الشيخ الطيب العقبي : شاعراً ومصلحاً
يعتبر الإمام العالم السلفي( الطيب العقبي) - عليه رحمة الله - شيخاً من شيوخ العلم بالجزائر، ورمزاً من رموز التضحية والجهاد، وداعية من دعاة التجديد والاجتهاد، سيف السنة، وعلم الموحدين، قامع البدعة وشجا حلوق الدجالين.
وهو بالإضافة إلى ذلك شاعر إسلامي معاصر من الجزائر .
وهو أحد أبرز أعضاء (جمعية العلماء المسلمين) التي أسسها الإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر .
وإن الشيخ العقبي لكما وصفت لكم بل هو فوق ذلك، وإني سأقلب صفحات من تاريخ أمتنا، وسنتأمل في أعمال أسلافنا؛ لنعرف فضلهم علينا أولاً، ثم ليكون ذلك مرآة ننظر من خلالها إلى أعمالنا، وميزاناً نزن به جهودنا .
ولادته ونشأته :
هو الطيب بن محمد بن إبراهيم العقبي، ولد في بلدة سيدي عقبة في الجزائر، وإليها ينسب في شوال 1307 هـ / الموافق 15 جانفي 1890م . وينتهي نسبه إلى قبيلة أولاد عبد الرحمن الأوراسية .
ونشأ في بيت المرحوم محمد بن إبراهيم بن الحاج صالح ، في بلدة سيدي عقبة ذات العبق الإسلامي الأصيل، وأسرته من أوسط سكان البلدة فلا هي من أعلاها ولا من أدناها . ترعرع في جو محافظ بعيد عن حضارة المستعمر وتقاليده.
هاجر مع عائلته إلى المدينة المنورة، وهو ابن خمس أو ست سنوات وذلك في عام 1313 هـ .
وهناك توفي والده ودفن . فقامت أمه على تربيته .
دراسته :
ولما بلغ سن الخامسة من عمر هاجرت أسرة الشيخ الطيب العقبي كلها إلى الحجاز، وذلك أثناء حملات الهجرة الواسعة التي فرقت الجزائريين في بلدان عربية مختلفة من الحجاز ومصر والشام وغيرها، هجرة كان سببها ظلم المستعمر الغاشم وتعسفه ومن ذلك محاولته فرض التجنيد الإجباري على الجزائريين في صفوف الجيش الفرنسي.
واستقرت أسرته في المدينة النبوية حيث نشأ الشيخ نشأته العلمية، فحفظ القرآن الكريم على يد أساتذة مصريين، ودرس العلوم الشرعية في الحرم المدني على يد مشايخ ذلك الزمان ومنهم حمدان الونيسي شيخ ابن باديس الذي هاجر إلى الحجاز عام 1911. وكانت المدينة قبل الحرب العالمية الأولى تغص بحلق العلم، وكانت أيضا تتوفر على مكتبات جامعة كثيرة كما حكاه الإبراهيمي، ورغم أن والده كان قد توفي وهو في سن الثالثة عشر، فإنه لم ينقطع عن طلب العلم، وقد كان لأمه أثر واضح في تفريغه للطلب حيث أعفته من مهام القيام بشؤون الأسرة مع أنه كان الابن الأكبر وكلفت بذلك أخاه الأصغر، وكان ذلك من عناية الله تعالى بهذا الرجل العظيم الذين كان يعد لأن يكون من كبار المجددين في هذا الزمان.
عمله الصحفي :
ثم إنه سرعان ما تحول من طالب إلى معلم في الحرم النبوي، وكاتب صحفي متميز في الصحف الشرقية حتى عد أحد دعاة النهضة العربية في الحجاز، وقد أكسبته كتاباته شهرة اخترقت الآفاق، وصداقة مع كبار المصلحين في ذلك الزمان وعلى رأسهم شكيب أرسلان ومحب الدين الخطيب.
وعند قيام ثورة الشريف حسين عده بعض رجال تركيا الفتاة من جملة السياسيين ، فنفاه الأتراك عام 1916 ، مع جملة من أنصار النهضة العربية إلى "الروم ايلي" فـ"الأناضول" بحجة معارضة العثمانيين .
العودة إلى مكة :
وعند انتهاء الحرب العالمية عاد إلى مكة حيث أكرمه الشريف حسين، وأسند إليه رئاسة تحرير جريدة القبلة، وكذا إدارة المطبعة الأميرية في مكة خلفاً للشيخ محب الدين الخطيب.
جهوده في الإصلاح الديني :
مع تلك المكانة التي أحرزها عند الأشراف الهاشميين إلا أنه قرر الرجوع إلى الجزائر عام 1920، وكان سبب رجوعه الظاهر الذي صرح به، هو عدم الاستقرار الذي خيم على الحجاز في تلك الأيام نتيجة الصراع السعودي الهاشمي، إضافة إلى الاعتداء الذي وقع على أملاك عائلته في مسقط رأسه، وهذا الأخير كان ذريعة لابد من تقديمها للإدارة الفرنسية ليحصل على موافقتها بالدخول إلى الجزائر.
جاء -رحمه الله تعالى- إلى الجزائر، وانتظم أمر تلك الأملاك فهل عاد إلى الحجاز ؟ لا لم يعد، ولا تفرغ لإدارة تلك الأملاك التي جاء من أجل استرجاعها، بل قرر الاستقرار في أرض الوطن ، وانطلق في خطته الإصلاحية التي كان جاء من أجلها، حيث يحكي بعضهم أن شكيب أرسلان هو من أشار عليه بالذهاب إلى الجزائر من أجل بعث الأمة الجزائرية، وبث الدعوة الإصلاحية بها، ويحتمل أنه استقر بعدما عاين الوضع الذي آلت على الجزائر حيث وجدها غارقة في أوحال الشرك والبدع، والخرافات والضلالات، ووجد الجزائريين مستعمرين من طرف عدو صليبي غاشم ومستعبدين من طرف الطرقية الذي استغلوا جهل الأمة وأميتها.
و لقد أقام الطيب العقبي في مدينة (بسكرة ) ؛ ليعمل في مجال الإصلاح الديني سواء بالخطابة أو الكتابة، وكان يعمل مع المجد أبي اليقظان .
وكان من الأعضاء المؤسسين لجمعية العلماء عام 1931 م ، وكان من أعضاء مجلس الإدارة، وشغل منصب معاون كاتب فيها .
التدريس والوعظ :
من وسائل الإصلاح التي اعتمدها الطيب العقبي بعدما استقرت له الأحول ، وانتظمت الأمور هي أنه سلك مضمار الدعوة، والتعليم، وانطلق كالسهم، وقد تنوع نشاطه التعليمي، وكان شاملاً لجميع الطبقات ، فكان منها مجالس التكوين للطلبة، وكان يدرس لهم الجوهر المكنون في البلاغة، وقطر الندى في النحو، وكان منها مجالس الوعظ والتذكير للعامة التي كان يلقيها في مساجد المنطقة، وكان موضوع تدريسه التفسير، وقد اختار له الشيخ تفسير المنار للشيخ المجدد محمد رشيد رضا، كما درس أيضاً السيرة النبوية، والعقيدة الإسلامية، وكان منها المجالس الأدبية في «جنينة البايليك» أين كان يجري الحوار الأدبي يومياً في شتى أنواعه وألوانه، ويحضره أدباء ومثقفون أمثال الأمين العمودي ومحمد العيد آل خليفة وغيرهم.
وكما أيضاً كان يغتنم المناسبات التي يجتمع فيها الناس كالولائم لدعوة الناس إلى التوحيد وإلى الرجوع إلى القرآن والسنة، ولم يغفل عن الرحلة إلى المناطق المجاورة حتى ذاع صيته، وانتشرت دعوته في منطة الزيبان كلها ، فأعلن بذلك حرباً عواناً على الطرقيين والخرافيين والجامدين الذين كانوا يتغذون من جهل الأمة.
وما إن انتشر نشاطه، وذاع صيته حتى سارعت السلطة الفرنسية إلى اعتقاله لتخوفها منه، فلبث في السجن قرابة شهرين، ثم أفرج عنه، وخلي سبيله بعد وساطة أخواله وبعض الوجهاء.
جهوده في الصحافة الإسلامية :
عندما جاء الطيب العقبي إلى الجزائر بدأ الكتابة في بعض الصحف التونسية نظراً للفراغ الذي وجده في الميدان الصحفي، ثم أسس بالاشتراك مع جماعته ببسكرة « جريدة صدى الصحراء » في 1925م .
ثم أصدر صحيفة ( الإصلاح ) عام 1927 م وهي من أهم صحف الإصلاح نظراً لمكانة صاحبها في الحركة الإصلاحية وما له من خبرة سابقة في مجال الصحافة حيث عمل لدى الشريف حسين مديراً لتحرير جريدة القبلة وقد أكسبته هذه الفترة معرفة بالسياسة . واستمر صدورها في مدد متفرقة إلى سنة 1948.
ولما أنشأ ابن باديس جريدة المنتقد دعاه للمشاركة فيها ، فلبى نداءه، ولم يتأخر.
وكان الشيخ حريصاً على الكتابة في الصحف، وكان يرى في العمل الصحفي الدور الأكبر في نهضة الأمة، واسمع إلى قوله في المنتقد (عدد5):« إن الجرائد في الأعصر الأخيرة هي مبدأ نهضة الشعوب ، والعامل القوي في رقيها، والحبل المتين في اتصال أفرادها، والسبب الأول في تقدمها، والصحافة هي المدرسة السيارة والواعظ البليغ، وهي الخطيب المصقع والنذير العريان لذوي الكسل والبطالة، وهي سلاح الضعيف ضد القوي، ونصرة من لا ناصر له، وهي تأخذ الحق وتعطيه، وترمي الغرض فلا تخطيه وهي المحامي القدير عن كل قضية حق وعدل» .
ومن الممكن مقارنة الإصلاح بجريدة المنتقد من حيث خط السير الأساسي حيث يقول العقبي في العدد الأول ( وسنوالي بحول الله وقوته الكتابة في إصلاح الحالة الدينية ، والاجتماعية ، والاقتصادية ، وحتى السياسية . ولكننا لا نكتب في السياسة التي يفسرها قاموس الحكومة بمعاداة الدول . ويمضي قائلاً :
( لأننا لسنا مع من يقول بوجوب إلقاء الأجنبي في البحر ، ولا نحن مع الذين يدعون جهلاً منهم وغروراً بأن الأمة الجزائرية قادرة على أن تحكم نفسها ) .
ولما تأسست الشهاب بعدها كان العقبي من السباقين إلى تلبية دعوتها، فنشر مقالاته الحارة، وقصائده المثيرة التي تدور غالباً في فلك الإصلاح العقائدي، تلك المقالات التي كان توُصف بالمقالات النارية، لأنها كانت تهدم صروح ضلالات الطرقية صرحا صرحاً، وتكشف عن انحرافها عن الصراط المستقيم ومخالفتها جوهر الدين.
عارض في مقالاته التجنس، والتفرنج ، وكان يهاجم الطرقية، ويحاربها .
وكان محاضراً دائماً في نادي الترقي .
وكان من كتاب صحيفة السنة النبوية المحمدية التي صدرت عام 1933 م، وكانت لسان حال جمعية العلماء المسلمين تهاجم الطرقية والخرافة .
ثم صدرت صحيفة الشريعة النبوية المحمدية عام 1933 م بعد إغلاق صحيفة السنة، وكان يكتب فيها ابن باديس، ويرأس تحريرها العقبي، والزاهري، صدر منها 7 أعداد فقط، ثم عطلت .
ثم تولى إصدار صحيفة الصراط السوي عام 1933 م ورأس تحريرها مع الزاهري، ولم تتدخل في السياسة وحقوق الجزائر بل دعت إلى الإصلاح التعليمي والاقتصادي والاجتماعي . . وصدر آخر عدد منها في رمضان 1352 / 1934م .
وكان الطيب العقبي رئيس تحرير البصائر ، كتب فيها : إن في الجزائر ثورة فكرية ، تطالب بالحقوق ، وتعرب عن الظلم الذي تعيشه .
نشاطه بالعاصمة
في الوقت الذي تأسس فيه نادي الترقي في جويلية 1927، كانت شهرة العقبي قد اخترقت الآفاق فاتصل به أهل النادي ليكون مشرفا على النشاط فيه خطيبا ومدرسا ومرشدا، فقبل عرضهم وانتقل رحمه الله إلى العاصمة والتحق بنادي الترقي عام 1929، ولم يكن خافيا عليه أهمية نشر الدعوة والإصلاح في العاصمة وأثر ذلك على القطر كله، وقدرت محاضراته بهذا النادي بخمس محاضرات في الأسبوع، إضافة إلى الحلقات والندوات التي كان يعقدها من حين لآخر مع جماعة النادي والرحلات التي كان ينظمها في بعض الأحيان إلى المدن المجاورة من عمالة الجزائر.
ولم يكن نشاطه التعليمي مقتصرا على النادي بل كان يلقي دروسا في التفسير في المسجد الجديد بعد صلاة الجمعة وبعد عصر كل أحد، ومن نشاطاته في العاصمة إشرافه على مدرسة الشبيبة الإسلامية، وترأس الجمعية الخيرية الإسلامية، ودعا إلى إنشاء منظمة شباب الموحدين.
محنة الشيخ العقبي
وبعد مدة ظهرت نتائج دعوته ونشاطه حيث كثرت المدارس العربية الحرة في مدن عمالة الجزائر ، وصار تمسك الناس بالدين في العاصمة أمرا ظاهرا، فهجر الناس شرب الخمر والميسر ومواطنها، ورجع أكثرهم إلى بيوت الله بعد أن خلت منهم، وصاروا يحافظون على الصلوات وملازمين لدروس الشيخ، وتخلى كثير منهم عن خرافات وعقائد الطرقية، وتمكن العقبي بعلمه وأسلوبه وصدق لهجته من أن يجلب إليه كل طبقات المجتمع بما فيها طبقات المثقفين الثقافة الفرنسية من محامين وأطباء وغيرهم.
لقد أثارت هذه النتائج قلق المستعمرين في الجزائر وخارجها حيث أصبحوا يرونه يشكل خطرا كبيرا على كيان فرنسا حتى وصفته أحدى الجرائد الفرنسية بالنبي الجديد، فسلكوا مع الشيخ سبلا شتى بغرض إسقاطه وضرب دعوته، فكان أولها سبيل الإغراء حيث عرض عليه منصب الإفتاء فرفض آثر أن يكون عالما حرا يجهر بالحق ويصدع به في كل زمان ومكان.
ومن خططهم أن أصدروا المنشور القاضي بغلق المساجد في وجه غير الرسميين وذلك في 16 فبراير 1933، ويقول أبو القاسم سعد الله: « وفي 24منه (فبراير) إلى شهر مارس جرت مظاهرات عنيفة بالعاصمة ضد منع الشيخ العقبي من إلقاء درسه في الجامع الجديد وتدخل الحكومة في الشؤون الدينية، وقد استعملت السلطات قوات الشرطة والرماة السنيغاليين وقناصة إفريقية ضد المتظاهرين واعتقلت كثيرا منهم ، ولم تهدأ المظاهرات حتى وعدت السلطات بالسماح للعقبي باستئناف دروسه. وبعد استقالات جماعية للنواب والعاملين في المجالس المحلية في يوليو 1933 …قام السيد كارد الحاكم العام بمراجعة بعض القرارات منها إلغاء قرار والي مدينة الجزائر ضد الشيخ العقبي». فلم يكن ذلك القرار ليعيق الشيخ رحمه الله ولا ليحبطه فإنه واصل مجاهدا وداعيا حيث وجد الرجال الذين يحوطونه بمساندتهم وتشجيعهم ويقفون معه في الشدائد.
ولما انظم الشيخ إلى المؤتمر الإسلامي في 1936مع ابن باديس والإبراهيمي ولعب فيه دورا بارزا، بلغ الأمر بالنسبة إليهم منتهاه، فحيكت مؤامرة مقتل المفتي كحول لإحباط مسعى المؤتمر وإسقاط الشيخ العقبي. فدسوا له من قتله، ونفذ جريمته يوم 2أوت، وادعى أن الشيخ العقبي هو من حرضه على قتله مع صاحبه عباس التركي، فاعتقل العقبي ورفيقه وزج بهما في السجن يوم 8أوت، فاحتشدت الجماهير وتجمعت تلقائيا احتجاجا على اعتقال الشيخ وصاحبه فكادت تحدث فتنة عمياء لولا أن توجه إليها العلماء بأن يواجهوا الصدمة بالصبر والتزام الهدوء والسكينة فامتثل الناس، قال الإبراهيمي:« وكان هذا أول فشل للمكيدة ومدبريها». فقضي في السجن ستة أيام بلياليها، ثم إن الجاني تراجع عن تصريحاته بعد أن قابل الشيخ وأنكر أن تكون له علاقة به فأفرج عنه، ووضع تحت المراقبة مع إمكانية التوقيف عند الضرورة. ثم لم تفصل المحكمة في القضية إلا بعد ثلاث سنوات حيث تمت تبرئة العقبي وصاحبه نهائيا.
إن تلك المؤامرة كان لها الأثر الواضح على المؤتمر الذي انسحب بعض السياسيين منه، وأما الجمعية والشيخ العقبي فلم يؤثر فيهم ذلك بتاتا، بل كانوا يروون في هذا الحدث سببا في زيادة التفاف الناس حول الجمعية وتعاطفهم معها، وزادت من شهرتها وصداها في الجزائر وخارجها، قال ابن باديس:« ولكنها كانت في حقيقتها نعمة عظيمة لا يقوم بها الشكر». وكذلك العقبي فإنه ظل ثابتاً لم يتغير ولم يضعف (كما قال دبوز ) ، قال الإبراهيمي: « ومن آثار هذه الحادثة على الأستاذ العقبي أنها طارت باسمه كل مطار ووسعت له دائرة الشهرة حتى فيما وراء البحار».
براءته من تهمة قتل المفتي :
اتهم الشيخ العقبي بأنه حرض على مقتل المفتي محمود بن الحاج كحول بن دالي بعد عودته من المؤتمر الإسلامي في فرنسا حيث قدم مطالب المؤتمر، وقد ظل العقبي معرضاً للملاحقات القضائية حتى أصدرت المحكمة براءته النهائية في شهر جمادى الأولى 1358 هـ / 1939 م .
دوره في جمعية العلماء:
مع أن فكرة الجمعية ولدت في المدينة عندما التقى ابن باديس والإبراهيمي هناك عام 1913، فإن الشيخ العقبي كان ممن مهد لها ودعا إليها عبر صفحات الجرائد، بل ربما يكون أول من فعل ذلك في أكتوبر 1925 في جريدة المنتقد ، وقد الشيخ كان ممن حضر اجتماع قسنطينة عام 1928 الذي سماه محمد خير الدين اجتماع الرواد. وحضر المجلس التأسيسي للجمعية في نادي الترقي، وانتخب ضمن أعضاء مجلسها الإداري ، وعين نائب الكاتب العام، كما كان ممثل الجمعية في عمالة الجزائر . وكذلك تولى في ظل الجمعية رئاسة تحرير جرائدها السنة فالشريعة فالصراط، ثم جريدة البصائر من عددها الأول إلى العدد 83 الصادر في 30سبتمبر 1937م
عارض سياسة السيد ابن بلحاج مصالي التي تتنافى مع مصالح المسلمين، وكان بلحاج من المتفرنسين جداً، وكان يعادي العلماء .
مشاركاته :
حضر الشيخ الطيب العقبي الاجتماع الثاني لجمعية طلاب شمال افريقيا الذي انعقد في الجزائر بتاريخ ربيع الثاني 1351 هـ / آب 1932 م ، وترأسه فرحات عباس، وحضره الشاعر محمد العيد خليفة، ونادى بجعل اللغة العربية رسمية في مواد امتحان الشهادة الابتدائية، وطالب بزيادة عدد المدرسين في المساجد، ودعا إلى فتح مدارس عربية حرة .
حضر العقبي المؤتمر الإسلامي العام الذي انعقد في 17 ربيع الأول 1355 هـ / 7 يونيه 1936 م، وكان ضمن وفد العلماء الذي ترأسه ابن باديس، والبشير الإبراهيمي، وتوجه إلى فرنسة في 28 ربيع الأول 1355 هـ / 18 يونيه 1936 م ؛ ليشرح مطالب المؤتمر الإسلامي، والأمة الجزائرية، وقابل كبار المسؤولين، ورجع ببعض الوعود .
انضم الشيخ العقبي إلى لجنة الوحدة العربية لشمال إفريقيا التي تأسست في تونس في نهاية 1936 م .
تعرض الشيخ العقبي للإهانة والشتم سواء في الطريق أو أثناء أدائه مهمته في الوعظ والتدريس وذلك من قبل شباب حزب الشعب .
وفي حفلة أقامها نادي الترقي لتكريم العلماء يوم 15 رجب 1355 هـ / 1 أكتوبر 1936 م تحدث حمود شكيكن محذراً العلماء من استخدام السياسة للوصول إلى أهداف شخصية وفهم مصالي بن الحاج – وكان حاضراً أنه المعني بهذا القول فوقف ليرد ، فقام الطيب العقبي، وانهى الحفلة ومنع مصالي وجماعته من حضور النادي مستقبلاً .
كما أصدر ميشال قراره الثالث في شوال 1351 هـ / 24 فبراير 1933 م بحل الجمعية الدينية الإسلامية التي كان يرأسها أحمد بن صيام الذي رفض الاستجابة لطلب ميشال بمنع العقبي وغيره من رجال الجمعية بالوعظ في المساجد .
وذكرت جريدة النجاح أنه سرت شائعة بأن الشيخ العقبي منع من إلقاء دروسه الأسبوعية في الجامع الجديد ، وسرعان ما قامت مظاهرة في 24 فبراير 1933م احتجاجاً على هذا القرار .
طلبت منه الحكومة الفرنسية الحصول على تأييد جمعية العلماء المسلمين لسياسة فرنسا قبيل الحرب العالمية الثانية مقابل إعلان براءته من تهمة قتل (كحول )، وهدفها تحطيم الشيخ العقبي وإخراجه من جمعية العلماء لأنها كانت ترى أن العقبي حصل على شعبية كبيرة للدور الذي اضطلع به في الحركة الإصلاحية، وقد اعترفت الوثائق الفرنسية بدوره فقالت : لا يزال العقبي هو المحرك والمفكر الأساسي لتنظيم العلماء الذي يرأسه ابن باديس ، ولا تزال شخصيته هي الأقوى لدى الرأي العام . وسبب خوفهم من العقبي أنه قال في محاضرة بمدينة ميله بتاريخ 12 يناير 1937 م مخاطباً الجماهير : لو طلبت إليكم أن تتصدوا لفرنسا فهل تفعلون ؟ وبصوت واحد أجاب الحاضرون، وهم ثلاثة آلاف شخص نعم .
ولكن جمعية العلماء رفضت تأييد فرنسا؛ لأن المساجد موصدة، والمدارس مغلقة، والتعليم يخنق .
من أصول دعوته
الأصل الأول:
-ترتكز الدعوة الإصلاحية التي انتمى إليه الشيخ على الدعوة إلى توحيد الإله جل جلاله والتحذير من الشرك ومظاهره، هذا أمر اشتهر به الشيخ الطيب العقبي، إلى درجة ارتباط النهي عن مظاهر الشرك عند أكثر العامة في منطقة الوسط باسمه، وقد كان ذلك ظاهرا في خطبه ودروسه وفي كتابته التي كان يملأ بها الجرائد السيارة في ذلك الوقت، حيث كان يوضح هذا التوحيد الذي أرسل به خاتم النبيين بدلائل الكتاب والسنة، ويخاطب العقول ويهز الفطرة، أيها الناس ما هذا الذي أنت واقعون فيه تعبدون الأشجار تعبدون الأحجار وترجعون إلى الموتى لقضاء حوائجكم، وتتركون الإله الواحد القهار، ومما كان يتميز به الشيخ رحمه الله أنه كان يحاور ويجيب عن الشبهات المثارة في وجوه دعاة التوحيد، وكان لذلك أثر كبير في استجابة للناس لدعوة الإصلاح، ومن ذلك تلك المقالات التي كان يبثها في الشهاب بعنوان: " يقولون وأقول "، ونصوص الشيخ التي خلف في هذا المضمار كثيرة جدا، ولا يسعنا في هذا المقام إلا أن نقتصر على جزء من قصيدته الشهيرة إلى الدين الخالص حيث يقول فيها:
لا أنــادي صاحب القبــر أغث أنت قطــب أنت غوث وسناد
قائمــا أو قاعــدا أدعــو بـــه إن ذا عنــدي شــرك وارتـداد
لا أناديـــه ولا أدعــو ســوى خالـق الخلـق رؤوف بالعبـاد
مـن لــه أسماؤه الحسنى وهل أحــد يدفــــع مــا الله أراد؟
مخلصــا ديني لـــه ممتثــلا أمــره لا أمــر من زاغ و حاد
الأصل الثاني :
ومما عرف به الشيخ رحمه الله الدعوة إلى إحياء السنن وربط الأمة بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هذا أمر سار عليه جميع دعاة الإصلاح في ذلك الزمان ، فكان دروسهم ومواعظهم التي يلقون مع اختلاف مواضيعها مرتبطة بكتاب الله تعالى، وما بحث في سيرة كل واحد منهم إلا وجدت موضوع دروسه هو التفسير، تفسير كتاب الله تعالى الذي ابتعدت عنه أمة الإسلام فوقعت في مخالفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم وغرقت في أوحال البدع بل وفي مظاهر الشرك الذي لا يغفره المولى عز وجل، فكان منهج هؤلاء العلماء أن ربط الأمة بكتاب الله تعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي ينير لها الطريق ويبصرها بالحال التي آلت إليها، والشيخ العقبي رحمه الله كان من أشد رجال الجمعية حرصا على اتباع السنن ونهيا عن البدع، ومن الأصول التي كان يقررها ويعيدها:« أن لا نعبد إلا الله وحده وأن تكون عبادتنا له إلا بما شرعه وجاء من عنده » السنة (عدد2). ومنها قاعدة كمال الدين التي هي منطلق محاجة كل مبتدع مبدل البصائر (عدد3). وقال مبينا أن الابتداع مضاهاة لله تعالى في شرعه فقال: « وإذا كان التشريع لله وحده ، فليس لكائن من كان أن يشرع لنفسه أو لغير نفسه من الدين ما لم يأذن به الله مهما كانت مقاصده في هذا التشريع ومهما ادعى من ابتغاء قربة ووسيلة» ثم بين أنه لا ينفع هؤلاء المبتدعين أن تكون نية أحدهم حسنة، « لأن النية مهما كانت حسنة لا تغير من حقائق الأشياء » البصائر (عدد4). ومما تميز به نقد العقبي للطرقيين فضح مقاصدهم التي تبين أن كثيرا منهم لم تكن له شبهة دينية، وإنما الذي وجههم هذه الوجهة المخالفة للإصلاح والتي جعلتهم يرضون بالحال التي آلت إليها الأمة هو حب الدنيا والمال، وكان مما قال:
وشيخهم الأتقى الولي بزعمه إذا ما رأى مالا أمال له عنقا
وذلك أقصى سؤله ومرامه متى ناله أولاه من كيسه شقا
أولئك عباد الدراهم ويلهم سيمحقهم ربي وأموالهم محقا
الأصل الثالث:
ومن الأمور التي ينبغي الوقوف عندها منهج الإصلاح الذي سار عليه الشيخ، وقد وضحه رحمه الله في افتتاحية العدد الأول من الإصلاح:« وأهم كل مهم وأولاه بالتقديم عندنا مسألة العقائد والكلام على تصحيحها، فلا إصلاح ولا صلاح إلا بتصحيحها، فقد أفسد الناس من أمرها ما أضر بالعامة وسرت العدوى منه حتى لبعض الخاصة والأعمال كلها نتيجة العقائد تصلح بصلاحها وتفسد بفسادها، وحسبنا قول أشرف المخلوقات (إنما الأعمال بالنيات) وليس من الممكن جمع كلمة الأمة وتوحيد أفكارها ما دامت مختلفة في عقائدها متباينة في مشاربها وأهوائها، ولو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم». هذه الدعوة هي الدعوة المباركة التي تجمع أهل الإسلام وترص صفوفهم وتجعلهم أقوياء في مواجهة أعدائهم.
وبهذا التقرير يظهر الجواب عن تساؤل مشهور لماذا لم يطالب العلماء بالاستقلال أول الأمر، فالقضية أن التحرر من الاستعمار المادي لابد أن يسبقه التحرر من الاستعمار الروحي، وأن تحرير الإنسان يسبق من دون شك تحرير الأرض، وقد أبان عن هذه المعنى في الخطاب الذي ألقاه في الملعب البلدي سنة 1936، حيث بين أن الأمة ما زالت بعيدة عن الاستقلال ما دامت لم تستقل في أفكارها وكل مقومات حياتها، وما دامت لا تقدر أن تحرر نفسها من ربقة بعض المرابطين واستعبادهم لها باسم الدين».
وبعد مرور الزمن وتقدم الدعوة لم يخف الشيخ مساندته لحزب الوحدة الجزائرية(1947) الداعي إلى الاستقلال التام، وتفضيله على الأحزاب الأخرى التي كانت تطالب بالاستقلال الذاتي أو الداخلي مع الارتباط بفرنسا. قرر في العام نفسه في جريدة الإصلاح (عدد51) أن الجزائر لا تختلف عن بقية الشعوب الطامحة إلى نيل الحرية والاستقلال وأنها أمة لها كل الذاتيات التي تميزها عن غيرها من تاريخ ولغة ودين. وفي عام 1953 وصرح للمنار بضرورة اتحاد الأمة:« في سبيل تحرير أمتنا من الاستعمار».
الأصل الرابع :
الإصلاح عند العقبي كان شموليا فلم يقتصر على المجال الديني وإن عنده مقدما بل كان متسعا لمجالات أخرى، كأعمال البر والإحسان، ولذلك فقد ترأس الجمعية الخيرية الإسلامية منذ تأسيسها عام 1933بالعاصمة، وكانت تعمل على إعانة الفقراء وإغاثة عابري السبيل، وقد توسع نشاطها عام 1939 إلى إيواء المسنين وتعليم الشباب والشابات الصناعات اليدوية، وفتح عيادة تقدم العلاج المجاني.
وشملت دعوته الشباب الذين أسسوا في مطلع الخمسينات منظمة شباب الموحدين في نادي الترقي، وكان الشيخ العقبي هو الأب الروحي لهذه المنظمة، التي كان شعارها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأصدرت جريدة الداعي ثم جريدة اللواء، والتي كان من دعوتها طلب الحرية ومقاومة الاستعمار.
شعر الطيب العقبي : دراسة موضوعية :
له ديوان شعر كله إسلامي .
رد التحية فرض :
وأثبت الشيخ شيئاً من شعره في ديوان الأدباء وصحيفة ملوك الكلام من الشعراء .
فها هو يقول من قصيدة عنوانها ( رد التحية فرض ):
حيّ الجزائر ما دامـــــت تحيينا وانهض بشعب قضى في جهله حينا
واعمل لخير بلاد طالما هضمت حقـــــــــوقها واتخذ مـــــــــــــن حبها دينا
وسرْ حثيثاً على تلك الطريق إلى حيث المعارف حيث العلم يهدينا
فهو يدعو إلى توجيه التحية إلى شعب الجزائر، ويحث العلماء على النهضة والرقي ونشر الوعي بين الجماهير ، ويطلب تقديم الخير لهذه الأمة التي هضمتْ حقوقها، ونهبت خيراتها، ويشيد بدور الصحافة الإسلامية التي قامتْ بواجب الدعوة والتوعية فيقول :
تلك الصحافة لو تندى الأكفّ لها لا شيء عنها مدى الأيام يسلينا
مرحى لها ولمن قامـــــــــــــــــــــــــوا بواجبها يدعــــــــوننا علناً للحـــــــــــــــــــق مصغينا
بين شوقي والمعري :
وقال من قصيدة عنوانها : بين شوقي بك وأبي العلاء المعري :
قد قال شوقي في الحديث مقالة في شــــعره نادى لها الحكماء
رداً على شيخ ٍ تقادم عــــــهده ورآه من جـــهة البرور أســــــاء
فأجبته لــــــــــــــــــــــو كنته لعــــــــــــــــــــذرته أو كان مثلك قولـــــه ما جـــاء
يعد شعر العقبي من نوع شعر المنابر لأن أساسه الوعظ والإرشاد، وأصباغه دينية يكثر فيه لفظ الإسلام والإصلاح والسلف وما شابهها كما أن أهدافه إصلاحية ترمي إلى إنماء الوعي الشعبي عن طريق الدين والمبادئ الخلقية .
قال من أبيات متفرقة :
يسعى الحريص إلى الأمام بزعمه وتراه في التحقيق يمشي القهقرى
كل يسير إلى مــــــــــــــدى غاياته والدهر يعكســــــــــه فيرجع للورى
الغزل العفيف :
ومن شعره الوجداني ، حيث يقول في الغزل العفيف ، وسحر العيون الذي يسبي القلوب :
ربّ حوراء غضيض طــــــــــرفها مـــــــــــن بنات الترك تزهو بالحور
إن أقل باللحظ قلبي سحرتْ قلت سحرُ اللحظ أدهى وأمرْ
تأثره بأسلوب القرآن :
والشاعر الطيب العقبي هو ابن القرآن تربى في ظلاله، ورشف من رحيقه، فلا غرو إن تأثر بأسلوبه ، فها هو يقول معبراً عن ضجر الشعب وضيقه، وعن آلامه المادية والمعنوية الشديدة في هذه الحقبة المظلمة من تاريخ الجزائر في العصر الحديث :
غاض العدى مجدنا قدماً وقد عملوا لنيل مــــــــــــــــــــا زرع الآباء تلقينا
حتى سقونا حميماً لا مـــــــــــــــــــــــساغ له وجرعوا الكلّ زقوماً وغسلينا
فكلمات حميم، وزقوم، وغسلين، استخدمها بنفس الدلالات التي جاءت في القرآن الكريم .
مناجاة إلهية :
كتب الشيخ الفاضل الطيب العقبي المغربي ثم المدني – رحمه الله – قصيدة يبتهل فيها إلى الله، ويتضرع إلى جنابه أن يغفر له ذنبه، ويستر عيبه، ويغنيه من الفقر، ويشكو إليه قلة المال والعلم والعمل ، فيقول :
توسل بخير الخلقِ علّك تقبلُ فما خاب من بالمصطفى يتوسّل
فهو يدعو القارئ للتوسل بالنبي إلى الله، بالرغم من كونه سلفياً يجل شيخ الإسلام ابن تيمية الذي منع التوسل بهذا الشكل ، ولعله يقصد توسل إلى الله بحبك لخير الخلق واتباعه ، ثم يقول مسترسلاً في تضرعه :
وقم في الدياجي واسأل الله خاشعاً فقـــــــــــــد فــــــــــاز عبدٌ بالدعا يتبتّلُ
ونادِ الذي لا يعلمُ الغيبَ غــــــــــــــــــــيره أيا حيُّ يا قيـــــــــــــــــــوم أنتَ المؤمّلُ
وقفتُ بباب الله وقفةَ ضـــــــــــــــــــــــــــــارعٍ أنادي، وطرفُ النجم للغرب أميلُ
أيا رافع َ السبع الطباق إلى العُلا ويا فردُ في عليائه هــــــــــــــــــو أوّلُ
ببابكَ فقري واحتياجي مـــــــــــــــــــــــاثلٌ وذلي وعجزي هــــــــــــاهنا يتمثلُ
وذنبيَ أعيـــــــــــــــــــــاني تحمُّل ثقــــــــــــــــــــــــله وحمــــــــــــل شقائي من ذنوبي أثقلُ
ومالي من عــــــــــــــــــــــلمٍ ولا عمل ٍبه ولا ليَ من عــــــــــــــــــــذر به أتعلّلُ
وإني على مــــــــــــــــــــــا بي بعفوك واثقٌ وبالمصطفى غفراً لذنبي أسألُ
وحاشا وكلاّ أن أخيبَ، وإنه لأرحم من كلٍّ بنا وهو أفضلُ
وداع رمضان :
وكتب الشاعر الداعية الطيب العقبي التونسي ثم المدني في وداع رمضان قصيدة من الكامل ، يبكي فيها على فراق رمضان شهر الخير والإحسان ، فقال :
يا راحلاً وبمهجتي قد سارا أشعلتَ في قلبي لبينكَ نارا
مهلاً رويدك إنني بكَ مغرمٌ لا أستطيع على الفراقِ قرارا
جرحَ الجفا قلبي بصائبِ نبله ِ ولكم على أهل الهوى قد جارا
ويصور بهجته بقدوم الشهر الكريم، فيقول :
آنستني متفضلاً بزيــــــــــــــــــــــــــــــــــارة فحمدتُ ربي خفية ً وجهارا
وغدوتُ من فرحي أشاهدُ بهجة ً لما غدا ليلُ المحبِّ نهارا
وخلعتُ من طربي وفرط ِ تشوقي يومَ الوصالِ على هواكَ عذارا
ومضت أيام رمضان مسرعة ، فبكى الشاعر على رحيله بدموع غزيرة حتى راح عذاله من عامة الناس، يلومنه ، وسألوه عن سرّ تلك الدموع، فأجابهم :
ثم انقضت أيام وصلك بغتة ً فعلمتُ أن غرابَ بينكَ طارا
لما رأى مني العواذلُ صبوة ً ودموعَ عين ٍ قد سُكبن َ غِزارا
قالوا : لمن تهوى ومن هذا الذي أصلى فؤادكَ جفوة ً وتِعارا – الغيظ .
فأجبتهم كفو المـــلامةَ إنني أهوى لشهرٍ أودع َ الأسرارا
شهرٌ أقام َ تشرفاً ثم انقضتْ أيامـــــــــــه فكسا الأنام َ وقارا
لقد ألفّ الجهلة من الناس أن البكاء يكون على فقد العزيز والقريب والحبيب، ولم يسمعوا بأن المسلم والعالم الرباني يبكي لانقضاء مواسم الخير، وضياع فرص الطاعات، فأي وقت يعوض المؤمن عن ذهاب ليلة القدر التي تساوي ألف شهر :
هو خيرُ شهرٍ فُصّلت أيــــــــــــــامه وسما على كلّ الشهور فخارا
وبليلة القدر التي قد شــــــــــــــرّفت أبقى له بينَ الورى تــــــــــــــــــذكارا
طوبى لمن قد صامه ، وبصومه أرضى الإله ، وأغضبَ الفجارا
شهرٌ نأى عنّا، وغادرنا، وكم أعمر مساجدَ بالتقى وأنارا
ولكم به ازدهرتْ مجالسُ أنسنا ولكم أضاءَ وعطّرَ الأمصارا
ويحث المسلمين على البكاء على رحيل ذلك الشهر المبارك :
لهفي عليه وقد دنا ترحـــــــــــــــالهُ لهف َامرئٍ قد جُلِّلَ الأخطارا
يا أيها الصوام فابكوا شهركم وذروا الدمــــــوع لفقده أمطارا
وتذكروا ما كان مـــــــــــــن أيامه وأقضوا عجالاً بالتقى أوطارا
وقفوا وضجوا بالبكا لفراقه وارعوا له عهداً بقي وجوارا
يُهنيكمُ أن صمتموه حسبة ً فوقاكمُ الله الكريم خسارا
ورجوتمُ بِرَّ الإله وعـــــــــــــــــــفوه وشددتمُ للصحالحات إزارا
آثاره ووفاته :
قد ترك الشيخ العقبي آثارا كثيرة مكتوبة لو تتبعت وجمعت لجاءت في مجلدات، ومن آثاره تلاميذه الذين لا يعدون كثرة، ومنهم من برز وكان من العلماء ودعاة الإصلاح كفرحات بن الدراجي (ت1951) وعمر بن البسكري (ت1968)، ومحمد العيد آل خليفة (ت1979) وأبو بكر جابر الجزائري.
بعد سنة 1953 مرض الشيخ وضعف، وكان قد أصيب بمرض السكر الذي ألزمه الفراش عام 1958 وأجبره على ترك نشاطاته. وفي مرضه هذا أوصى وصية اشتد في الإلحاح عليها، وهي لابد أنه لابد أن تشيع جنازته تشييعا سنيا بدون ذكر جهري، ولا قراءة البردة، ولا قراءة القرآن حال التجهيز أو حين الدفن وألا يؤذن بتأبينه قبل الدفن أو بعده، وتوفي الشيخ الطيب العقبي رحمه الله في 21ماي1961، وشيعت جنازته تشييعا سنيا ودفن في مقبرة ميرامار بالرايس حميدو، وكانت جنازة مهيبة حضرها حسب الجرائد في ذلك الوقت قرابة خمسة آلاف شخص.
هذا هو العقبي
هذا هو العقبي الذي قال فيه الشيخ ابن باديس:« حياك الله وأيدك يا سيف السنة وعلم الموحدين ، وجازاك الله أحسن الجزاء عن نفسك وعن دينك وعن إخوانك السلفيين المصلحين ها نحن كلنا معك في موقفك صفا واحدا ندعو دعوتك ونباهل مباهلتك ونؤازرك لله وبالله».
هذا هو العقبي الذي قال الشيخ الإبراهيمي في وصفه:« هو من أكبر الممثلين لهديها -أي الجمعية-وسيرتها والقائمين بدعوتها، بل هو أبعد رجالها صيتا في عالم الإصلاح الديني وأعلاهم صوتا في الدعوة إليه …وإنما خلق قوالا للحق أمارا بالمعروف نهاء عن المنكر وقافا عند حدود دينه ، وإن شدته في الحق لا تعدو بيان الحق وعدم المداراة فيه وعدم المبالاة بمن يقف في سبيله» .
هذا هو العقبي الذي قال فيه الشيخ أبو يعلى الزواوي:« العلامة السلفي الصالح داعية الإصلاح الديني ».
هذا هو العقبي الذي عده أمير البيان شكيب أرسلان أحد حملة العرش الأدبي في الجزائر إضافة إلى مبارك الميلي، وابن باديس ، والزاهري.
هذا هو العقبي الذي قال فيه شاعر الثورة الجزائرية مفدي زكريا:« الأستاذ الأكبر العلامة أبو الجزائر الجديدة الشيخ سيدي الطيب العقبي ».
هذا هو العقبي الذي قال فيه أبو بكر الجزائري:« دروس الشيخ الطيب العقبي ما عرفت الدنيا نظيرها، ولا اكتحلت عين في الوجود بعالم كالعقبي » ...
عليهم رحمة الله أجمعين، وسبحانك اللهم، وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك.
المراجع :
تاريخ الشعر العربي الحديث ، أحمد قبش : ص 135 ، 136 .
مجلة التراث العربي : العدد 49 ، أكتوبر 1992 م ، ص 99 .
-مناجاة ، قصيدة منشورة في كتاب : ((من تراث بعض أدبائنا وشعرائنا في المدينة المنورة )) – جمعه أحمد إبراهيم السمان – المؤذن بالحرم النبوي – ص 14- 15 .
- وداع رمضان ، المرجع السابق نفسه : ص 123، 126 .
وسوم: العدد 629