الأميري.. ورحلة البحث عن شهادة الميلاد
15تشرين22008
باسل الرفاعي
الأميري..
ورحلة البحث عن "شهادة الميلاد"!!
عمر بهاء الدين الأميري
باسل الرفاعي
[email protected]
أحسنت مجلة "الأدب الإسلامي" صنعاً، وأجادت حينما خصّصت عددها الستين الأخير للحديث عن الشاعر الراحل عمر بهاء الدين الأميري، وأفسحت فيه المجال للعديد من الدارسين والمهتمين فتناولوا شخصية الأميري وشعره بالعرض والتحليل، وتوقفوا عند جوانب عدّة من حياته وعطائه، فأثروا العدد بحق، وأدّوا بمجموعهم بعضاً من واجب التكريم والتقدير لهذا الشاعر الكبير.
وحياة الأميري وشخصيته التي كانت أوسع من حدود الشعر الذي عرفه به أكثر الناس، ومن مدى الأدب وحده، تستحق دراسات كثيرة وتناولاً مختلفاً، غير أنّ من ألحّ بدهيات الحديث عن شخصية متميّزة كالأميري، أن نعرف تاريخ ميلاده رحمه الله، وهو أمر ـ على بساطته ـ اختلفت فيه الروايات وتعددت حوله الأقوال، ولذلك فلم يكن مستغرباً أن تخطئ مجلة "الأدب الإسلامي" في تحديد ذلك التاريخ، وقد سبقها إلى خطئها كثيرون غيرها، كان الأميري نفسه واحداً من بين هؤلاء!!
أرقامٌ.. وأوهام!
تُجمع أغلب الروايات والمصادر التي تعرّضت لحياة الأميري على أن مولده حدث في مدينة حلب السورية خلال العقد الثاني من القرن العشرين، لكن الاختلاف سرعان ما يظهر لحظة الحديث عن سنة ذلك الميلاد!
فابتداء، وبالعودة إلى جواز السفر المغربي الذي ظلّ الأميري يحمله حتى آخر أيام حياته، والذي أحتفظ بنسخة منه أذِنَ لي الأميري بتصويرها خلال تسجيل لقاء صحفي معه أواسط الثمانينات، تمّ تحديد سنة الميلاد بعام 1915 م.؛ وذهبت مصادر متقدمة، ككتاب "من هو" الموسوعي (1)، ومثيله "من هم في العالم العربي" (2) اللذين اعتمدا على معلومات مستقاة من أصحاب التراجم أنفسهم، إلى تسجيل ميلاده بعام 1916 م.
وفيما أفادت مجلة "الشهاب" المصرية التي عرضت عام 1948 م. نبذة عن حياة الأميري (3)، نقلاً عنه كما يفترض، أنه من مواليد سنة 1329 هـ. وهو ما يوافق عام 1911 م.، فإن عبد الحليم خلدون الكناني، الصديق المقرّب للأميري، أفاد في دراسة مطوّلة عن شعره أنه من مواليد عام 1917 م. (4)؛ على حين ذهب أحد الباحثين المعاصرين الذي تبنّت كتابه "جمعية العاديات" السورية إلى تحديد سنة الميلاد بعام 1923 م. (5)!
ولقد أورد موقع "رابطة أدباء الشام" في ترجمته للأميري أنّ ولادته كانت سنة 1914 م.، وانفردت "اثنينيّة" عبد المقصود خوجة (6)، والملحق الثقافي لصحيفة "الجزيرة" السعودية (7)، ومجلة الفيصل (8)، من بين جميع ما اطلعتُ عليه من صحف ومجلات ومصادر مختلفة، فأفادت بأنّ الأميري من مواليد عام 1918 م.؛ وأورد ذلك أيضاً الدكتور خالد الحليبي في رسالته المطبوعة عن الأميري، لكنه مال إلى ترجيح عام 1916 م. اعتماداً على اثنتين من قصائد الأميري أشار فيهما إلى سنّه، رغم ما أورده من قيامه شخصياً بالاطلاع على جواز سفر للأميري في منزله بحلب صادر عام 1939 م. وقد حمل التاريخ الأول 1918 م. (9)!
وثائق متعارضة!
ولقد كان ملفتاً للنظر أنّ دواوين الأميري ومؤلفاته التي صدرت في حياته، حملت في معظم طبعاتها نبذة عن دراسته ووظائفه ونتاجه الشعري والأدبي، من غير أن يرد في أي منها ذكر لسنة ميلاده، غير أنّ الأميري تعرّض لهذا الأمر في أواخر سنيّ حياته، وذكر ـ فيما نقله عنه وليد السامرائي في رسالة تقدّم بها لنيل شهادة الماجستير بإحدى جامعات لندن (10)، والتي نقل عنها الحليبي في رسالته (11) التي نقلت عنها مجلة "الأدب الإسلامي" كما يبدو ـ بأنّ والده احتفى به وأرّخ ليوم ولادته على ورقة "روزنامة" بالتاريخ الهجري والشرقي، وكتب عليها بخطه الأنيق كلمة دعاء للمولود الجديد الذي أسماه "عمر صدقي"؛ وأفاد الأميري بأن هذه الورقة بقيت بين أوراقه ووثائقه التي خلّفها في حلب، لكنه احتفظ في ذاكرته أن ميلاده بالتاريخ الهجري كان في يوم 29 من جمادى الأولى، من غير أن يتذكر العام، وعندما قام بمعادلة التاريخين الهجري والشرقي بالتاريخ الميلادي، تبيّن له أن ولادته كانت في عام 1916 م. (12)!
ولقد وقفت بنفسي على صورة للأميري في مقتبل العمر ضمن ما تبقى من تراثه في المغرب، كُتب تحتها بخط والده على الأغلب: "سحب هذا الرسم في حلب نهار الأحد المصادف 3 ذي الحجة 1347 و 12 مايس 29؛ وعمر في الثالثة عشرة من سنيه"، واليوم والشهر وفق هذه الوثيقة يخالفان ـ كما هو واضح ـ ما سبق وأفاد به الأميري، فإذا استعملنا جدول مقابلة التواريخ الهجرية بالميلادية وجدنا أن تاريخ الميلاد ـ وفق هذا المصدر ـ كان سنة 1916 م. الموافق لسنة 1334 هـ.
على أن تعارض الوثائق والروايات لا يقف عند هذا الحدّ، ذلك أن وثيقة أخرى لا تقلّ أهمية اطلعت عليها بين أوراقه، هي صورة عن قيد سجلّه المدني في حلب تمّ استخراجها عام 1959 م. أفادت بأن تاريخ ميلاده هو عام 1915 مصححاً عن عام 1918 م.؛ وكأنما استبق الأميري تساؤلنا فكشف للسامرائي أنه عندما ترشّح للانتخابات النيابية عام 1949 م. اضطر إلى إجراء ذلك التغيير في سجل الأحوال المدنية حتى يكون ضمن السن القانونية التي تتيح له حق الترشيح، وأنه قد استعان بموافقة ممثل الأحوال المدنية آنذاك في التغيّب عن حضور محاكمة التصحيح ليحكم له بدعواه دون تقديم شهود!
وعندما كتب السامرائي في دراسته، التي بعث بها إلى الأميري ليراجعها، متمنياً أن تتاح لأحد الباحثين فرصة الاطلاع على ورقة "الروزنامة" التي أشار الأميري إليها، فيتأكد من التاريخين ويحسم الأمر، شطب عمر الأميري هذه الفقرة بأكملها، وكتب إلى جانبها بخط يده عبارة: "ما أهمية ذلك؟"؛ وظلّ عمر الأميري إلى آخر حياته لا يملك وثيقة تؤكد تاريخ ولادته بشكل قطعي، ولا يعير الأمر كثير اهتمام، ولذلك فلم يكن مستغرباً أن يشير إلى سنّه في بعض أبيات قصائده ويخطئ في تحديدها، فهو قد جعل ـ على سبيل المثال ـ عنوان إحدى قصائد ديوان "أبوّة وبنوّة" المخطوط: "في الثلاثين"، وكتب في تقديم القصيدة التي نشر بعضاً من أبياتها في ديوان "أمي" (13) أنه أنشدها وهو في عتبات الثلاثين ليلة ذكرى مولده، وكان تاريخها 29 جمادى الآخرة 1364 هـ. وهو ما يوافق شهر حزيران/يونيه عام 1944 م.، مما يجعل تاريخ ميلاده وفق ذلك عام 1914ـ1915 م.؛ ولا يخفى أن الأميري أخطأ هنا في تحديد السنة والشهر أيضاً، فأفاد أنه "جمادى الآخرة" بينما سبق ورأيناه يحدث السامرائي عن أن مولده تمّ في شهر "جمادى الأولى" كما جاء على ورقة "الروزنامة" تلك!
وكذلك فعل الأميري في قصيدته "ألوان من وحي المهرجان" التي كتبها عام 1975 م. وأفاد في أحد أبياتها أنه ابن تسع وخمسين سنة، مما يستوجب أن يكون تاريخ مولده هو عام 1916 م. (14)، وعندما سألت هاشم منقذ الأميري عن تفسير هذا الاضطراب في تحديد سنّ والده، أرجع الأمر إلى الفوضى التي رافقت انتقال التوثيق من مرحلة الدولة العثمانية إلى الدولة السورية، مؤكداً أن الذي يعرفه من فم الوالد أنه ولد عام 1916، وأنّ زيادة سنة في عمره أو إنقاص سنة لا يقدّم في النهاية ولا يؤخّر!
معادلة بسيطة!
ولم يكن الأمر يحتاج كل ذاك العناء، وما كان تحديد عمر الأميري بهذه الصعوبة، لو أننا قسنا ميلاده إلى سنة قطعية الثبوت وقارنّا بينهما؛ ولعل من أدلّ ما يمكن التعويل عليه بهذا الصدد هي سنة 1936 م. التي تخرّج فيها الأميري من الثانوية العامة، وسافر في شهرها قبل الأخير للدراسة في فرنسا (15)، وكان وقتها على عتبة الثامنة عشرة من عمره، كما تكون سنّ كل من أنهى الدراسة الثانوية، وكما ذكر بنفسه في حديثه مع وليد السامرائي عن ذكريات "باريس"؛ وبعملية حسابية بسيطة، نستنتج ـ بناء على ذلك ـ أنّ تاريخ ميلاده الأرجح هو عام 1918 م.
ويعزّز هذا الاستنتاج أيضاً ما أورده الأميري خلال إحدى تسجيلاتي معه، وورد في تسجيله مع السامرائي أيضاً، من أنه كتب في مقتبل عمره قصيدة في رثاء ملك الأفغان "نادر شاه"، نظمها وعمره 15 سنة؛ فإذا علمنا أن وفاة الملك كانت عام 1933 م.، أدركنا مرة أخرى أنّ ميلاد الأميري ينبغي أن يكون بناء على ذلك عام 1918 م.
ختاماً، وبانتظار العثور على ورقة "الروزنامة" المفقودة، أو دليل آخر جديد، يظل تحديد يوم ميلاد الأميري والشهر الذي ولد فيه ضرباً من التكهنات، والأمر بمجمله صفحة واحدة من حياة حافلة لرجل عظيم، تستحق المزيد من الدراسة والتحليل والتحقيق.