علي أحمد باكثير في ذكري مولده الـ95، نظرات في حياته وفنه
عندما جاء الشاعر والمسرحي والروائي علي أحمد باكثير (1910-1969) من اليمن إلي مصر عام 1934 كان في الرابعة والعشرين من عمره، وكان قد امتلك أسس رؤيته الفكرية الإسلامية للحياة والعالم، وخبر الحياة كما خبر الموت عندما مرضت زوجته وتوفيت في ذروة شبابها. يوصف باكثير بأنه يمني الأصل مصري الهوي، أو يمني متمصر، أو مصري من أصل يمني. والواقع أنه كان عابراً للحدود بحكم مولده لأب يمني في مدينة سورابايا في إندونيسيا يوم 21 ديسمبر عام 1910، والتي قضي فيها طفولته، ثم نشأته في مدينة سيئون بحضر موت في اليمن حيث تلقي تعليمه الابتدائي والثانوي في مدرسة النهضة العلمية، ثم عمل معلماً في نفس المدرسة. ومما يؤكد شخصية باكثير العابرة للحدود أنه غادر سيئون بعد وفاة زوجته عام 1932، وذهب إلي الصومال والحبشة (إثيوبيا) والطائف في الحجاز ثم القاهرة التي استقر فيها حتي وفاته يوم 11 نوفمبر عام 1969. وقد استمر ارتباطه بمدينة طفولته في إندونيسيا، وكتب مسرحية "عودة الفردوس" عام 1946 عن كفاح الشعب الإندونيسي ضد الاحتلال الهولندي. وعندما توفي أصدرت سفارة إندونيسيا في القاهرة بياناً رسمياً في رثائه باعتبار أن لها فيه كما لليمن ومصر. ولم ينس باكثير اليمن أبداً، وقد زار سيئون عام 1968 لأول مرة منذ أن غادرها فيما يمكن اعتبارها زيارة الوداع لمدينة الصبا والشباب والحب الأول. ويتماهي عبور باكثير للحدود علي المستوي المادي المحسوس مع رؤيته الفكرية الإسلامية العابرة للحدود أيضاً بحكم نزول الإسلام لكل الناس. والواضح أنه كان يتمثل زمن الحضارة العربية الإسلامية عندما كان العلماء والشعراء ينتقلون من دمشق إلي القاهرة، ومن بغداد إلي فاس، وكأنهم ينتقلون من بيت إلي بيت داخل نفس المدينة. حفظ باكثير القرآن الكريم في فترة التكوين الأولي في سيئون، وقرأ في شبابه المبكر مراجع كبري في التاريخ والأدب والشعر والفقه الإسلامي في مكتبة عمه الشيخ محمد باكثير (1866-1926). وكان يراسل المجلات الأدبية في مصر، ويتابع بدقة الحياة الفكرية فيها، وخاصة الحوار حول الهوية الثقافية والتوجه السياسي. وأصدر عامي 1930 و1931 مجلة "التهذيب" متأثراً بمجلة "العروة الوثقي" التي أصدرها الشيخ جمال الدين الأفغاني (1838-1897) والإمام محمد عبده (1849-1905) في باريس عام 1884، وعبرت عن الإصلاح الديني والسياسي والعمل علي نهضة المسلمين، وهي الدعوة التي آمن بها باكثير. وقد أصدرت المطبعة السلفية في القاهرة لصاحبها محب الدين الخطيب (1886-1969) مجلة "التهذيب" في مجلد واحد عام 1934. وفي القاهرة التحق باكثير بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة) عام 1935، وتخرج عام 1939، كما تخرج في مدرسة المعلمين عام 1940. وعمل مدرساً للغة الإنجليزية في المدارس الثانوية في المنصورة والقاهرة منذ عام 1940 حتي عام 1955 عندما اختاره يحيي حقي (1905-1993) للعمل في مصلحة الفنون التي كان يديرها، ثم اختاره عباس محمود العقاد (1889-1964) للعمل في المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب. وتوفي باكثير وهو يشغل منصب مدير الرقابة علي المصنفات الفنية في وزارة الثقافة. وكان قد حصل علي الجنسية المصرية عام 1948. تزوج باكثير أرملة مصرية، ولم ينجب، ولكنه تبني ابنتها وقام برعايتها وتربيتها حتي تزوجت وأنجبت طفلها الأول في حياته. وبعد وفاته في شقته المؤجرة بمنيل الروضة في القاهرة، حصل مالك العقار علي حكم بإخلاء الشقة، وألقي بمكتبة باكثير علي سلم البيت، ولكن زوج ابنته عمر العمودي تمكن من إنقاذها. وقام الباحث اليمني محمد أبو بكر حميد بتحقيق أعمال باكثير ومخطوطاته، وجمع قصائده ونشرها لأول مرة في أربعة دواوين، فلم يكن قد صدر ديوان واحد لباكثير في حياته. كما أقنع حميد الدولة اليمنية بإقامة "متحف باكثير" في سيئون بحضرموت، وقام رجل الأعمال اليمني المثقف المهندس عبدالله أحمد بقشان بتجهيز المتحف. الغربة في مصر يذهب وديع فلسطين إلي أن باكثير كان يشعر بالغربة في مصر طوال وجوده فيها، وأنه جاء إلي القاهرة للدراسة ثم العودة إلي بلاده ليواصل التدريس فيها، ولكن ظروف الحرب العالمية الثانية (1939-1945) حالت دون عودته. ويقول إن باكثير صارحه قبل وفاته بأنه يفكر في الهجرة إلي لندن.(1) ويؤكد محمد أبوبكر حميد ذلك.(2) ولاشك أن باكثير فكر في العودة إلي اليمن بعد أن انتهي من دراسته في القاهرة، ولاشك أنه فكر في الهجرة إلي لندن قبل وفاته. ولكن لاشك أيضاً أنه اختار البقاء في مصر، وكان يستطيع العودة إلي اليمن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، بل وكان يستطيع العودة إلي إندونيسيا. ولاشك أنه لم يكن يشعر بالغربة في مصر، وربما كان يشعر بالغربة في العالم، ولكن ليس في مصر. لقد اختار مصر وطناً له عن حب، وأخلص المواطنين في أي بلد هم عشاقها، وليس من يحملون جنسيتها. كيف يشعر بالغربة في مصر من قال في قصائده قبل أن يأتي إليها وهو في سيئون في وداع أستاذ يمني أزهري كان عائداً إلي مصر: سنلقاك في "سيئون" إن شاء ربنا وإلا فإن الملتقي بك في "مصر" ومن عبر في رثاء أحمد شوقي (1868-1932) عن رغبته في السفر إلي مصر ليسلو مصابه في زوجته الحبيبة، وأنه كان يأمل في لقاء شوقي وحافظ إبراهيم (1872-1932)، ولكن الموت سبقه إليهما: يا بنات النيل أسعفن أخا غربة لوحه طول السفر خطف الدهر من يده زهرة منكن في العمر النضر ماثلتكن جمالاً وحلي وتسامت بحياء وخفر فانبري ينشد في "مصر" العزا فإذا "مصر" عليه تستعر سلبت "حافظها" في غرة ثم "شوقيها" بلمح من بصر كم تمنيت أن ألقاهما فأري الوالد والعم الأبر(3) كيف يشعر بالغربة في مصر وجل أعماله عن تاريخها وواقعها الذي عاصره. وصل إليها 13 فبراير 1934، ونشرت له في الصفحة الأولي من جريدة البلاغ المصرية يوم 29 أبريل قصيدة "يا مصر وافاك من أقصي الجزيرة شاعر"، والتي قال في مطلعها: يا مصر شاق البلبل التغريد وفاك من أقصي الجزيرة شاعر أضناه دهر في هواك مديد كم صب أدمعه عليك صبابة والليل يعلم والنجوم شهود وقال: يا مصر أنت علي البسيطة جنة ما في البسيطة مثلها موجود وقال: للدين فيك وللعروبة معقل لا يستباح ومنهل مقصود تتخايل الفصحي لديك وقد علامنها علي سمع الزمان نشيد يشدو بها "شوقي" ويهتف "حافظ" ويعيدها "مطرانك" الصنديد وقال: إن تضح داري "حضر موت" فإنني في "مصر" بين الأقربين سعيد من أصلهم أصلي ومن دمهم دمي آباء صدق بيننا وجدود وقال في ختامها: كلما رق رداء العيش طاب لذة استيطان هاتيك الديار حيث عذب الماء والجو النقي حيث تكسو الشمس أطراف النهار قمم الدور بأبهي رونق هل رأيت التبر في الغيد العراب وإذا كان من يحمل كل هذا الحب لمصر يشعر بالغربة فيها، إذن فكل المصريين في مصر غرباء. القهر والاضطهاد الشائع في العديد من المقالات عن باكثير أنه توفي وهو يشعر بالغبن والقهر والاضطهاد في ظل ارتفاع أصوات نقاد المسرح والأدب من الشيوعيين واليساريين في ستينيات القرن العشرين الميلادي في مصر، وهو الكاتب اليميني المحافظ، ولكن هناك مبالغة كبيرة في هذا القول الشائع. من كان مثل باكثير في إيمانه بما يعتقد وصدقه مع نفسه، وهو ما يبدو جلياً في كتابته، لا يأبه كثيراً بمن يهاجمونه مهما كانت حدة الهجوم. وإن تألم، وهذا طبيعي، فليس إلي درجة الإحساس بالقهر. ثم هل يتوقع أي كاتب يميني أن يرحب النقاد الشيوعيون واليساريون بأفكاره. من كان مثل باكثير في تحقيق ما حققه من نجاح يصعب أن يموت مقهوراً. فقد صدرت له عشرات الكتب في طبعات متعددة، وأنتجت من تأليفه مسرحيات كثيرة وأعيد عرضها مرات ومرات، وفاز بعدد كبير من الجوائز حتي إن محمود تيمور (1894-1973) قال عنه في كتابه "طلائع المسرح العربي": "ذلك الشاب المثقف الذي وفد إلي مصر ليغتصب جوائز المسابقات الأدبية اغتصاباً لأنه لم يكن يترك مسابقة إلا ويدخلها ويفوز". فقد فاز باكثير بجائزة المباراة الأدبية للفرقة القومية عام 1940 عن مسرحية "إخناتون ونفرتيتي"، وجوائز وزارة المعارف العمومية عام 1943 عن مسرحية "سر الحاكم بأمر الله"، وعام 1944 عن مسرحية "السلسلة والغفران"، وعام 1945 عن رواية "واإسلاماه"، وفاز بجائزة وزارة الشئون الاجتماعية عن مسرحية "أبودلامة مضحك الخليفة"، وفاز بجائزة المجلس الأعلي للثقافة عام 1960 عن مسرحية "دار ابن لقمان". عندما جاء باكثير إلي مصر لم يكن أول أصدقائه أقل من نجيب محفوظ (1911-2006) وعبدالحميد جودة السحار (1913-1974) وعادل كامل (1916-2005). وعندما صدرت مسرحيته الأولي في مصر "إخناتون ونفرتيتي" التي كتبها عام 1938 وهو طالب وصدرت عام 1948 لم يكتب المقدمة أقل من إبراهيم عبدالقادر المازني (1889-1949). وعندما صدرت أولي رواياته "سلامة القس" عام 1942 وأنتجت للسينما لم تكن ممثلة الدور الأول أقل من أم كلثوم (1898-1975). وعندما مثلت أولي مسرحياته "سر الحاكم بأمر الله" عام 1948 لم يكن مخرجها أقل من زكي طليمات (1899-1982)، ولم يكن ممثل الدور الأول فيها أقل من يوسف وهبي (1898-1982)، ولم يكن المسرح أقل من مسرح دار الأوبرا الملكية. وتقاسم باكثير أول جائزة فاز بها ليس مع أقل من نجيب محفوظ، وكانت جائزة قوت القلوب الدمرداشية عن رواية "سلامة القس" مع رواية محفوظ "رادوبيس" عام 1948، وحصل كل منهما علي عشرين جنيهاً. وعندما قرر وزير الثقافة ثروت عكاشة (1921-2012) إقامة نظام التفرغ في مصر كان باكثير أول من حصل علي منحة تفرغ عام 1961 حيث أنجز في عامين مسرحية "ملحمة عمر" في سبعة أجزاء عن حياة عمر بن الخطاب، والتي فازت بجائزة الدولة عام 1964. وعلي الصعيد السياسي، كان باكثير في أغلب أعماله كاتباً سياسياً بامتياز، ولكنه لم يمارس السياسة قط، وإن ربطته صلات بعدد من كبار السياسيين. يقول محمد أبوبكر حميد أن باكثير كان علي صلة حميمة مع بعض أعضاء مجلس قيادة ثورة 1952 في مصر، وخاصة محمد نجيب وأنور السادات، وأن السادات كان يزوره في منزله، ويتصل به كثيراً عبر الهاتف. وعندما تولي السادات رئاسة الجمهورية بعد حوالي سنة من وفاة باكثير لجأت إليه أسرته.(4) ويقول وديع فلسطين إن باكثير "استطاع أن يكسب صداقات كثيرين من كبار المجاهدين العرب حتي إن الحبيب بورقيبة بعث برسالة خاصة للسؤال عنه وهو رئيس للجمهورية التونسية، كما أن مكتب ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير سعود وجه إليه رسالة تقدير وإطراء لأنه استطاع من خلال الأدب أن يتبني قضايا الأمة العربية".(5) من عاش هذه الحياة لا يموت مقهوراً لأن لجان القراءة في المسرح القومي رفضت إنتاج مسرحياته في الستينيات، أو لأن هذا الناقد أو ذاك هاجمه بقسوة. فضلاً عن أن فرقاً مسرحية أخري غير فرقة المسرح القومي أنتجت له عدة مسرحيات حتي عام 1966، أي قبل وفاته بثلاثة أعوام. فقد أنتجت فرقة المسرح الحديث مسرحية "قطط وفيران" إخراج حسن إسماعيل علي مسرح الهوسابير عام 1962، وأنتج التلفزيون المصري مسرحية "جولفدان هانم" إخراج عبدالمنعم مدبولي عام 1963، وأنتجت فرقة المسرح الحديث مسرحية "حبل الغسيل" إخراج فوزي درويش علي مسرح ميامي عام 1966. وهي المسرحية التي تسخر من اليسار، وهاجمها الناقد الشيوعي محمود أمين العالم في مجلة "المصور" الأسبوعية (القاهرة) عدد 20 أغسطس 1965 عندما نشرت مسلسلة في مجلة "الرسالة الجديدة"، ورد عليه باكثير في مجلة "المصور" عدد 13 سبتمبر 1965. وفي نفس فترة غياب مسرحياته عن المسرح القومي صدرت له 12 مسرحية جديدة، وكتب أكثر من عشر مسرحيات أخري صدرت بعد وفاته. وعلي الصعيد الشخصي الواضح أنه عاش سعيداً مع زوجته، ومارس الأبوة عندما تبني ابنتها حتي تزوجت، وشاهد ابنها صبياً يافعاً.الأرجح أن يكون الترويج لموت باكثير مقهوراً استخداماً لاسمه وما يمثله من فكر يميني، وذلك في الصراع بين اليمين واليسار في مصر في فترة ما بين الحربين (1967-1973)، وكلا الطرفين يسعي دائماً لصنع ضحايا وشهداء، بحق وبغير حق. وقد عاش باكثير أربع سنوات فقط بعد خروج اليساريين والشيوعيين من المعتقلات عام 1964، وارتفاع أصواتهم نسبياً. وكان هناك من يدافعون عن باكثير بقدر من يهاجمونه، مثل أي كاتب. بل لقد توفي وهو مدير الرقابة علي المصنفات الفنية، أي من في يده بحكم القانون أن يقبل أو يرفض كل "المصنفات" الفنية في كل مصر. صحيح أنه طلب منه قبل شهور من وفاته أن يتوقف عن الذهاب إلي عمله، ولكنه ظل يحصل علي راتبه بانتظام. وساعد في الترويج لمقولة الموت قهراً أن باكثير كان يميل إلي العزلة والانطواء، ويتحرك في دائرة محدودة من الأصدقاء، ربما منذ صدمة وفاة زوجته في شبابه، وربما لكي يتيح لنفسه أكبر قدر من الوقت للقراءة والكتابة، وهو من الكتاب غزيري الإنتاج، أو للأمرين معاً، ولكن يصعب تصور أن ذلك كان لشعوره بالغبن والاضطهاد. ولعل القول الفصل في هذه المسألة ما قاله باكثير نفسه وهو يفكر في الهجرة إلي لندن: "والله لم تضق بي أرض مصر الكريمة، ولكن ضاقت بي بعض الصدور اللئيمة".(6) وكأن قائل "يا مصر وافاك من أقصي الجزيرة شاعر" اختار أن يموت في مصر عن الهجرة منها، وكما اختارها وطناً له اختار أن تكون مثواه الأخير. الهوية الثقافية عندما جاء باكثير إلي مصر عام 1934 كان الصراع الفكري والسياسي حول الهوية الثقافية علي أشده بين أنصار التيار الإسلامي والتيار العروبي والتيار الفرعوني والتيار الشيوعي. وكان التيار الوطني الليبرالي بقيادة أحمد لطفي السيد (1872-1963)، والذي يستوعب كل هذه التيارات قد انتصر في الواقع بعد ثورة 1919 الشعبية الكبري ضد الاحتلال البريطاني، وحصول مصر علي الاستقلال السياسي عام 1922، ووضع دستور 1923، وإجراء أول انتخابات ديمقراطية عام 1924، وتشكيل أول حكومة من الباشوات والأفندية ممثلي الطبقة الوسطي، وأول حكومة تجمع بين كفاءات من المسلمين والمسيحيين واليهود معاً. ولكن انتصار التيار الوطني في الواقع لم ينه الصراع علي الهوية الثقافية وإن تحددت الهوية القانونية بصدور أول قانون للجنسية المصرية عام 1929، وذلك بعد الانفصال القانوني عن الامبراطورية العثمانية بمقتضي معاهدة لوزان عام 1924. وبحكم رؤية باكثير الإسلامية اعتبره أنصار التيار الإسلامي معبراً عنهم، ولكنه من واقع مواقفه وكتاباته كان أقرب إلي يمين التيار الوطني. بل إنه لم يغادر اليمن بحثاً عن السلوي إثر وفاة زوجته فقط، وإنما أيضاً لرفض أفكاره الإصلاحية فيما يتعلق بالتربية وتعليم البنات من قبل الشيوخ التقليديين في سيئون. كان باكثير قد قرأ في سيئون دراسة الشيخ محمد رشيد رضا (1865-1935)، وهو من تلاميذ الإمام محمد عبده، في مجلته "المنار" والتي قال فيها إن الفراعنة جماعات من قوم عاد بحضر موت هاجروا إلي مصر. ولاقت هذه الفكرة هوي كبيراً عند باكثير.(7) وعبر عن ذلك في قصيدته "يا مصر وافاك من أقصي الجزيرة شاعر" عندما قال: "فرعون" من "عاد" تفرع جذمه قد قالها في الباحثين "رشيد" ولذلك لم يجد باكثير ما يبرر وجود التيارات الفرعونية والعربية والإسلامية في مصر، ليس فقط استناداً إلي مقولة أن الفراعنة كانوا من أصول عربية، وإنما لأنه كان يري أن كل الحضارات القديمة في كل بلاد العرب ملك لكل العرب المعاصرين، من حضارات وادي النيل وقرطاجة في إفريقيا إلي حضارات الرافدين وفينيقيا وسبأ في آسيا. وبينما وجد أن التناقض الحقيقي بين تلك التيارات الثلاثة والتيار الشيوعي، لم يجد تناقضاً بين الحضارات القديمة والعروبة والإسلام، كما لم يجد أي تناقض بين العروبة والإسلام، فالإسلام هو العروبة لأن القرآن الكريم نزل بلسان العرب، والعروبة هي الإسلام لأنه صنع أعظم حضارات العرب. وعبر باكثير عن موقفه هذا في أول مسرحية كتبها في مصر عام 1938 وهو لم يزل طالباً في كلية الآداب، وهي مسرحية "إخناتون ونفرتيتي" التي كتبها بالشعر المرسل الحر، وصدرت عام 1940. ولم تكن تلك المسرحية الوحيدة من مسرحيات باكثير التي تدور في عصور مصر القديمة (الفرعونية)، فقد كتب بعد ذلك مسرحيات "الفرعون الموعود" و"أوزوريس" و"الفلاح الفصيح". يقول محمد أبوبكر حميد عن مسرحية "إخناتون ونفرتيتي": "اختار هذا الشاب القادم من أقصي الجزيرة العربية موضوعاً فرعونياً ليعبر من خلاله عن رؤية سياسية إسلامية. فقد فسر باكثير فشل سياسة إخناتون بالرغم من اعتناقه دعوة التوحيد إلي منهجه السلبي. وناقش من خلال ذلك قضية الحرب والسلام حين رفض إخناتون رفع السيف لإقرار الأمن والسلام ظناً منه أن ذلك يخالف مبدأ السلام، فكان ذلك الخطأ التراجيدي الذي وقع فيه إخناتون. وبهذا فسر باكثير العيب في منهجه لا في عقيدته، فالسلام لا يستغني عن سيف العدل. وعالج باكثير من خلال هذه الشخصية الفرعونية فكرة إسلامية سياسية مهمة وهي "أن الله يذع بالسلطان ما لا يذع بالقرآن".(8) ومن اللافت أن سيناريو شادي عبدالسلام (1930-1986) الذي كتبه عن إخناتون بعنوان "مأساة البيت الكبير" وأتم عام 1975 ولم ينفذ، يعبر عن نفس مضمون مسرحية باكثير بعد 25 سنة من صدورها.(9) كما أن من بين أفلام شادي عبدالسلام القصيرة "الفلاح الفصيح" عام 1970 عن نفس النص الأدبي المصري القديم الذي استخدمه باكثير في مسرحيته بنفس العنوان. شوقي وشكسبير قرأ باكثير في الطائف مسرحيات شوقي الشعرية، وترجمات مطران خليل مطران (1872-1949) لمسرحيات شاعر الإنجليزية وليم شكسبير (1564-1616)، وأدرك أنه لن يكون إلا شاعراً ومسرحياً. وكتب أولي مسرحياته "همام في بلاد الأحقاف" عام 1933، وأصدرتها المطبعة السلفية في القاهرة عام 1934. يقول محمد أبوبكر حميد "لم يعرف تاريخ الأدب العربي الحديث أديباً عبر في أدبه فنياً وفكرياً عن التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون مثلما فعل علي أحمد باكثير في العشرات من أعماله ذات الموضوعات المتنوعة المستمدة من التاريخ والأسطورة والتراث العربي والإنساني، ومن الأحداث السياسية المعاصرة والحياة الاجتماعية، والتي تزيد علي ثمانين مسرحية طويلة وما يقرب من مائتي مسرحية قصيرة فضلاً عن رواياته وأشعاره".(10) ولاشك أن باكثير عندما جاء إلي مصر فكر في الالتحاق بالأزهر مثل أغلب أقرانه في اليمن، وبحكم تكوينه الإسلامي، ولكن ظروف حياته التي جعلته عابراً للحدود، وحبه لمسرحيات شكسبير جعله يقرر الالتحاق بقسم اللغة الإنجليزية في كلية الآداب. وأثناء دراسته في ذلك القسم قال أحد أساتذته الإنجليز في إحدي المحاضرات إن شكسبير كتب الشعر المقفي والشعر المرسل الحر معاً، وأن اللغة العربية يصعب أن تعرف الشعر الحر، فما كان من الشاعر الشاب إلا أن ترجم إلي العربية وهو طالب في السنة الثانية فصولاً من مسرحية شكسبير "الليلة الثانية عشرة" بالشعر المرسل الحر. ونشرت مجلة "الرسالة" الأسبوعية في القاهرة هذه الفصول في عدد 17 فبراير عام 1936. ثم قام بترجمة مسرحية شكسبير "روميو وجولييت" كاملة بنفس الأسلوب وصدرت عام 1946. ويذهب عبدالعزيز المقالح وعدد من الباحثين أن باكثير كان أول من كتب الشعر المرسل الحر عندما ترجم "روميو وجولييت"، وأن هذا ما أقر به الشاعر العراقي بدر شاكر السياب (1926-1964) من رواد هذا الشعر في حوار نشر في مجلة "الآداب" الشهرية اللبنانية عدد يونيو 1954. (11) ولكن الواقع أن محمد فريد أبو حديد (1893-1967) سبق باكثير في ترجمته لمسرحية شكسبير "ماكبث" بالشعر المرسل الحر، والتي صدرت عام 1934. ومثل شكسبير كتب باكثير المسرحيات التراجيدية والكوميدية والتاريخية، وكتب أيضاً ما يعرف في المسرح العربي بالمسرحيات الاجتماعية، ويقصد بها التي تدور في الواقع المعاصر، وكذلك المسرحيات السياسية، أي التي تتناول القضايا السياسية المثارة في زمن كتابتها مثل مسرحياته عن قضية فلسطين، والتي كان أولها "شيلوك الجديد" عام 1944 المستوحاة من مسرحية شكسبير "تاجر البندقية". ومثل شكسبير أيضاً كان باكثير يستلهم أحداثاً تاريخية، ويعيد صياغة قصص وحكايات معروفة بناء علي رؤيته المستمدة من ثقافته، وفي القلب منها التصور الإسلامي علي حد تعبير محمد أبوبكر حميد. وبالطبع ليس المقصود أن ما عبر عنه باكثير هو التصور الإسلامي علي نحو مطلق، وإنما رؤية الكاتب لهذا التصور. ولم يقتصر باكثير علي استلهام قصص وحكايات شرقية كما في مسرحية "مسمار جحا" عام 1948، ومسرحية "سر شهرزاد" عام 1951، وإنما أيضاً قصص وحكايات غربية كما فعل في مسرحية "مأساة أوديب" عام 1949، ومسرحية "فاوست الجديد" عام 1967. وكان في ذلك مثل العديد من الكتاب العرب وغير العرب. وكان باكثير يصدر أغلب مسرحياته في الصفحة الأولي بآيات من القرآن الكريم تعبر عن فحوي المسرحية، أو "المقدمة المنطقية" كما أطلق عليها نيكول، أو "المعادل الموضوعي" عند إليوت. وعلي سبيل المثال صدر مسرحية "مأساة أوديب" من سورة "البقرة" (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَي اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169) وصدر مسرحية "فاوست الجديد" من سورة "فاطر" (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَي اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28). وربما تبدو الكتب بهذه التصديرات ذات صبغة تعليمية، والمؤكد أن باكثير كان يدرك ذلك، ولكنه لا يمانع في أن تكون لكتبه هذه الصبغة، وقد قضي أغلب سنوات حياته معلماً في اليمن ومصر. ويقول محمد أبو بكر حميد إن أدب باكثير كان "الأدب الإسلامي" قبل عقود من شيوع هذا التعبير(12). وتعبير الأدب الإسلامي أو المسيحي أو اليهودي، مثل تعبير السينما الإسلامية أو المسيحية أو اليهودية، وفي كل الفنون، وفي كل الأديان والمعتقدات، يرتبط بالدعوة إلي اعتناق هذا الدين أو ذاك المعتقد. ويتم إنتاج أغلب الكتب والأعمال الفنية الدعوية بواسطة المؤسسات الدينية. ولم يكن أدب باكثير دعوة إلي اعتناق الإسلام، وإنما تعبير عن رؤيته للتصور الإسلامي للحياة والإنسان والكون كما يقول حميد أيضاً. ومن ناحية أخري فديانة أو معتقد كل كاتب أو فنان تنعكس في أعماله بالضرورة باعتبارها من مكونات ثقافته، حتي ولو بالسلب. وعندما يختار أن يكون دينه أو ما يعتقده جوهر ثقافته بالإيجاب، مثل باكثير، وحتي لو تضمنت أعماله التأكيد علي ما يتميز به دينه، فهذا لا يعني أنه يتحول من أديب أو فنان إلي داعية. وتظل كل الفنون بما فيها فنون الأدب من الأعمال الخيالية التي تستهدف تحقيق أغراض متعددة أولها الإحساس بالجمال، وتقل قيمتها عندما تستهدف غاية واحدة مهما كانت هذه الغاية. الهوامش (1) وديع فلسطين: "علي أحمد باكثير اليمني المتمصر" ذ "الحياة" اليومية (لندن) 8 نوفمبر 1996. (2) محمد أبوبكر حميد: "صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري" ذ "الشرق الأوسط" اليومية (لندن) 16 نوفمبر 1994. (3) عبدالحكيم الزبيدي: "شعر باكثير وقضاياه" ذ "الهلال" الشهرية (القاهرة) عدد خاص يونيو 2010. (4) محمد أبوبكر حميد: "صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري" ذ "الشرق الأوسط" اليومية (لندن) 16 نوفمبر 1994. (5) وديع فلسطين: "علي أحمد باكثير اليمني المتمصر" ذ "الحياة" اليومية (لندن) 8 نوفمبر 1996. (6) محمد أبوبكر حميد: "صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري" ذ "الشرق الأوسط" اليومية (لندن) 16 نوفمبر 1994. (7) محمد أبوبكر حميد: "التصور الإسلامي للتراث العالمي" ذ "الهلال" الشهرية (القاهرة) عدد خاص يونيو 2010. (8) محمد أبوبكر حميد: "صفحات مطوية من تاريخ المسرح المصري" ذ "الشرق الأوسط" اليومية (لندن) 2 نوفمبر 1994. (9) سمير فريد: "قراءة في سيناريو مأساة البيت الكبير" ذ كتاب "صفحات مجهولة من تاريخ السينما المصرية" ذ المجلس الأعلي للثقافة (القاهرة) 1994. (10) محمد أبوبكر حميد: "التصور الإسلامي للتراث العالمي" ذ "الهلال" الشهرية (القاهرة) عدد خاص يونيو 2010. (11) عبدالعزيز المقالح: "رائد التحديث للقصيدة الجديدة" ذ "الهلال" الشهرية (القاهرة) عدد خاص يونيو 2010. (12) محمد أبوبكر حميد: "التصور الإسلامي للتراث العالمي" ذ "الهلال" الشهرية (القاهرة) عدد خاص يونيو 2010.
وسوم: العدد 628