنا=وتلك أرواحُنا تشتاقُ أمطارا
وعِشتَ ما بيننا في نسغ أعظُمِنا=وفي الدماءِ فنحيا فيك أطهارا
رمضان غادرتَ.. والأرواحُ ظامئةٌ=تدعو إلهاً عظيم الفضل غفّارا
فجُدْ لنا بحديث القلب واملأنا=بنفح جودكَ أذكاراً وأذكارا
رمضانُ تورقُ في أعماقنا أملاً=بأنْ نكونَ لشمس الحقّ.. أقدارا
وأنْ نُعيدَ سماءَ العزِّ ثانيةً=وأن نُزيل عن الأقداس أكدارا
يا للزّمان مرارتُهُ تُؤاكِلُنا=والحُزنُ خَضْلٌ.. وصار المرُّ مرّارا
أين الأُباةُ الحُماةُ الصّيدُ.. أين هُمُ=رحلوا عن السّاح أين الخيل تدّارى
أرضَ الخليل أتاكَ النورُ فاتَّشحي=بمئزر الفخر حيي اليومَ أحرارا
ما أروعَ الفجرَ والشهداء قد كتبوا=بالأرجوان سطور المجد إصرارا
في جمعة الخمس بعد العشر سال بها=دمُ الأحبّة في رمضان هدّارا
تراهم سُجّداً باعوا لخالقهم=أرواحهم فمضوا لله أقمارا
مُذ عاهدوا الله فالأكفانُ جاهزةٌ=والحقُّ يهديهُمُ درباً وأنوارا
حرم الخليل بكيتَ اليوم مجلسهم=كم يفرح الله بالأحباب سُمارا
أرضَ الخليل هنا التاريخ قد سَطَرَتْ=أقلامه الفخر أمجاداً وإيثارا
تَبَّتْ يدُ الغدر كم جارت وكم غدرت=وكم مددنا لها كفاً وإقرارا
إلامَ نعنو لهم واللهُ غايتُنا=رسولُنا كان والأجدادُ أنصارا
والله معنا يسيرنا.. يسيِّرُنا=فما ارتدينا رضىً ذلاً ولا عارا
لا زال يفجعُني حُزني لمقتلنا=فالذلُّ أعتى حساماً أينما دارا
يا طائفَ الرّوح إذ نادتك أفئدةٌ=فجئتنا بالمنى تلقيه أزهارا
لعلّنا نستحي من عتم أنفسنا=ونبدلُ الذلّ بالإسلام إعصارا
مختارات من شعرها (3)
أين أحفاد خالدٍ وصلاح.. هذه القصيدة نظمتها الشاعرة أيام انتفاضة.. نظمتها وهي توازن بين الأمس التليد المتمثل ببدر واليرموك وحطين وغيرها، والحاضر الغابر المتمثل بضياع القدس وسائر مدن فلسطين.. نظمتها وقد أخذت تغوص في أعماق التاريخ تستنفر التراث، وتلتمس فيه سير الأبطال المجاهدين، فتقف عليهم وتستشهد بهم على البطولة والكفاح، فتشعر بالشّموخ والفخر بالأمجاد، وتطمئن إلى أن أمتها أمة أصيلة، قادرة على أن تستعيد ربى فلسطين وهضابها وجبالها وحقولها، وكل ذرة من ترابها.. فهناك في قلب الأرض المحتلة يؤدي الأبطال دورهم التاريخي الذي قادهم إليه خالد وصلاح الدين، فالتقى بذلك تاريخ الأجداد بتاريخ الأحفاد، وتعانقا والتحم كل منهما بالآخر..
وشاعرتنا في هذه القصيدة تشيد بالطفل المجاهد الذي تجهّز بسلاح جديد نافذ (سلاح الحجارة) وتحثُّ أطفال فلسطين على الثبات في وجه الغاصب المعتدي، وتستنفر فيهم النخوة والشهامة والرجولة، فهم ليسوا أطفالاً عاديين، إنهم أحفاد خالد وصلاح الدين، وسعد وأبي عبيدة.
أيّ بحرٍ يُسابقُ الإعصارا=هائجِ الموجِ يستطيبُ الثّارا
فتيةٌ تحضرُ البطولةُ فيهم=وظلامٌ من حولهم يتدارى
وقفَ الموتُ حائراً في ذهولٍ=وشموسُ تحدّت الأقدارا
كلّما كفّن الترابُ شهيداً=زمجر الموتُ عاصفاً هدّارا
وترى الخيل للميادين تسعى=وسماء تعانق الأطيارا
نفروا اليومَ في السّحورِ تراهم=لصلاةِ القيامِ نوراً ونارا
غدَرَ البغيُ في الشبيبة ليلاً=وسطا اللص في البلاد وجارا
ومضت في الظلام فئران يهوه=تقرضُ الحقّ والأمانَ جِهارا
غير أن الشباب والشيب هبّوا=في ثباتٍ تعاهدوا أحرارا
كلما جفّ من جناهم ربيع=نوّر النّبت في الدّيار ثمارا
يا رجالَ الوفاءِ فينا محوتم=عن ثرى الأرضِ ذُلّنا والعارا
أيها الصّامتون والصّوت فينا=أيقظ النائمين والأحجارا
يا شقيقي سُكوتُكَ الآن ضَيمٌ=ألقِ عنك الهمومَ والأكدارا
قم لحقٍ تمكّن البغيُ منه=فاستحلَّ التُّرابَ والأمصارا
يا رفيقي دعِ الخُضوعَ ونادِ=جئتُ أنضو عن مُقلتيَّ غُبارا
نحن موجُ الإباءِ صرخةُ المجدِ=من لظاها نستعذبُ الإبحارا
صولةُ الحق تستفزُّ شباباً=وصليلُ الظُّباة يعلو الديارا
إيهِ قومي ونحنُ في فكّ وحشٍ=ودمانا قد أصبحت أنهارا
أين أحفادُ خالدٍ وصلاحٍ=أين نلقى الأُباةَ والأنصارا
نَضَبَ البحر من رجائي وأنّتْ=صفحاتي فما هَمَت أشعارا
شامخَ الروح ما يزالُ فؤادي=مُثقلُ القيد من يَفكُّ إسارا
المراجع:
1 – ديوان "نداء الأرض وحجارة الأعماق".
2 – ديوان "خيول لا تنام".
3 – ديوان "ولينتفض الضوء".
4 – مقدمة ديوان "خيول لا تنام" للدكتور كمال جبري.
5 – مقدمة ديوان "نداء الأرض" للدكتور رجا سمرين.
6 – د. كمال جبري: المجهود الفكري والفني في شعر الأديبة الأردنية جوهرة السفاريني
7 – مقابلة مع الشاعرة في عمان بتاريخ 1/3/2000م.
(1) د. كمال جبري: المجهود الفكري والفني في شعر الأديبة الأردنية جوهرة السفاريني، ومجلة اليقظة الكويتية/ 81
(2) د. كمال جبري: المجهود الفكري والفني في شعر الأديبة الأردنية جوهرة السفاريني.
(3) ديوان "نداء الأرض" ص 86
(4) د. كمال جبري: المجهود الفكري والفني في شعر الأديبة الأردنية جوهرة السفاريني.
(5) ديوان "نداء الأرض" ص 19
(6) ديوان "نداء الأرض" ص 25
(7) ديوان "ولينتفض الضوء".
(8) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 201
(9) د. كمال جبري: المجهود الفكري والفني في شعر الأديبة الأردنية جوهرة السفاريني.
(10) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 235.
(11) ديوان "خيول لا تنام" ص 90
(12) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 187
(13) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 195
(14) ديوان "خيول لا تنام" ص 73.
(15) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 210
(16) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 228
(17) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 22
(18) ديوان "نداء الأرض" ص 46.
(19) مقدمة ديوان "ولينتفض الضوء" للدكتور كمال جبري ص14.
(20) مقدمة ديوان "نداء الأرض" للدكتور رجا سمرين ص 10.
(21) د. كمال جبري: المجهود الفكري والفني في شعر الأديبة الأردنية جوهرة السفاريني.
(22) ديوان "نداء الأرض" ص 13.
(23) ديوان "خيول لا تنام" ص 34.
(24) ديوان "ولينتفض الضوء" ص 261