في كتًاب الشيخ علي أبو العيش
في كتًاب الشيخ علي أبو العيش
الشيخ علي أبو العيش |
د. ماجد عرسان الكيلاني |
في صباح أحد الأيام وأنا في الخامسة من عمري أيقظتني الوالدة من نوم لم أذقه، إذ قضيت الليلة أتقلب في فراشي بين الرغبة و الرهبة مما ينتظرني في الصباح، مشغولاً بتصور حياتي الجديدة التي أخبرني بها الوالد والوالدة وحدثني عنها بعض من سبقوني إليها وهي:
الالتحاق ب"كتُاب الشيخ علي أبو العيش"
ألبستني والدتي دراعة مبطنة بالفرو وسروالاً،ولا أدري هل لبست صندلاً أم قبقاباً خشبياً،ثم ربتت على كتفي وطبعت على خدي قبلة حنونة بينما يعلو السرور والفرح وجهها قائلة:
_حبيبي ماجد!أريدك شاطراً(أي حاذقاً)! احفظ القرآن، وتعلم الكتابة،وأتقن الدراسة، واسمع للشيخ علي!
فقلت: ولكن سمعت إنه لديه-فلقة-؟ يضع القدمين فيها ويضرب بالعصا.
فقالت:لا! لا! الفلقة للأولاد الكسالى، أما المجتهدون المؤدبون فالشيخ يحبهم!لا تخف! سترى!
واصطحبني والدي إلى كتُاب الشيخ علي أبو العيش ، ووصلنا الكتُاب ورأيت الشيخ بلحيته السوداء وقمبازه الشامي، ورأيته وهو يحرك عمته الدمشقية إلى الأمام وإلى الخلف، وخطر ببالي أن أسأله أين الفلقة لكني خفت!
رحب بي الشيخ وسألني :لماذا جئت إلى هنا؟
قلت:أريد أن أدرس القرآن والكتابة والحساب!
قال:شاطر! ممتاز، وربت على كتفي، فازددت شجاعة وابتسمت وتسرب الاطمئنان إلى نفسي.
وكانت فاتحة الدروس تعليمي الفاتحة: فقرأتها وحفظتها بسرعة، فقال:ممتاز، ممتاز جداً
وعدت عند الظهر إلى البيت وتلوت لوالدتي سورة الفاتحة فسرت بي و تشجعت وصرت أنتظر اليوم الذي يلي واذهب إلى الكتُاب .
لقد جاء الشيخ علي من قرية عمراوة المجاورة ليفتح كتُابا في قرية الشجرة بعد أن درس في مدينة دمشق ودرس على شيوخها الذين اشتهروا بالعلم والفضل مثل الشيخ بدر الدين الحسني وإخوانه الذين كانوا آيةً في العلم ومثل في التقوى.
صووووووووووووووووووووووووووورة من السكنننننننننننرررررر
والواقع أن الشيخ علي أبو العيش كان شخصية أسلامية فاضلة وعالماً جليلاً يكرس وقته في خدمة الإسلام وإرشاد الناس وتعليم النشء. ولقد قدم للقرية-صغاراً وكباراً- إرشاده ووعظه في المسجد، وكان يأخذ التلاميذ بالرعاية العلمية والعملية. وكان بتكوينه النفسي معلماً ممتازاً،ثم انتقل من التعليم إلى الوعظ وظل طوال عمره مكرساً جهوده لزيادة علمه وتعليمه. وإيمانا منه بتعليم المرأة فقد وضع ابنتيه –بدرا وبدرية- ليدرسا في الكتُاب وانضمت إليهما بنت ثالثة. لا اذكر اسمها
وكانت مناهج الدراسة كالتالي:
1-تلاوة القرآن الكريم وحفظ أجزاء منه غيباً.
2-دراسة السيرة النبوية والخلفاء الراشدين.
3- تعلم الحساب والخط اليدوي.
4- حفظ نماذج من الشعر العربي الذي يبحث في الحكمة والأخلاق و الحماسة مثل شعر الإمام علي بن أبي طالب، والشافعي و المتنبي.
كانت دراستي في مكتب الشيخ علي أولى محطات حياتي التي سعدت فيها حيث وجدت نفسي في المكان الذي أحب والمناسب لقدراتي واتجاهاتي النفسية، ولذلك أقبلت على دراسة القرآن الكريم بشغف وحماس، وحين أعود إلى البيت أتلو على والدتي ما حفظت فتطبع على خدي قبلتها الحنونة قائلة:
-وفقك الله يا ولدي ورعاك!! هكذا أريدك!
وخلال دراستي في كتُاب القرآن وجدت التشجيع و الثناء من الشيخ علي الذي كان يثني علي حينما كنا ندعوه للعشاء والسهر وقت مجيء عمي-محمد- الذي كان ظابطاً لامعاً في الجيش الأردني وكان يأتي إجازة في آخر كل شهر وتقام له وليمة عشاء يدعى له الأصدقاء و الجيران والأقارب، وتستمر السهرة بعد تناول الطعام. فإذا امتلأ الديوان بالسمًار طلب مني عمي –محمد- أن أقف وألقي على أسماع الحضور ما أحفظ من الشعر أو الخطب. فكنت أقف وألقي من قصائد الإمام علي بن أبي طالب والشافعي و المتنبي وغيرهم مما حفظته في كتًاب الشيخ علي.
ولازلت أذكر إعجاب عمي بشعر علي بن أبي طالب الذي يقول فيه:
ألا إنما الدنيا كمنزل راكبٍ = أناخ عشيا ًوهو في الصبح راحل
ومثله شعر المتنبي، مثل قوله:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى = حتى يراق على جوانبه الدم
وأحياناً يطلب مني تلاوة سور القرآن التي تعلمتها. فإذا انتهيت صفق الحضور وأجلسني عمي بينه وبين الشيخ علي و ربت على كتفي ومسح على رأسي ونظر إلى والدي قائلاً:
-دعه يتعلم في الكتاب ثم سلمه إلي لأضعه في مدارس عمان.
وكانت لي نشاطات في مكتب الشيخ علي اعتبرت شارة نبوغ بالنسبة لغمري. فكان هناك في الأردن جريدة يومية تصدر باسم الدفاع. لقد فكرت يوماً وقلت لماذا لا أصدر صحيفة، وبالفعل أصدرت صحيفة سميتها (الشجرة) نسبة إلى القرية وسميت نفسي رئيس التحرير. وكان هناك تلميذٌ آخر يدعى خالد صبيح المعاني سميته المحرر المسؤول.
والصحيفة عبارة عن طبق من الورق الكبير قسمناها إلى أعمدة: عامود للآيات القرآنية، وآخر للأحاديث النبوية، وثالث لشعر الحكمة، وخصصنا مكانا للإعلانات عن دكاكين القرية: مثل( دكان قاسم الجيزاوي) و(أحذية أبو فرجة) و(زيت كاز أبو شهلة) و(ملحمة العبد أبو داوود).
ومع المتعة التي كنت أجدها من الدراسة في –مكتب الشيخ علي أبو العيش- إلا أن حياتي لم تخلو من المضايقات التي كانت تأتي من (عمي موسى) رحمه الله الذي كان يكبرني بثلاث سنوات ويدرس معي في مكتب الشيخ علي. وكان ظريف الشكل، قوي البنية، قصير القامة، ممتلئ الجسم، ذي شعر طويل، ولشدة نشاطه كان يلقب ب(الصامد) وهو الاسم الذي اشتهر به في ما بعد.ولكنه من ناحية الدراسة كان يصعب عليه الحفظ، بطيء التعلم.فإذا سبقته بالسور القرآنية، أو تغلبت عليه في إلقاء الشعر أمام عمي محمد وسمع الثناء علي من الحضور ثارت حفيظته وانتظرني في الخارج ودخلنا في مشاجرة غالباً ما أكون أنا المغلوب فيها لولا نجدة والدي و الشيخ علي.
ولكن عمي موسى كان سنداً لي إذا كان الحاسد أحد تلاميذ القرية حيث ينقلب مصارعاً قوياً يهرب الجميع أمامه ويحسبون حسابه. واستمر عمي محمد يشجعني ويمثل القدوة الحسنة لي حتى استشهاده في 18-4-1948م في معركة النبي يعقوب شمال القدس وهي المعركة التي ذكرها القائد عبد الله التل في مذكراته التي أصدرها أخوه أحمد التل وقد ذكر في هذا المذكرات جاء لنجدتهم من رام الله، كذلك أورد نبأ استشهاده رئيس أركان الجيش آنذاك صادق الشرع في مذكراته.
ختمة القرآن الكريم
في السنة الثانية من دخول مكتب الشيخ علي أنهيت تلاوة القرآن والجزء المخصص للحفظ وقمت بالاستعداد لحفلة (الختمة).
وفي اليوم المعين للحفلة رتب الشيخ علي التلاميذ في صفين متوازيين، وكان عددهم حوالي أربعين تلميذاً، ثم وضعني على رأس الصفين وانطلق الموكب إلى دار والدي بينما التلاميذ ينشدون:
طلع البدر علينا = من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا = ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا =جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة = مرحباً يا خير داع
وكانت المسافة بين الكتاب ودارنا حوالي نصف كيلو متر وكنا نمر في الطرقات لنجد الناس رجالاً ونساءً قد خرجوا لرؤية الموكب وهم يتساءلون: من الذي ختم القرآن؟ ويأتي الجواب: إنه ماجد بن عرسان، ثم تبدأ الأدعية لي بطول العمر وتهنئة الوالدين.
وصل الموكب إلى دارنا ووجدنا الأهل و الأقارب والأرحام في استقبالنا و اصطف التلاميذ في صحن الدار وشكلوا دائرةً وضعوني في منتصفها ثم وزع والدي الحلوى على التلاميذ و الحضور، ثم عاد الموكب إلى الكتاب وبقيت أتلقى التهاني و القبلات والدعاء بالتوفيق.
واستمر الشيخ علي في تدريبي وتشجيعي فقد أعطاني الفرصة لأن أخطب وأتحدث في المسجد الذي كان إماما له فزاد ذلك في تأثري وشخصيتي.
لقد كانت(حفلة ختم القرآن الكريم) أول مناسبات النجاح والانجاز في حياتي وأغلاها. فقد أحسست في أعماقي أنني صرت من أهل القرآن وعلي التخلق بأخلاق القرآن ذلك أن ختم القرآن في هذه السن المبكرة قد أمدني بالانتماء والهوية وما زال يوجهني في محطات العمر ووقائعه.
لقد كانت دفعتي الدفعة قبل الأخيرة ممن درسوا في كتاب الشيخ علي أبو العيش، فقد اضطر إلى إغلاق الكتُاب بسبب تحول التلاميذ إلى المدرسة التي أنشئت في القرية آنذاك واستبدلوا تلاوة القرآن بكتب القراءة المصورة واذكر أن منها كتاباً يبدأ الدرس الأول فيه بكلمات:
عَوعَو صَوصَو = عَوعَو صَوصَو
وتحت كل من الكلمتين صورة جرو وصوص صغير، أما الكتاب الثاني فقد كان يبدأ الدرس الأول منه ب( حمارك في بطنك) وكتاب ثالث ب( جدتي والذئب).
وهذه الدروس وأمثالها تجعل الطفل يؤثر الدنيا على الآخرة ويؤدي إلى قيام مجتمع علماني همه الكسب المادي واللهو والمتع الشهوانية دون أن يحسب حساباً لله سبحانه وتعالى.
وإن من مكتشفات علم النفس الإنساني أن مكونات الخصية الناضجة تبدأ في خبرات الطفولة الأولى ثم ترسخ في محطات العمر التالية.
لقد تقاذفتني بعد ذلك تيارات الثقافة والتعليم والأنماط المختلفة للحياة في أقطار الأرض التي زرتها وفي كل محطات العمر التي مررت بها كان الضمير الذي تكون في داخلي في كتاب الشيخ علي يخرج من كمائن صدري ليبصرني إذا مسني طائف من الشيطان فاذكر الله وأتذكر أخلاق القرآن. وما زلت أزور الشيخ علي في داره لأجد روحه الوثابة في قمة النشاط، وليحدثني في الثقافة والعلم وإشعار الحكمة وألوان الأدب والفكر. فهو واحة ثقافية في صحراء العصبيات المتناحرة والنفعية التي أشاعتها نظم التربية الحديثة وتطبيقاتها العلمانية في ميادين الحياة المختلفة.
جزا الله فضيلة الشيخ علي أبو العيش خير الجزاء سائلاً المولى تبارك وتعالى أن يبارك في عمره وأن يجعل مأوانا وإياه جنة الفردوس في صحبة إمام المتقين وقدوة المعلمين المخلصين محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. والحمد لله رب العالمين.