شيخ الإسلام: ابن تيمية
بقلم: محمد كرد علي
ولد بحرَّان سنة إحدى وستين وستمائة، وقدم مع والده وأهله إلى دمشق، وكانوا قد خرجوا من بلاد حرَّان مهاجرين بسبب جور التتار وقدموا دمشق سنة سبع وستين.
طلبه للعلم
سمع الحديث من أئمته في دمشق، وسمع "مسند" أحمد مرات، و"معجم" الطبراني الكبير، والكتب الكبار والأجزاء.
وعُني بالحديث، وقرأ بنفسه الكثير، ولازم السماع مدة سنتين، ونسخ وانتقى وكتب الطباق والأثبات، وتعلم الخط والحساب في المكتب، واشتغل بالعلوم وحفظ القرآن، وأقبل على الفقه، وقرأ أياماً في العربية على ابن عبد القوي ثم فهمها، وأخذ يتأمل كتاب سيبويه حتى فهمه، وبرع في النحو وأقبل على التفسير إقبالاً كلياً حتى حاز فيه قصب السبق، وأحكم أصول الفقه، كل هذا وهو ابن بضع عشرة سنة، فعجب الفضلاء من فرط ذكائه، وسيلان ذهنه وقوة حافظته، وسرعة إدراكه.
ذلك ما قاله من ترجموا له في نشأته.
أخلاقه
أما أخلاقه فقالوا:
إنه نشأ في تصوُّن تام، وعفاف وتألُّه، واقتصاد في الملبس والمأكل، ولم يزل على ذلك خُلُقاً صالحاً، براً بوالديه تقياً ورعاً عابداً ناسكاً صواماً قواماً، ذاكراً لله تعالى في كل أمر، وعلى كل حال، رجّاعاً إلى الله تعالى في سائر الأحوال والقضايا، وقّافاً عند حدود الله تعالى وأوامره ونواهيه، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، "فارغاً من شهوات المأكل والملبس والجماع، لا لذة له في غير نشر العلم وتدريسه، عرض عليه منصب قاضي القضاة ومشيخة الشيوخ فلم يقبل".
وقبل وظائف والده في التدريس وله إحدى وعشرون سنة.
وكان والده من كبار الحنابلة وأئمتهم، ودرس هو بعده، فاشتهر أمره وبَعُدَ صيته في العالم، وما أتى له ثلاثون سنة، حتى كان من أعظم علماء عصره، بل أعظم عالم في عصره، لا تكاد نفسه تشبع من العلم، ولا تروى من المطالعة، ولا تمل من الاشتغال به، ولا تكل من البحث، وقل أن يدخل في باب من أبواب العلوم إلا وفتح له من ذلك الباب أبواب، واستدرك أشياء في ذلك العلم على حذّاق أهله.
وكان يحضر المجالس والمحافل في صغره، فيتكلم ويناظر ويفحم الكبار، ويأتي بما يحار منه أعيان البلد، وشرع في الجمع والتأليف وله نحو سبع عشرة سنة.
قال الحافظ الزملكاني:
- كان إذا سئل عن فن من الفنون ظن الرائي والسامع أنه لا يعرف غير ذلك الفن، وحكم أن أحداً لا يعرف مثله.
وكان الفقهاء من سائر الطوائف إذا جلسوا معه استفادوا من مذاهبهم منه ما لم يكونوا عرفوه قبل ذلك، ولا يعرف أنه ناظر أحداً فانقطع معه، ولا تكلم في علم من العلوم سواء كان من علوم الشرع أو غيرها إلا فاق فيه أهله والمنسوب إليه. وكانت له اليد الطولى في حسن التصنيف، وجودة العبارة والترتيب والتقسيم والتبيين.
وقالوا فيه: وأخذ في تفسير الكتاب العزيز أيام الجمع على كرسي من حفظه، فكان يورد ما يقوله من غير توقف ولا تلعثم، وكذا كان يورد الدروس بتؤدة وصوت جهوري فصيح.
وانتهت إليه الإمامة في العلم، والعمل، والزهد،، والورع، والشجاعة، والكرم، والتواضع، والحلم، والأناة، والجلالة، والمهابة،، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع الصدق، والأمانة، والعفة، والصيانة، وحسن القصد، والإخلاص، والابتهال إلى الله تعالى، وشدة الخوف منه، ودوام المراقبة له، والتمسك بالأمر، والدعاء إلى الله تعالى، وحسن الأخلاق، ونفع الخَلْق والإحسان إليهم.
وكان رحمه الله سيفاً مسلولاً على المخالفين، وشجىً في حلوق أهل الأهواء والمبتدعين، وإماماً قائماً ببيان الحق ونصرة الدين،، طنَّتْ بذكره الأمصار، وضنَّتْ بمثله الأعصار.
وقال الذهبي:
- إنه صار من أكابر العلماء في حياة شيوخه... ولعل تصانيفه في هذا الوقت تكون أربعة آلاف كراس وأكثر، وفسَّرَ كتاب الله تعالى مدة سنين من صدره أيام الجمع، وكان يتوقد ذكاء، وسماعاته من الحديث كثيرة، وشيوخه أكثر من مئتي شيخ، ومعرفته بالتفسير إليه المنتهى، وحفظه للحديث ورجاله وصحيحه وسقيمه مما لا يُلْحَقُ فيه، وأما نقلُه للفقه ولمذاهب الصحابة والتابعين، فضلاً عن مذاهب الأربعة، فليس فيه نظير، وأما معرفته بالملل والنحل، والأصول والكلام فلا أعلم له فيه مثيلاً، ويدري جملة صالحة من اللغة، وعربيته قوية جداً، وأما معرفته بالتاريخ والسِّيَر فعجب عجيب.
قال: فإذا ذُكر التفسير، فهو حامل لوائه، وإن عُدَّ الفقهاء، فهو مجتهدهم المطلق، وإن حضر الحفاظ نطق وخرسوا، واستزيد وأبلسوا، واستغنى وأفلسوا.
وإن سُمِّي المتكلمون، فهو فَرْدُهم وإليه مرجعهم، وإن لاح ابن سينا يقدم الفلاسفة، فلَّسَهُمْ وبخسهم وهتك أستارهم، وكشف عوارهم.
وله يد طولى في معرفة العربية والصرف واللغة.
وهو أعظم من أن تصفه كلمي، أو تبينه إشارة قلمي.
وقال في مكان آخر:
- وله خبرة تامة بالرجال وجرحهم وتعديلهم وطبقاتهم، ومعرفة بفنون الحديث، وبالعالي والنازل، وبالصحيح والسقيم، مع حفظه لمتونه الذي انفرد به، فلا يبلغ أحد في العصر رتبته، ولا يقاربه، وهو عجيب في استحضاره واستخراج الحجج منه، وإليه المنتهى في عزوه إلى "الكتب الستة" و"المسند" بحيث يصدق عليه أن يقال: كل حديث لا يعرفه ابن تيمية فليس بحديث ولكن الإحاطة لله، غير أنه يغترف فيه من بحر، وغيره يغترف من السواقي.
وقال أيضاً: كان يقضى منه العجب إذا ذكر مسألة من مسائل الخلاف واستدل ورجح، وكان يحق له الاجتهاد لاجتماع شروطه فيه.
قال: وما رأيت أسرع انتزاعاً للآيات الدالة على المسألة التي يوردها منه، ولا أشد استحضاراً للمتون وعزوها منه، كأن السنة نصب عينيه، وعلى طرف لسانه، بعبارة رشيقة وعين مفتوحة..
ومن خالطه وعرفه قد ينسبني إلى التقصير فيه، ومن نابذه وخالفه قد ينسبني إلى التغالي فيه، وقد أوذيت من الفريقين من أصحابه وأضداده..
وكان أبيض، أسود الرأس واللحية، قليل الشيب، شعره إلى شحمه أذنيه، كأن عينيه لسانان ناطقان، ربعة من الرجال، بعيد ما بين المنكبين، جهوري الصوت فصيحاً، سريع القراءة، تعتريه حدة لكن يقهرها بالحلم...
وقال: تعتريه حدة في البحث وغضب تزرع له عداوة في النفوس.
كتب الذهبي إلى السبكي يعاتبه بسبب كلام وقع منه في حق ابن تيمية فأجابه:
وأما قول سيدي في الشيخ تقي الدين، فالمملوك يتحقق كبير قدره، وزخارة بحره، وتوسعه في العلوم النقلية والعقلية، وفرط ذكائه واجتهاده وبلوغه في كل من ذلك المبلغ الذي يتجاوز الوصف، والمملوك يقول ذلك دائماً، وقدره في نفسي أكثر من ذلك وأجل، مع ما جمعه الله له من الزهادة والورع والديانة ونصرة الحق والقيام فيه، لا لغرض سواه، وجريه على سنن السلف، وأخذه من ذلك بالمأخذ الأوفى، وغرابة مثله في هذا الزمان، بل من أزمان.
وقال ابن سيد الناس:
- إنه برَّز في كل فن على أبناء جنسه، ولم تر عين من رآه مثله، ولا رأت عينه مثل نفسه.
محنة ابن تيمية
بدأت محنة شيخ الإسلام لما تمت أدواته وشاعت فتاويه في مسائل وجد منها حساده مدخلاً لهم، فناقشوه وكفّروه وبدّعوه، واعتقله الولاة وغرّبوه.
وكان منذ سنة تسع وتسعين و(ستمائة) ظهرت شخصيته السياسية في البلاد، وبدأ تعويل الأمة عليه في دفع أعدائها عنها في نوبة (غازان) فقام بأعباء الأمر بنفسه، واجتمع بنائبه وجرؤ على المغول وتوجّه بعد ذلك بعام إلى الديار المصرية لما اشتد الأمر بالشام من المغول، واستصرخ بأركان الدولة وحضّهم على الجهاد، ثم عاد بعد أيام إلى دمشق، وظهر اهتمامه بجهاد التتار وتحريضه الأمراء على ذلك إلى ورود الخبر بانصرافهم، وقيامه القيام المحمود في وقعة (شقحب) سنة اثنتين وسبعمائة واجتماعه بالخليفة والسلطان،، وأرباب الحل والعقد، وتحريضهم على الجهاد.
ثم توجهه في آخر سنة أربع وسبعمائة لقتال الكسروانيين واستئصال شأفتهم.
ثم مناظرته للمخالفين في سنة خمس في المجالس التي عقدت له بحضرة نائب السلطنة الأفرم، وظهوره عليهم بالحجة والبيان، ورجوعهم إلى قوله طائعين ومكرهين.
ثم توجهه بعد ذلك في السنة المذكورة إلى الديار المصرية، في صحبة قاضي القضاة الشافعية، وعقدهم له مجلساً حين وصوله بحضور القضاة وأكابر الدولة، ثم حبسه في الجب بقلعة الجبل، ومعه أخواه سنة ونصفاً.
ثم إخراجه بعد ذلك، وعقدهم له مجلساً ظهر فيه على خصومه، ثم عقدهم له مجلساً سنة سبع لكلامه في طريقة الاتحادية ثم الأمر بتسفيره إلى الشام على البريد، ثم الأمر برده من مرحلة وسجنه بحبس القضاة سنة ونصفاً، ثم إخراجه منه وتوجيهه إلى الإسكندرية، وجعله في برج، حبس فيه ثمانية أشهر.
ثم توجهه إلى مصر واجتماعه بالسلطان في مجلس ضم القضاة وأعيان الأمراء وإكرامه له إكراماً عظيماً ومشاورته له في قتل بعض أعدائه، وامتناع الشيخ عن ذلك.
ثم سكناه القاهرة، ثم توجهه إلى الشام، ثم ملازمته بدمشق لنشر العلوم وتصنيف الكتب وإفتاء الخلق.
إلى أن تكلم بمسألة الحلف بالطلاق، فأشار عليه بعض القضاة بترك الإفتاء بها في سنة ثماني عشرة (وسبعمائة)، فقبل إشارته دفعاً للفتنة، ثم ورد كتاب السلطان بعد أيام بالمنع من الفتوى بها، ثم عاد الشيخ إلى الإفتاء بها وقال:
"لا يسعني كتمان العلم"
وبقي كذلك مدة إلى أن حبسوه بالقلعة خمسة أشهر وثمانية عشر يوماً، ولم يزل على عادته من الاشتغال والتعليم.
إلى أن ظفروا له بجواب يتعلق بمسألة شد الرجال إلى قبور الأنبياء والصالحين، وكان أجاب به من نحو عشرين سنة، فشنعوا عليه بسبب ذلك، وورد مرسوم السلطان في شعبان من سنة ست وعشرين بجعله في القلعة، فأخليت له قاعة حسنة وأقام فيها ومعه أخوه يخدمه، فكتب في المسألة التي حبس بسببها مجلدات عديدة وظهر بعض ما كتبه واشتهر، وآل الأمر إلى أن منع من الكتابة والمطالعة، وأخرجوا ما عنده من الكتب، ولم يتركوا له دواة ولا قلماً ولا ورقاً، وكتب عقيب ذلك بفحم. وكان إخراج الكتب من عنده من أعظم النقم، وبقي أشهراً على ذلك، وأقبل على التلاوة والعبادة والتهجد حتى أتاه اليقين.
* * *
هذا مجمل ما قيل في حال شيخ الإسلام، ومع ما حاول أعداؤه أن ينغصوا عيشه، دأب في كل زمن على التأليف، فألف ثلاثمائة مجلد وكلها في الشرع، وفي حل مسائل عويصة من الدين تقرأ فيما وصلنا منها مثالاً من علمه النفيس، وعمله الذي عقمت القرون أن يأتي رجل بما يماثله.
كثرت تآليفه، لأنه كان يؤلف من صدره، حفظ الكتاب والسنة وما دُوِّنَ في شروحهما، وما قاله العلماء في تفسيرهما، وقد ساعدته كثرة محفوظه، وفيض خاطره، وسعة بيانه على تدوين حقائق لم يُكتب لعالم مثلُه في موضوعه، ولو لم يكن له إلا "منهاج السنة" لكفاه على الأيام فخراً لا يبلى، ففيه مثال من علمه وقوة حجته، ومعرفته بالملل والنحل، وإذا قلنا: إنه لم يؤلَّفْ نظيرُه في الردّ على المخالفين لأهل السنة، لصدّقنا كل منصف من أهل القبلة.
وكتاب "منهاج السنة" من أصح الشهادات على علو كعبه في معرفة الشرع وما تقلَّب عليه، وما حاول بعض أهل الأهواء من العبث به، وفيما أورده الموافقون والمخالفون من صحيح الآراء وبهرجها، وكان عنوان مداركه الواسعة بتاريخ الإسلام، وتاريخ الملل والنحل.
ولو ادعينا: أنه لم يأت عالم (مثله) يعرف ما طرأ على الدين ومذاهب أهله فيه ساعة ساعة ويوماً يوماً ما قدر أحد على رد دعوانا.
رد على المعتزلة، وعلى الجهمية، وعلى الشيعة وعلى الفلاسفة، وعلى غيرهم. فجاء بالعجيب من الآراء التي استخرجها من روح الشريعة واستنبطها ببعد نظره، وشدة بحثه، فما كُتب لإمام من الأئمة في عصره وبعد عصره أن يناقضه ويرد أقواله.
وعلى كثرة ما حرص الشافعية للتفوق على هذا الحنبلي، وإقناع العلماء بفتاويهم وتزييف فتاويه، ما كانوا معه إلا كالأطفال أمام الرجال، وفي مقدمتهم المشايخ بنو السبكي، وما كان لهم في دولة مصر والشام من السلطان.
اعتقلوه في القاهرة والإسكندرية أشهراً لم تمنعه عن التأليف والتدريس والوعظ، وما حالوا دون إعجاب المنصفين من العلماء به وقول الحق فيه، ولا دون تقديس الأمة له يوم موته، وهي التي عرفته سبّاقاً إلى كل خير يقصد منه صلاح دنياها ودينها، وكان له في انتصار دولة المماليك على التتار اليد الطولى التي لا تنكر، ودل أنه في السياسة كما هو في الدين إمام عظيم، وأن الدين لا ينفصل عن السياسة في نظره.
وما سَمع لأحد علماء الدين في عصره صوتٌ مثلُ صوته، في إحقاق الحق، ونصرة سلطان الإسلام.
ونسبه قوم إلى أنه يسعى في الإمامة الكبرى، فإنه كان يلهج بذكر ابن تومرت ويطريه، فكان ذلك مؤكداً لطول سجنه.
ولم يرض يوم عَقد الصلح مع التتار أن يتخلى عن الأسرى من النصارى واليهود، وقال:
"إنهم ذمتنا ولا بد من إرجاعهم إلى ديارهم".
وكم له من مثل هذه الحسنات التي أصبحت كأنها قواعد من قواعد الشرع والسياسة، لا يستغني عنها خليفة ولا سلطان.
إن استعانة خصوم ابن تيمية بقوة رجال الدولة في مسألة شد الرحال إلى قبور الأنبياء والأولياء والصالحين، وفي غير ذلك من البدع التي أقروها، والشريعة تنكرها إنكاراً ظاهراً!! كما يفهم من آي الكتاب العزيز، وهدي الصحابة والتابعين والعلماء العاملين، واغتباطهم بما ظنوه ظفراً لهم، في تلك المعركة الشديدة- قد كان من نتائجه مسخ الشريعة عند المتأخرين، وبقيت الأمة على إقرار الخرافات والبدع، إلى يوم الناس هذا في بلاد المسلمين كافة، وكأنهم اخترعوا شريعة أخرى، استمالوا بها العوام ومزجوها بالشريعة الأصلية، رغم أنوف الخواص فركبوا عار الأبد، ولُعنوا بما بدّلوا وحرّفوا، وهو لم يأت ببدع، وهم سلّموا بكل البدع، فكان العالم العامل حقاً، وكانوا عبدة أوهام وضلالات.. أراد شرعاً نقياً من الأدران، وهم تساوت عندهم النقاوة والنفاية، لأنهم يقصدون بمناقشاتهم الظهور، وكسب قلوب الغوغاء على أي حال.
لو عمّتْ دعوة ابن تيمية - ولدعوته ما يماثلها في المذاهب الإسلامية ولكنها عنده كانت حارة، وعند غيره فاترة - لسلم هذا الدين من تخريف المخرفين على الدهر، ولما سمعنا أحداً في الديار الإسلامية يدعو لغير الله، ولا ضريحاً تشد إليه الرحال بما يخالف الشرع، ولا يعتقد بالكرامات على ما ينكره دين أتى للتوحيد لا للشرك، ولسلامة العقول لا للخبال والخيال.
كان ابن تيمية في النصف الثاني من عمره سراجاً وهاجاً أطفأ بعلمه وعمله شهرة أرباب المظاهر من القضاة والعلماء، وكان الصدر المقدم كلّما دخل في موضوع ديني أو سياسي، وعبثاً حاول بعض الشافعية والمالكية أن يسلموه للعامة علهم يقتلونه فما استطاعوا أكثر من حجز حريته أشهراً في سجن، وكان الملوك يحمونه من تعصب خصومه ويعرفون قدره.
وكان الملك الناصر صاحب مصر يرفع من مقام ابن تيمية كثيراً، وأراد أن يقتل من أفتوا بخلعه من العلماء، وحثه على أن يفتيه في قتل بعضهم، فأنكر أن ينال أحداً منهم بسوء، وقال له:
- إذا قتلت هؤلاء لا تجد بعضهم مثلهم.
فقال له:
- إنهم آذوك وأرادوا قتلك مراراً.
فقال الشيخ:
- من آذاني فهو في حل، ومن آذى الله ورسوله فالله ينتقم منه، أنا لا أنتصر لنفسي.
وما زال به حتى حلم عنهم السلطان وصفح.
وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول:
- ما رأينا مثل ابن تيمية.. حرَّضنا عليه، فلم نقدر عليه، وقدر علينا، فصفح عنا وحاجج عنا.
فعل هذا ابن تيمية وخصومه يقولون:
- يجب التضييق عليه إن لم يقتل، وإلا فقد ثبت كفره.
ونحن نقول:
- إن هذا هو الفرق العظيم بين أخلاقه وأخلاق مشاكسيه، ثم كانوا ممن يهتمون لدنياهم ومظاهرهم، وهو كان يهتم للأخرى فقط، وشتان بين المطلبين.
كان يهتم لنظر الدين والقضاء على البدع بقلبه ولسانه وقلمه، وهمهم أن يرضى عنهم السلطان فيبقيهم في مناصبهم ويستميلوا العامة فيقبّلوا أيديهم.
هو يقول لنائب قلعة دمشق في فتنة غازان:
- لو لم يبق فيها إلا حجر واحد، فلا تسلمهم ذلك إن استطعت.
فسلمت القلعة من أذى التتار، وكان يدور كل ليلة على الأسوار يحرض الناس على الصبر والقتال، ويتلو عليهم آيات الجهاد والرباط.
وكذلك كان شأنه في وقعة شقحب، وكان يعد المسلمين بالنصر هذه المرة، ويؤكد كلامه في ذلك حتى نُصروا على عدوهم.
وفي قتال الجرديين والكسروانيين، أبان أيضاً عن سياسة رشيدة، وأرجع بعض الناشزين من أهلها إلى الإسلام.
من أهم المسائل التي حاول حساد ابن تيمية أن ينالوا بها منه: مسألة شد الرحال إلى قبور الصالحين وغيرهم.
قال ابن كثير:
- إن جواب ابن تيمية في هذه المسألة ليس فيه منع زيارة قبور الأنبياء، والصالحين، وإنما فيه ذكر قولين في شد الرحل والسفر إلى مجرد زيارة القبور.
وزيارة القبور من غير شد رحل إليها مسألة، وشد الرحل لمجرد الزيارة مسألة أخرى.
والشيخ لم يمنع الزيارة الخالية عن شد رحل بل يستحبها، ويندب إليها وكتبه ومناسكه تشهد بذلك، ولم يتعرض إلى هذه الزيارة في هذا الوجه في الفتيا، ولا قال: إنها معصية، لا حكى الإجماع على المنع منها، ولا هو جاهل قول الرسول صلى الله عليه وسلم:
"زوروا القبور فإنها تذكّركم الآخرة".
وثار عليه مرة جماعة من الحسدة، وشكوا منه أن يقيم الحدود، ويعزر، ويحلق الرؤوس أيضاً، وتكلم هو فيمن يشكو منه ذلك وبيَّنَ خطأهم.
وراح مرة في ثلة من أصحابه ومعهم حجّارون وأمرهم بقطع صخرة، كانت بنهر قلوط بدمشق تزار وينذر لها، فقطعها وأراح المسلمين منها ومن الشرك بها، فأزاح عن المسلمين شبهة كان شرها عظيماً.
وله اختيارات كثيرة في مجلدات عديدة أفتى فيها بما أدى إليه اجتهاده، واستدل على ذلك من الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والسلف.
رجل هذا شأنه يكفره القاضي المالكي، ويحاول قتله - والتعزير عند المالكية القتل - ولا تشتفي نفوس بعض العلماء والسياسيين حتى ينادى بدمشق:
من اعتقد عقيدة ابن تيمية حل دمه وماله خصوصاً الحنابلة.
قال ابن كثير:
- وبهذا، وأمثاله حسدوه وأبرزوا له العداوة، وكذلك بكلامه بابن عربي وأتباعه فحسد على ذلك وعودي، ولم يصلوا إليه بمكروه، وإنما أخذوه وحبسوه بالجاه.
قال: ولم يزل الشيخ ملازماً الاشتغال في العلوم، ونشر العلم، وتصنيف الكتب، وإفتاء الناس بالكلام والكتابة المطولة والاجتهاد في الأحكام الشرعية.
ففي بعض الأحكام يفتي بما أدى إليه اجتهاده من موافقة أئمة المذاهب الأربعة، وفي بعضها يفتي بخلافهم وبخلاف المشهور في مذاهبهم.
وجمعوا الحنابلة من صالحية دمشق وغيرها، وأشهدوا على أنفسهم أنهم على معتقد الإمام الشافعي.
قال الصلاح الصفدي: كان كثيراً ما ينشدني:
تَـموتُ النـفوس بأوصابها ولم يـدرِ عُوـَّادُها مـا بها
ومـا أنصفتْ مُهجةٌ تشتكي أذاهـا إلى غـير أحـبابها
وأنشد على لسان الفقراء (جماعة الطرق):
واللهِ مـا فَقرُنا اختيارُ وإنمـا فـقرنا اضطرارُ
جمـاعةٌ كلُّـنا كُسالى وأكـلُنا مـا لـه عِيار
تَسمعُ منا إذا اجتمعنـا حـقـيقةً كلها فَشـَار