إسهامات الحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية

إسهامات الحركة الإسلامية

في شبه القارة الهندية

عبد العزيز كحيل

[email protected]

يتميز المسلمون في شبه القارة الهندية بحرارة الإيمان منذ احتضان تلك البلاد الشاسعة للرسالة الإسلامية وقد تجسدت تلك الحرارة في صور إيمانية رائعة شملت مجالات خدمة السنة النبوية والتزكية النفسية والجهاد في سبيل الله ونشر اللغة العربية.

وبرزت أسماء علمية وجهادية لامعة خلدها التاريخ مثل الكندهلوي وجلال الدين الرومي ومحمد إقبال إلى جانب مؤسسات راسخة القدم في الدعوة والعلوم الشرعية ولغة الضاد تشهد على أصالة تلك البلاد رغم عجمتها،وألمع تلك المؤسسات في الحقبة المعاصرة:الجماعة الإسلامية المنتشرة بفروعها في دول شبه القارة الثلاث(الهند،باكستان، بنغلاديش)وكذلك ندوة العلماء ذائعة الصيت ورابطة الأدب الإسلامي بالإضافة إلى عشرات الجامعات والمعاهد الإسلامية الراقية المستوى الغزيرة الإنتاج،وعلى كثرة العلماء والدعاة في ذلك الجزء من العالم فإن الله تعالى قد خص ثلاثة منهم بشهرة كبيرة حيث تربعوا على عرش العمل الإسلامي إلى درجة   لا ينافسهم فيها أحد هناك في القرن العشرين،هؤلاء هم أبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي ووحيد الدين خان الذين تعدت شهرتهم حدود شبه القارة الهندية ليمتد أثرهم إلى الدنيا كلها والبلاد العربية أساسا فتنتشر كتبهم وأفكارهم وتؤتي ثمارا طيبة تدفع المشروع الإسلامي أشواطا كبيرة،ولكل واحد منهم منهج خاص وعطاء متميز يصب في خدمة الإسلام فكرا وممارسة.

1_الإمام المودودي:

ارتبط اسمه بالجماعة الإسلامية التي أسسها في لاهور في مطلع الثلاثينات وكان قد بدأ جهاده الدعوي قبل ذلك وعمره 16عاما ولم ينقطع عطاؤه حتى لقي ربه في22-09-1976، ومثل الإمام الشهيد حسن البنا فقد تزوج الدعوة وأخلص لها حياته وأسلم لها فؤاده وقاد حركة البعث الإسلامي وسط جهل المسلمين وعداوة الهندوس و الانجليز فعرف السجون والحكم بالإعدام والمضايقات لكنه واظب على خط جماعته الذي كان ومازال متمسكا بالهدوء والاعتدال والعمل العميق الدؤوب فألف الكتب والرسائل وأنشأ الجرائد وجاب أطراف البلاد محاضرا وداعية،ومع أنه كان يكتب باللغة الأردية فقد اكتشفه قراء العربية منذ مطلع الخمسينات حيث انطلق تعريب كتبه ومحاضراته وتوزيعها على نطاق واسع فساهمت في تثقيف جيل الصحوة وترشيده لعمق طروحاتها وأصالة منهجها وقد ألمت بجوانب الفكر والدعوة والحركة وأهمها:المصطلحات الأربعة-مبادئ الإسلام-الحجاب-تذكرة دعاة الإسلام-تفسير"تفهيم القرآن"،لكن الميدان الذي برز فيه الإمام  رحمه الله وتخصص فيه هو ما أطلق عليه العلمانيون مصطلح"الإسلام السياسي"فقد عمق نظرية الإسلام السياسية وأحسن بلورتها في عدة رسائل جمع أهمها في الكتاب المسمى"نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور " إلى جانب كتابه"الخلافة والملك"وله اجتهادات سياسية لها مكانتها عند علماء الإسلام.

هذا وقد أثر أبو الأعلى رحمه الله على شباب الصحوة بعلمه وجهاده وتعدى تأثيره إلى المفكرين والدعاة،ويكفي أن نذكر تأثر الشهيد سيد قطب الواضح به فقد أخذ عنه الحاكمية" ونشره كما أشاد به في مواضع متعددة من الظلال وكان يسميه"المسلم العظيم"،ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه،وللعلم فإن المودودي هو الذي وضع البرامج التربوية للجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة بطلب من الملك فيصل رحمه الله عند افتتاحها مطلع  الستينات من القرن العشرين

2_الأستاذ أبو الحسن الندوي:

لو لم يكن لهذا الرجل من الفضل إلا تنشيط ندوة العلماء التي ينسب إليها وخدمة العربية لكفاه،لكن له أياد بيضاء في كثير من ميادين البذل فقد عني طول حياته بتزكية النفوس والأرواح بالتربية الإيمانية الهادئة إلى جانب الإسهام الفعال في إخصاب الفكر الإسلامي وتعريف البلاد العربية برجالات شبه القارة الهندية وعظمائها في العصر الحديث،وقد عرفته المنطقة العربية هو الآخر منذ مطلع الخمسينات حيث قام إليها برحلة طويلة تعرف من خلالها عن كثب على جماعة الإخوان وكبار رجالها وبدأ يطبع كتبه بالعربية مباشرة في القاهرة وكان ممن تأثر بهم الشهيد سيد قطب الذي قدم لكتابه العظيم "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين"الذي أصبح سيد يحيل عليه في الظلال وغيره من الكتب،ورغم تقدمه في السن بقي صاحب حياة صوفية حقيقية كثير التأليف والتنقل والتدريس عبر أطراف العالم الإسلامي ويلمس القارئ روحانيته البديعة في كل كتبه وعلى رأسها تحفته"ربانية لا رهبانية"الذي أعاد فيه الصوفية التي سنيتها وحقيقتها الجهادية،كما ألف في التربية"التربية الإسلامية الحرة" وفي التاريخ"رجال الفكر والحركة"و"إذا ذهبت إلى رياح الإيمان"وغيرها من المجالات،وهو المبادر إلى تأسيس"رابطة الأدب الإسلامي"لأنه أيضا أديب عالي الكعب راسخ القدم ،كيف لا وقد عرف محمد إقبال عن قرب وتذوق أشعاره الرائعة، والمعروف عن الأستاذ أبي الحسن رحمه الله تمسكه الشديد بالوسطية وإيثاره للتغيير المرحلي المتدرج وحبه بل وتعشقه للعربية لغة أجداده،فهو حسني ينتسب إلى العترة النبوية وبالذات إلى الحسن بن علي رضي الله عنهما وهكذا جمع بين النسب الرفيع والحضور المؤثر في الساحة الإسلامية الهندية والعربية والعالمية...وبقي صاحب حضور قوي في مجالات العمل الاسلامي حتى لقي ربه عام 1999

3_الأستاذ وحيد الدين خان:

هذا الرجل نسيج وحده ،فهو صاحب تكوين علمي مدني لكن قارئ كتبه يحسبه متخصصا في القرآن والسنة لرسوخه في علومهما،وهو بعيد في تأليفاته عن الاجترار كل البعد لا يكاد يخلو فصل من كتبه من فهم جديد أو لفتة بديعة أو قراءة غير مسبوقة، ويمكن إجمال إبداعه في ثلاثة محاور:

1_علم الكلام القرآني: حيث يقترح استبدال علم جديد مبني على الحقائق القرآنية الكونية والنفسية بعلم الكلام القديم عديم الفائدة،وذلك من شأنه مبارزة الإلحاد ومخاطبة العقل المعاصر بأدواته،وهذا المحور موجود في كثير من كتبه وخصص له كتابه الفذ "الإسلام يتحدى".

2_ أما المحور الثاني فهو المنهج الدعوي حيث يقترح اعتماد المنهج الطبيعي في التغيير المستند إلى العمل الهادئ الموجه للقلوب والعقول بالدرجة الأولى بعيدا عن المواجهة مهما كان نوعها وذلك حفاظا على نصاعة الرسالة وقدسية الدعوة

3_ ويتناول المحور الرئيسي الكبير في كتبه نقد الحركات الإسلامية المعاصرة وهو نقد لاذع مرير يحيط بكل جوانب عملها ورغم ما فيه من غلو في بعض الأحيان إلا أنه صحيح بنسبة 80بالمائة كما قال د.عبد الحليم عويس وجاء كرد فعل على الغلو في تسييس الدعوة الإسلامية،وقد عيب على الأستاذ وحيد الدين قلة اهتمامه بأمر الجهاد بل وتهوينه من شأنه وقد يكون في ذلك شيء من الصواب لكن الملم بفكر الرجل يدرك أنه يقصد مواجهة العقلية القتالية التي استولت على الشباب الإسلامي وتصحيح مسار الذهن المسلم الذي أصبح صانعا للموت بدل الحياة باسم الجهاد،ومهما يكن فيجب ألا يستغني أبناء الحركة عن مؤلفاته البديعة ومنها:"حاضرنا ومستقبلنا في ضوء الإسلام"-"قضية البعث الإسلامي"-"حكمة الدين"-"الإنسان القرآني"،ولا يجوز الانتقاص من قيمة الرجل لمجرد جرأته وحريته الفكرية كما فعل بعض الأفاضل عفا الله عنهم الذين تسرعوا واتهموه بالماسونية مع أنه عالم نحرير وداعية قدير،وكل يؤخذ من كلامه ويترك إلا الرسول صلى الله عليه وسلم.