في الذكرى التاسعة لوفاة الداعية الكبيرة زينب الغزالي
في الذكرى التاسعة
لوفاة الداعية الكبيرة زينب الغزالي
بدر محمد بدر
كان ذلك في أحد أيام الشتاء من شهر ديسمبر عام 1982, حين طلب مني أستاذي الصحفي الكبير جابر رزق رحمه الله رحمة واسعة أن نزور الداعية الكبيرة "زينب الغزالي", وأبلغني بأنها في حاجة إلى سكرتير إعلامي يساعدها في ترتيب وإنجاز أعمالها الدعوية والصحفية, وأنه يرشحني لهذه المهمة, بعد أن أستشار الأستاذ عمر التلمساني, حيث كنت أعمل محرراً صحفياً بمجلة الدعوة منذ أواخر السبعينيات حتى أغلقها الرئيس السادات فيما عرف بأزمة سبتمبر 1981.
سعدت كثيراً بهذا الترشيح أو التكليف الذي يسمح لي بالاقتراب من واحدة من الشخصيات العظيمة في حقل الدعوة الإسلامية في القرن العشرين.. ذهبنا ـ أنا والأستاذ جابر رزق الذي كان بمثابة أحد أبنائها في الدعوة, وأحد زملائها في قضية الإخوان المسلمين عام 1965 إلى منزلها في حي مصر الجديدة بالقاهرة, واستقبلتنا بترحاب كبير كما اعتادت مع ضيوفها, وتعرفت منها على المهمة المطلوب مني إنجازها, والطريقة التي تفضلها .. ومنذ ذلك التاريخ المؤثر في حياتي ومستقبلي بدأت رحلتي الجميلة معها, أزورها يوم الاثنين من كل أسبوع, أجلس معها في مكتبها الموجود في غرفة مكتبتها, منذ الصباح وحتى تنتهي الأعمال, بعد أن يرخي الليل سدوله على الدنيا.
كنت أرتب لها مواعيدها الصحفية ولقاءاتها الإعلامية وأحضر بعضها, وأقرأ لها بعض الموضوعات الصحفية المنشورة أو أبواب من الكتب الجديدة أو فصول حول موضوع معين, وأناقشها في بعض الردود على الخطابات التي تصلها, وكانت بالعشرات أسبوعياً, ثم أصوغها وأضعها بعد ذلك في صندوق البريد, وأدفع كذلك بمقالاتها لبعض الصحف والمجلات, كما أتابع دور النشر التي تتولى طباعة كتبها, وأسافر معها إلى المؤتمرات التي تدعى إليها, ومنها مؤتمرات في باكستان والأردن والجزائر, وغيرها من مهام.
ارتاحت الداعية الكبيرة التي كانت قد جاوزت السادسة والستين من عمرها في ذلك الوقت, بينما كنت في الرابعة والعشرين لأسلوبي وطريقتي في العمل معها, بينما كانت بالنسبة لي نعم الأم الرءوم والأخت الكبيرة والأستاذة العظيمة والمربية الحانية والمجاهدة الواعية والداعية الصابرة.
كان عملي واقترابي من السيدة زينب الغزالي نعمة من نعم الله علي, أحمد الله كثيراً وأشكره عليها, فقد قرأت كتابها الشهير "أيام من حياتي" وأنا طالب في السنة الأولى في الجامعة عام 1977, وتأثرت به أيما تأثر لما لاقته من أهوال التعذيب في سجون عبد الناصر, ولم أتوقع أبدا أن يكرمني الله بالقرب منها والعمل معها, وأعتبر من فضل الله علي أنني تربيت دعوياً وإيمانياً ووجدانياً بالقرب منها لمدة 23 عاماً حتى توفيت في الرابع من أغسطس من عام 2005.
لقد سافرت معها في رحلات دعوية عديدة, فما ازددت في كل الأحوال والظروف إلا احتراما لها وتقديرا لجهادها واعتزازا بصمودها, وقد تأثرت بمنهجها الدعوي الرباني الوسطي, ونظرتها الاجتماعية الواعية, وخلقها العالي الرفيع, وصبرها الطويل الجميل, وصمودها الصخري الشامخ, واعتزازها الهائل بدينها ودعوتها, ويقينها الواثق من انتصار دعوتها ورسالتها.
عاشت زينب الغزالي لله قلباً وقالباً, تستعذب الصعاب والآلام والمتاعب مادامت هي الطريق الصحيح لإعادة المسلمين إلى دينهم, صبرت وضحت وبذلت ولم تضعف أو تستكين أو تستعجل الثمرة, عاهدت الله منذ نعومة أظفارها أن تكون له وحده, وأن تسعى لإرضائه حباً فيه وحباً في رسوله صلى الله عليه وسلم, وإيماناً بأنه لا صلاح للبشرية إلا بسيادة الإسلام وتطبيق مبادئه.. لم تقترب من السلطان طمعاً في مغنم أو خوفاً من بطش أو رغبة في أمان, بل كانت تعيش بقوة الحق, وشموخ الغاية, وعزة الإيمان, وهي على قناعة بالآية الكريمة: (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون).
آمنت بمنهج الإخوان المسلمين, وسرى في عروقها مسرى الدم والنفس, بوسطيته واعتداله وعمق رابطة الأخوة فيه, ووضوح منهجه في الدعوة إلى الله, وثقة في القادة الذين يحملونه, وانطلقت تحلق في آفاق الدعوة, وتضع نصب عينيها واقع الأمة الإسلامية وموقعها في العالم كله, فلم تكن محدودة الوطن بل انطلقت إلى العالمية فعرفتها الأمة بأسرها, بل ربما كانت مشهورة في بعض البلدان أكثر من شهرتها في وطنها مصر!
كانت المجاهدة الكبيرة رائدة في العمل الإسلامي, ليس على مستوى المرأة المسلمة فقط, ولكن على المستوى الإسلامي كله, وفتحت بيتها لكل العاملين للإسلام, ورغم الصعوبات والضغوط والعراقيل.
كانت زينب الغزالي وستظل بإذن الله النبراس الذي يضئ طريق الداعيات إلى الله, على منهج رسول الله (صلى الله عليه وسلم), والآن جاء دور تلامذتها ومحبيها والعارفين فضلها, لينشروا هذا النور ويعمقوا هذه المعاني التي عاشت لها داعيتنا الكبيرة.
وفي يوم الأربعاء 3 من أغسطس 2005 صعدت روحها إلى السماء, وصلى عليها كوكبة من محبيها, ودفنت بمقابر القطامية بمصر الجديدة.. رحمها الله رحمة واسعة.