الشيخ محمد رشدي مفتي حقبة في فرد

د. أحمد عبد الهادي

د. أحمد عبد الهادي

كنت في الثالثة عشرة من عمري عندما وجدت نفسي في رعاية رجل أعطاني من علمه ورسم لي خطوط شخصيتي أكثر مما فعله أبواي ومدرستي وسائر المعلّمين الذين تركوا بصماتهم على مسيرة حياتي. كان اسم هذا الرجل: محمد رشدي مفتي. ولد الشيخ محمد رشدي في حي (صباغين إسلام) من مدينة اللاذقية في سورية المباركة عام (١٩٢٩م)، ترعرع في كنف عائلته وكان المحبوب المدلل منذ الصغر من والديه وأقاربه وكل من عرفه أو قابله لما حباه االله من سمات شخصية تميزه عن باقي أقرانه.

كان يكبرني بما يقرب من عشرة أعوام، ولكنّه كان يكبرني بالثقافة والحكمة عشرين أو ثلاثين عاماً، وكانت السنوات الخمس التالية التي قضيتها تحت جناحه (٩٥٣ ١ – ١٩٥٨) الخزان الأكبر الذي نبعت منه جداول حياتي واهتماماتي الدينية والثقافية والفكرية، وظلّت

تسيطر عليها حتى هذه اللحظة. كانت سورية في أوائل الخمسينيات تشهد انعطافةً خطيرةً في التوجهات الدينية، ومن ثم السياسية والفكرية، ولقد قُدر للشيخ رشدي مفتي أن يشارك في النشاطات الدعوية والانتخابية والسياسية للدعوة في مراحلها الأولى ولما يبلغ العشرين من عمره.

وكان الشيخ ممن درس في السعودية فسافر إلى الرياض ليكمل هناك دراسته الجامعية في علوم الشريعة، ومع تأثره بالفكر السلفي لم تكن أفكار الشيخ محمد بن عبد الوهاب لتحد من استقلالية الخطّ الفكري للشيخ رشدي، فقد كان له دائماً شخصيته الفكرية الخاصة التي ميزته بين أقرانه.

فالمبدأ الذي اختطّه حسن البنّا لدعوته والذي يقوم على أن "دعوة الإخوان دعوةٌ صوفيةٌ سلفية" كان يتعارض مع دعوة ابن عبد الوهاب الذي حارب الصوفية والتصوف أيا كان شكلهما، ولكن الشيخ رشدي كان السلفي الذي لا يتنازل عن العقل في محاكمته للأشياء وللآراء الفقهية المختلفة، بغض النظر عن الآراء المتوارثة عند العلماء في هذا المجال، ما دامت هذه المحاكمة لا تتعارض مع النص القرآني أو النبوي. وكان في الوقت نفسه الصوفي الحقيقي، ليس بالمعنى المذهبي المتعارف عليه، ولكن بمعنى الزهد والتقشّف والروحانية ونكران الذات والسعي في سبيل مصالح الآخرين بغض النظر عن النتائج المترتّبة على ذلك. كان صوفياً في عباداته وصيامه وقيامه وأوراده وأذكاره في الغدو والآصال والأسحار، ولا أذكر فترةً في حياتي انصرفت فيها إلى الذكر وقراءة الأوراد وقيام الليل وحفظ القرآن الكريم كتلك التي قضيتها في رعايته.

ولكن أهم ما كان يميز الشيخ رشدي عن كثيرٍ ممن حملوا أو تأثّروا بالدعوة السلفية وبدعوة البنّا معاً؛ هو الدماثة والظَّرف وروح النكتة الحاضرة التي كثيراً ما كانت تخلّصه من بعض المواقف المعقّدة أو الأسئلة المحرجة، كما كانت تقربه من قلوبنا، ومن ثم تفتح للإسلام

طريقاّ أخضر بهيجاً واسعاً في هذه القلوب التي كثيراً ما نفّرها عن البيئة الإسلامية خشونة العلماء وجفاء المريدين.

وأذكر، حين أصر عمه الدكتور (عادل مفتي) أن يكرمه مرةً فأقام له في منزله حفل عقد قرانه؛ أن الدكتور عادل وزع على الحضور، فيما وزعه من حلويات، قطعاً من الشوكولاته مغلّفةً

بصورة مثيرة لفتاة شقراء، فقلنا للشيخ رشدي معلّقين بخبث:

- ما هذا يا شيخنا؟! صور فتيات في عقد قران الشيخ رشدي؟!

وبسرعة عجيبة أجابنا على سؤالنا بسؤالٍ آخر:

- وماذا ستصنعون بقطعة الشوكولاته؟

- سنأكلها طبعاً.

- وماذا ستفعلون بالورقة التي غُلّفت بها؟

- سنرميها طبعاً.

- وهذا ما أردناه من توزيعها عليكم: أن تمزقوها وترموها وتدوسوها بأرجلكم هكذا..

وضحكنا وضحك الشيخ رشدي، وهو يعلم ونحن نعلم أنّه لم يكن له أصلاً أي دورٍ في اختيار نوع الضيافة وقد تكفّل بها وبكلّ مصاريف الحفل عمه الطيب الكريم الدكتور عادل مفتي رحمه الله.

وهناك من أقواله الطريفة التي ذهبت مذهب الأمثال بين تلاميذ الشيخ وأحبابه، ومثال ذلك: عندما وقعت حرب ٧٣ ١٩م، وكان للاذقية الحظ الأوفر من تلقي الضربات والغارات الجوية والبحرية بشكل يومي، وقد تتكرر الغارة على المدينة في اليوم الواحد لأكثر من مرة باعتبارها الميناء الأساس لسورية، وكان الشيخ يسكن قبالة الميناء، فخاف عليه الأصحاب والأقرباء وطلبوا منه مرارا وتكرارا الذهاب إلى بيت أحدهم لعله يكون أكثر أمنا بالبعد عن المناطق المستهدفة، فكان جوابه الرفض دائما، ولكن بعد الضغط والإلحاح رضخ للمطالب فذهب وأسرته إلى بيت أحد الأقارب وهو في الدور الأرضي في عمارة مرتفعة، وفي الليلة الأولى وبعد منتصف الليل استيقظ الشيخ على مداعبة فأرة لأصابع رجليه، فلم تهنأ عيناه بنوم

إلى الصباح حيث جمع متاعه، وقفل إلى بيته راجعاً، وعندما عوتب لم يزد عن مقالته المشهورة وبأسلوبه الطريف: (الغارة ولا الفارة)، فذهبت تلكم العبارة مذهب الأمثال.

ولم تكن هذه الروح الخفيفة هي وحدها التي تميزه عن أكثر السلفيين والدعاة، فالاعتدال والمرونة والأخذ بالأيسر كان مما يميز فتاواه وأجوبته لنا عن كلّ مسألة أو ملمة نلجأ بها إليه.

لم ينقطع عطاء الشيخ رشدي، -بخروجه من بلده- ولم تفتر همته في الدعوة إلى االله، وخدمة هذا الدين القيم، ولم ينزل بلداً في مشوار هجرته إلا وكان مقصدا لمحبي العلم من الطلبة والعلماء ينهلون من واسع علمه، وعميق تجربته، وبالغ حكمته في الدعوة إلى االله تعالى،

وكان بيته مضافة مشرعة الأبواب، لا يرد زائرا، بل يستقبل كل من قصده بابتسامته المعهودة، وأدبه الجم، دون كلل أو ملل، ولم يكن مريدو الشيخ وزواره ينتسبون إلى مذهب دون آخر، بل اجتمع الجميع على حب الشيخ، فتجد في مجلسه كل أطياف الفكر الإسلامي من صوفيين وسلفيين وإخوان وعوام وبعض العلمانيين من أتباع العديد من الأحزاب، ونعرف بعض هؤلاء ممن تخلى عن فكره العلماني عائداً إلى حظيرة الإسلام حيث الخير والأمان.

ولا أعرف رجلا محبا للقراءة شغوفا بها كالشيخ رشدي، فلا يكاد يضيع وقتا دون مطالعة إلى يومنا هذا، حتى في وسائل المواصلات، فعندما كان في الإسكندرية من أرض الكنانة كان رفيقه الدائم في عربة الترام (الترمواي) كتاباً يؤنسه، وغالبا ما ينتهي من مطالعة

كتيب قبل أن يقفل راجعا إلى بيته، وقد سأله أحد أبنائه من مدة وجيزة عبر اتصال على شبكة الإنترنت عن همته في القراءة بعد أن ألم به المرض، ووهن منه الجسد، فرد قائلاً: يا بني لا أستطيع العيش بعيدا عن الكتاب، فمن خلاله أتنفس وأعيش، وكم أنا مدرك اليوم لقول الشاعر:

أعز مكان في الدنا سرج سابح *** وخير جليس في الأنام كتاب

ثم قال: مع وجود مكتبة كبيرة في الغرفة فلا أنام إلا وبجواري على سريري العديد من المجلدات، تؤنس وحدتي، وتواسي ألمي، وتحلق بروحي في عالم من الطهر والنقاء، فبعد وفاة والدتك أضحت الكتب الرفيق الذي لا أفارق.

كانت سورية في الخمسينيات، أي قبل نصف قرنٍ تقريباً، تمر بظروف خاصة، وكان الشيخ رشدي مفتي في عين العاصفة التي تلتقي عندها الرياح العاتية. فهو ابن مدينة اللاذقية وهي البلد التي كانوا يدرسوننا في كتاب الجغرافيا للصف الخامس أن 40% من سكّانها كانوا

من النصارى، و 40% من المسلمين السنّة، و 20% من العلويين، وإن تغيرت هذه النسبة، فيما أحسب، بعد الزحف الريفي، بحيث تَقارب توزيع السكان في المدينة ليشكّل نسبة الثلث لكلّ من

الطوائف الثلاث.

كانت فترة الاستقرار الحقيقي في سورية بعد الاستقلال لا تتجاوز ثلاث سنوات، وانتهت هذه الفترة من الاستقرار السياسي، مع قيام انقلاب حسني الزعيم مطلع عام ٩٤٩ ١ ثم انقلاب سامي الحنّاوي بعده بشهور، ثم انقلاب أديب الشيشكلي في أواخر العام نفسه، وأخيراً الانقلاب الذي أطاح الشيشكلي في ٢٥/٢/ ١٩٥٤.

وكان عهد الشيشكلي من أغنى الفترات السياسية التي تنشّطت فيها الأحزاب السورية، وذلك بسبب تحركها لمقاومة حكم الشيشكلي الذي أعلن الحرب على جميع الأحزاب فأعلنت جميع الأحزاب الحرب عليه. كما كانت الفترة الدستورية التي تلت حكمه واستمرت لمدة أربع سنوات كاملة، حتى قيام الوحدة مع مصر في ٢٢/٢/١٩٥٨، بمثابة العصر الذهبي للحياة الديمقراطية في سورية وإطلاق حرية التعبير والصحافة والتعددية الحزبية، رغم ما سادها من تناحرٍ بين الأحزاب كثيراً ما انتقل عنفه إلى الشوارع والساحات العامة.

كنت دون الثالثة عشرة من عمري أواخر حكم الشيشكلي، ولكن الشيخ رشدي، جعل منّي مقاوِماً صغيراً، أخرج في الليالي، خفيةً عن أسرتي غالباً، لأوزع منشورات المعارضة الإسلامية في الحارات، وكانت صفّارات الحراس الليليين تلاحقني من حارة إلى أخرى.

ونال الشيخَ رشدي من الأذى أكثر مما ناله أي شخصٍ آخر. ففي أوائل السبعينيات تجرأ ووضع كتاباً عن تاريخ بعض الفرق المنتسبة إلى الإسلام وأصول ديانتهم. ورغم أن الكتاب كان يؤرخ بشكل علمي وموضوعي؛ فقد أُوقف الشيخ رشدي عن التدريس وسيق إلى السجن

الانفرادي حيث قضى فيه مدةً طويلة منع فيها من أية زيارة، وحرم حتى الخروج من زنزانته للتنفّس.

فقد حدث أن أعطى الشيخ رشدي النسخة المخطوطة الوحيدة من الكتاب لأحد أئمة المساجد "الموثوقين" ليطبعه على الآلة الكاتبة، فلم يكن بين أيدي الناس في ذلك الوقت حاسوب أو آلة ناسخة لامتلاك أكثر من نسخة للكتاب، وذلك تمهيداً لإرساله إلى خارج سورية لنشره هناك، فما كان من الإمام "الموثوق" إلا أن حمل هذه النسخة الوحيدة من الكتاب وسلّمها لأجهزة المخابرات في اللاذقية!

ولعلّ هذه الحادثة تركت أثراً عميقاً في نفس الشيخ رشدي جعله يقعد عن نشر أي كتابٍ بعد ذلك، رغم أنّه، بثقافته الموسوعية وفكره المبدع، بمثابة مكتبة كاملة تمشي على الأرض.

ورغم خروج الشيخ رشدي من السجن بعد ذلك، ظلّ الاضطهاد يلاحقه في التدريس وخارج التدريس واستطاع الشيخ رشدي، لحسن الحظّ، الفرار من سورية قبل أيامٍ فقط، وربما ساعات ( ١٩٨٠م)، من مداهمة بيته ومصادرة مكتبته ووضع اليد على أملاكه.

ومنذ ذلك الحين والشيخ رشدي يحمل عصا الترحال على كتفيه متنقّلاً من بلد إلى آخر: مصر، الأردن، مصر مرة أخرى......... فكنت تراه في كلّ بلد ينتقل إليه وهو يحمل أحد أطفاله بيسراه ويجر آخر بيمناه ويتبعه ستة أو سبعة من أولاده، جنباً إلى جنب مع تلك السيدة المجاهدة كريمة الرجل الكريم المرحوم عبد الكريم وكيل، التي كانت مواقفها في كلّ هذه المحن المتتالية لا تقلً عن مواقف بعض الصحابيات اللواتي منحن أزواجهن في أوقات الشدة القوة والعزيمة،

وأعنّهم على نوائب الدهر صابرات محتسبات قانتات سائحات، حتّى جادت بآخر أنفاسها قبل عامين في هولندا، بعيدةً عن وطنها الذي غادرته ثم لم تعد إليه أبداً على مدى سبعة وعشرين عاماً.

هذه تحية وفاء منّي إلى شيخي الجليل، الرجل الذي أراد تعالى أن

أعتنق الإسلام ثم أدرسه وأفهمه على يديه، وأن تحسن عقيدتي التي منها انطلقتُ بعد ذلك في كلّ جوانب حياتي الفكرية والعملية. فشكراً لك أيها المعّلم الكريم والهادي الأمين.