العالم المجاهد الشيخ محمد عبد الله الخطيب في ذمة الله
"سعدت كثيرا بتعيين الأوقاف لي .. لا لشيء سوى لأني سأؤدي بعض الواجب الذي في رقبتي للمسلمين، أعلمهم ما تعلمت وأخطب فيهم و أعتني بأبنائهم و أولادهم"،
بهذه الكلمات وصف المرحوم الشيخ محمد عبد الله الخطيب ، دوره الدعوي الذي ظل يؤديه حتى وفاته فجر الثلاثاء عن 21 من المحرم 1437 الموافق 3 نوفمبر 2015 م عن عمر يناهز 86 عاما
المولد والنشأة العلمية
- ولد فضيلة الشيخ محمد عبد الله الخطيب في 26 فبراير 1929م ببلدة جهينة الغربية مركز طهطا محافظة سوهاج في بيئة محافظة على الآداب والأخلاق العامة .
- حفظ القرآن الكريم بكتاب القرية ، ودرس بالمدرسة الإلزامية .
- التحق بالأزهر الشريف بالمعهد الديني بطهطا وحصل على الشهادة الابتدائية .
- ثم التحق بمعهد سوهاج الديني ومنه حصل على الشهادة الثانوية .
- ثم التحق بكلية أصول الدين بالقاهرة ونال الشهادة العالية.
- وحصل بعدها على تخصص التدريس من كلية اللغة العربية بالأزهر .
الحياة الوطيفية والعملية
- عمل بالإمامة والخطابة بوزارة الأوقاف بمصر .
- اعتقل في 1965م ضمن حملة شنها نظام جمال عبد الناصر ضد الإخوان المسلمين؛ حيث حكم عليه بعشر سنوات.
- خرج بعدها وعاد لوظيفته الأساسية إمامًا لمسجد خورشيد بجزيرة بدران بشبرا.
- تم اختياره بعد ذلك للعمل بالمكتب الفني لنشر الدعوة الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية .
- تم إعارته من وزارة الأوقاف المصرية إلى ليبيا؛ حيث عمل بالمكتب الفني بإدارة الوعظ والإرشاد بوزراة الأوقاف الليبية ومسئول الفتوى بالوزارة ، واستمرت فترة عمله بليبيا حوالي عام ونصف.
- عاد بعدها إلى مصر، ثم تعاقد مع وزراة الشئون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة؛ حيث شغل فيها وظيفة كبير وعاظ ورئيس قسم الفتوى، واستمر عمله بالإمارات حوالي سبع سنوات .
من جهود المرحوم الدعوية
- زار محاضرًا وداعيًا إلى الله دولاً كثيرة، منها الغربية كالولايات المتحدة وإنجلترا، ومنها العربية كليبيا والجزائر والسودان .
- كما شارك في العديد من المؤتمرات الإسلامية في العواصم المختلفة .
- كان منزله مفتوح دائمًا لضيوفه ومريديه، ويجيب يوميًّا عبر هاتفه الشخصي على جميع الفتاوى التي تعترض المتصلين في شئون دينهم ودنياهم..
مع جماعة الاخوان المسلمين
التحق الشيخ محمد عبدالله الخطيب بجماعة الإخوان المسلمين وقت ان كان طالبا، مما عرضه للاعتقال مع بقيه إخوانه عام 1965م.
وبعدما خرج من المعتقل سافر إلى ليبيا ثم إلى الإمارات، وبعدما عاد كان أحد المشرفين على مجلة الدعوة قبل غلقها.
يعتبر الدكتور محمد عبدالله الخطيب من أحد أعضاء مكتب الإرشاد بعد تشكيله في دورته عام1990م، وظل فيه حتى أجريت الانتخابات في عام 2010م وطلب الشيخ إعفاءه من المنصب قبل الانتخابات لظروفه الصحية.
أشرف الدكتور الخطيب على قسم نشر الدعوة قبل أن يتسلمه الدكتور عبد الرحمن البر، وكان للشيخ اسهامات كبيرة في العمل الدعوي.
الإنتاج العلمي
- أثرى المكتبة الإسلامية بمؤلفاته التي بلغت حوالي أربعين كتابًا، ركز في معظمها على قضية تصحيح المفاهيم الإيمانية والتعبدية والفكرية والدعوية..
- نشرت مقالاته وفتاواه بالعديد من المجلات الإسلامية، مثل: مجلتي الدعوة، ولواء الإسلام، وحاليًا مجلة الرسالة، بالإضافة إلى ما تنشره له المواقع الإسلامية على شبكة الإنترنت.
- كما حظيت المكتبة الصوتية برصيد كبير من خطبه و محاضرته التي سجلت له خاصةً اثناء فترة عمله بدولة الإمارات.
من مؤلفات المرحوم:
للشيخ الخطيب عدد من المؤلفات تجاوزت الأربعين مؤلفاً ومن أبرزها:
فوق أطلال الماركسية والإلحاد
نظرات في رسالة التعاليم
الحج معسكر رباني
فقه الصيام
قيام الليل
مفاهيم تربوية- 6 أجزاء
( فتاوى معاصرة)- جزآن
الإمام حسن البنا داعية .. مجاهد.. شهيد
عروبة مصر وإسلامها
من فقه الهجرة
القائد المربي
نحو امة الخلود رغم كيد اليهود
الصفات الإيمانية والأخلاقية للمؤمنين
وقفه في وجه ضلالات الفوائد الربوية
الصيام وأسراره
الدقائق الغالية ..الصلاة
كيف ننهض بأبنائنا
هذا غير الكثير من المقالات والفتاوي التي أثرت المكتبة الإسلامية.
*****************
شذرات من حياة المرحوم
الداعية الرّحّالة ..
يعدّ الشيخ محمد عبد الله الخطيب رحّالة الأوقاف الأوّل في شؤون الدّعوة إلى الله، منذ أن تمَّ اختياره للعمل بالمكتب الفني لنشر الدعوة الإسلامية التابع لوزارة الأوقاف المصرية، فأعارته الوزارة إلى ليبيا؛ حيث عمل بالمكتب الفني بإدارة الوعظ والإرشاد بوزارة الأوقاف الليبية ومسؤول الفتوى بالوزارة، واستمرت فترة عمله بليبيا حوالي عام ونصف، عاد بعدها إلى مصر، لتتعاقد معه وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف بدولة الإمارات العربية المتحدة، وشغل فيها وظيفة كبير وعاظ ورئيس قسم الفتوى، واستمر عمله بالإمارات حوالي سبع سنوات. كما كان لزيارات عضو مكتب إرشاد الإخوان سابقا أثرها البالغ في نشر الإسلام، حيث زار محاضرًا وداعيًا دولًا كثيرة، منها: الولايات المتحدة وإنجلترا وليبيا والجزائر والسودان، إضافة إلى أنه شارك في العديد من المؤتمرات الإسلامية في العواصم المختلفة.
- يحكي عن قصة التحاقه بالإخوان، قائلا : "كنا في الثانوي نرى علماء يدرسون لنا لهم سمت معين و أدب عال و أخلاق فاضلة يعاملوننا كما يتعامل الآباء معنا، يحنون علينا، فنسأل من هؤلاء من بين علماء الأزهر فيقولون هؤلاء من جماعة الإخوان المسلمين".
وأثر فيه العديد من الشخصيات الذين كانوا سببا في التحاقه بركب الجماعة، من أبرزهم الشيخ أحمد المنشاوي الذي يقول عنه "لا أنسى أبدا الشيخ أحمد المنشاوي فقد كان قاضيا شرعيا لمدينة سوهاج و كان من الإخوان و سنه متقدم و مع ذلك كان يسعى في الليل و البرد الشديد يزورنا و نحن طلاب و يتعرف علينا و ينصحنا و يجلس معنا و نحن في سن صغيرة".
- في سجون عبد الناصر
في عام 1948، بعد المعركة الطاحنة التي خاضتها جماعة الإخوان المسلمين بعد مشاركتها في حرب فلسطين، أسرع هو ورفاقه حينذاك بالانضمام إلى الإخوان بعدما سمع عن ما وصفه في تسجيل سابق له في 2009 بـ "الإجرام الذي عومل به الإخوان و التعذيب الذي نالوا قسطا منه بسبب مشاركتهم في هذه المعركة".
والتحق المرحوم بكلية أصول الدين و نال ما يعادل الماجستير في اللغة العربية، فعينته وزارة الأوقاف أماما و خطيبا لأحد المساجد، ويقول إنه كان سعيدا بهذا التعيين فطوال اليوم كان ما بين درس و صلاة و محاضرة شارك فيها جميع الفئات الرجال و الأطفال و النساء داخل المسجد.
بعدما عين أماما بالمسجد، تزوج و رزق بثلاث بنات وولد، لكنه لم يهنأ فعلاقته بجماعة الإخوان، تسببت في البقاء لتسع سنوات في السجون خلال فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
وألقى القبض عليه في عام 1965 من منزله و حًكم عليه بعشر سنوات خرج بعدما قضاء تسعة من مدة السجن، ويقول عن ظروف اعتقاله: "انتقلنا إلى السجن الحربي و ما أدراك ما الحربي و أهوال الحربي و قد تحول إلى جحيم، نار موقدة لا تنطفأ و تسأل ما السبب لا تجد أحدا تسأله فالأهوال و التعذيب كل ذلك من أجل شهوة إنسان جاهل منحرف".
***************
من وصايا الراحل الأمين
أيها الأحباب.. هذه واجبات علينا قبل غيرنا
بقلم: الشيخ محمد عبد الله الخطيب
أيها الإخوان المسلمون..
لقد تحمَّلتم كثيرًا في الماضي، وصبرتم على الحقد الأسود يأتيكم من هنا وهناك، وعلى الأكاذيب والأباطيل التي تُحاك ضدكم.
إنكم لم تذنبوا ذنبًا، ولم ترتكبوا جرمًا؛ حتى تُساقوا في مصر وفي غير مصر إلى السجون والمعتقلات، وتنهال عليكم الضربات والطعنات ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).
يقول الشاعر:
سل السياط السود كم شربت دماءً حتى غدت حمرًا بلا تلوين
ولجأتم إلى الله لجوء الصادق الأمين صاحب الدعوة، وتعلقتم ببابه وطرقتموه، ورفعتم أكفَ الضراعة إلى الله أن يرفع عنكم هذه الغُمم، ولم تنسوا أبدًا في مراحل الشدة ومراحل القسوة...، وما زلت الآن أراجع وأقرأ وأسأل، من هم أقدر مني على الإجابة؟
ما الذي فعله الإخوان مع عبد الناصر؟
هل طلبوا حكمًا؟!
أبدًا والله، هل نافسوا أحدًا في دنيا، حتى تنزل بهم هذه الأهوال التي تعلمونها جميعًا، بل وعشتموها وذقتم طعمها المر، وسالت الدماء بلا سبب وصعدت الأرواح إلى بارئها تشكو ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، تشكو قوانين الغاب والناب، صعدت إلى بارئها، والشهداء فوق المقصلة يقولون كلامًا عجيبًا؛ فالشيخ الشهيد محمد فرغلي يترك في وصيته: يا إبراهيم! (ينادي ابنه): إن أباك أقل من أن يموت في سبيل الله.
والشهيد الحبيب العظيم يوسف طلعت يقول وهو على المقصلة آخر كلمة نطق بها: اللهم سامحني وسامح من ظلموني.
هي هي التي قالها الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم: "لا يا أخى يا جبريل إنني لم أبعث نقمةً، ولكني بُعثت رحمةً، اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون".
فلماذا إذًا يُعلق على المشانق، ويدفن في تل المقطم، من لم يعتدوا على أحد، ولم يطمعوا في ملك أحد؛ لأنه أتفه من أن يطمع فيه مؤمن، بل ساعدوك يا عبد الناصر، وآزروك وعاونوك وسددوك ونصحوك بعدم الغلظة على هذا الشعب المسكين، وأطعموك من طعامهم، ونمت في بيوتهم، وأقسمت لهم على المصحف: عند النصر لتحكمنَّ بالقرآن، وتعملنَّ لتطهير البلد من المعوقات والمعاصي والذنوب، حتى تستطيع أن توجد الرجولة التي تقف على أقدامها وتجاهد في سبيل أمتها، ثم رفضت ذلك من أول يوم وبدأت المعركة،
وطالما سمعت أن الإمام العظيم حسن الهضيبي يقول: أيها الإخوان.. أقيموا دولة الإسلام في صدوركم؛ تقم على أرضكم، وهي كلمات قليلة لكن من يتأملها يجد أنها عظيمة عميقة، تصدر من رجل مجرب عظيم.
كل ما ذكرت معروف، وأصبح جزءًا من التاريخ؛ إذا علمه الناس فهو خير لهم، وإن لم يعلموه فالله عز وجل يعلمه وأثبته عنده سبحانه في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
ولكن أحب أن أقول لكم مذكِّرًا ومعرِّفًا ومبيِّنًا: تميزوا في اجتهادكم ومثابراتكم على الطاعات والقربات، وعلى حب الله ورسوله ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ﴾ (البقرة: من الآية 165).
لا تجروا وراء الدنيا؛ لأن الله يقول: ﴿فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ (الجمعة: من الآية 10).
وعند الجنة يقول: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣)﴾ (آل عمران)، فلا تختلط الأمور ونسارع إلى الدنيا وننسى الآخرة، فالإمام البنا عليه الرضوان يوم أن استشهد وجد في جيبه جنيه و10 قروش ومسبحة.
من تعلَّق بالآخرة ووضعها في مقدمة حياته عوضه الله عن الدنيا التي لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء.
احرصوا على أن تكون الموازين معتدلة، وإلا اختلت الأمور في أيدينا، وبعدنا عند دعوتنا،
كان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه تاجر حرير في بغداد، ورزقه الله بتاجر متفرغ لهذا الأمر، فقال له: نعمل كشريكين أقوم أنا بالعمل، وأنت تتفرغ لمهمتك الكبرى؛ لدعوة الله ونشر العلم وتربية الشباب، وفي آخر العام نقتسم الأرباح بيني وبينك.
فوافق الإمام وهو مسرور، وكان يأخذ نصيبه من الأرباح لا ليرفع بها رصيده الدنيوي، ولا يكثِّر بها القليل؛ بل يأخذها بكاملها ويذهب إلى المسجد ويجمع أبناءه وتلاميذه الذين يربيهم، فيقول لهم: خذوا هذا الرزق الذي أفاض الله به علينا، فعيشوا به ولا تحمدوني؛ بل احمدوا الله عز وجل الذي أعطانا هذا الرزق- رضي الله عنه-،
وكان الإمام البنا الشهيد العظيم يخرج من المركز العام في آخر النهار وهو ذاهب إلى بيته، وعند محطة الترام لا يجد ثمن التذكرة، فيعود إلى المركز مرة أخرى فيطرق الباب فيفتح له أحد تلاميذه فيقول له: عندك سلفة 5 قروش؟
فيقول: لا،
فيقول: اسأل من بالداخل لعلك تجد، فيجد له 5 قروش!!
رائد التجديد في القرن العشرين، وباعث النهضة الإسلامية، وإمام الصحوة العالمية، ليس في جيبه ثمن تذكرة الترام، وكانت لا تزيد عن قرش صاغ!!!.
انظروا إلى التجرد أيها الإخوان وإلى السمو فوق الدنيا، وأصحاب الدعوات لهم سماتهم، لا يبكون على الدنيا ولا يحرصون عليها، بل آمالهم وأحلامهم في الأخرة، فإذا أحسوا بأنهم أرضوا ربهم فقد رضي الله عنهم، وإذا أحسوا بغيرها يكون الألم والبكاء والسهر.
أيها الإخوان هذه حقائق أضوأ من الشمس، فآمنوا بها واعملوا لها، ودعكم من عبادة الدينار والدرهم، فهؤلاء تعساء الدنيا والآخرة، ففي الحديث: "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش" صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فما يجري وراء الدنيا ويعطيها أكثر من حقها إلا عبد ذليل النفس، وقديمًا قال الشاعر يبكي حاله:
إني بُليت بأربع ما سلطوا إلا لشدة شقوتي وبلائي
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي
أيها الأحباب.. أنتم وغيركم، وهم كثيرون على طريق الدعوة، لا نعلمهم لكن الله يعلمهم وهو يعينهم ويعطيهم أجرهم.
أيها الإخوان..
أوصيكم بأن تسارعوا دائمًا إلى المساجد في جميع الصلوات ﴿إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا﴾ (النساء: من الآية 103)
أوصيكم بأن تطيلوا في الدعاء وتكثروا منه ونحن على أبواب رمضان، فهيئوا أنفسكم من الآن لشهر النصر لشهر المجاهدة لشهر الفتوحات، وتأملوا أهل بدر، تأملوهم جيدًا، وتأملوا عدتهم البسيطة وعددهم القليل، ومع ذلك أحرزوا النصر العظيم الذي فتح الطريق للإسلام، بل للدينا كلها، وأذل قريشًا وأذل الطغيان، ووقف صلى الله عليه وسلم على قبور الذين عاندوه وآذوه، وضيقوا عليه، يناديهم "يا أبا جهل يا عتبة يا شيبة.. يا فلان.. يا فلان.. هل وجدتم ما وعد ربكم حقًّا.. فأني وجدت ما وعدني ربي حقًّا.."
فقال عمر: يا رسول الله! أتناديهم وقد جيفوا؟!
قال: "يا عمر! ما أنت بأسمع لما أقول منهم، ولكنهم لا يجيبون".
أيها الإخوان..
إن سلاح الماديات الذي يهتم به جميع الماديين ويكدسونه، ويعتقدون أنه وسيلة النصر، هو عندنا عملة زائفة يجب أن تُصحح بالإيمان، ولا قيمة لها بغير الإيمان، تصحح بالرجل الذي يحملها ويقف على قدميه تائبًا عابدًا مرابطًا في سبيل الله عز وجل.
أيها الإخوان الأحباب..
أوصيكم وأوصي نفسي وأوصي كل عاقل يبغي الحق ويريد نصرته أن يبدأ دائمًا بنفسه، ثم بمن يعول، ويعطي أهل بيته نصيبهم من الرعاية والعناية والتربية على حب الحق وعلى عشق الإيمان وعلى التوحيد الخالص لله عز وجل، ويعدل بينهم، وتكون الزوجة أيضًا خير معين في هذا الأمر، وهذا يأخذ جزءًا كبيرًا من وقته؛ لأنه يصنع قاعدة للإسلام بتربية الأولاد والاهتمام بهم، لا يتركهم نهبًا للشارع، ويقرر في حزم وعزم أن جميع الأولاد خاصة طلاب المدارس وطالباتها ونحن في استقبال الإجازة، ينامون مبكرًا ويستيقظون مبكرًا ولا يسهرون، أما الوقوف في الشارع كالآخرين والتفاهات التي تقع من سهر الليل ونوم النهار، فهذه جريمة في الإسلام.. جريمة في الإسلام.. جريمة في الإسلام.
يجب أن نبرأ منها وأن تصبروا ونصبر في تغييرها إن وجدت، ويجب أن نكون جادين ونحن في طريقنا إلى الجنة، والله يرانا ويحاسبنا على التقصير، ثم بعد ذلك أرجوا اجتناب المشاكل والخلافات من أجل الدنيا.. هذا حرام وضلال.
ثم بعد ذلك أرجو أن يعامل كل زوج زوجته أفضل وأحسن معاملة، حتى ولو لم تكن أهلاً لهذا، فهو أهل لهذا إن شاء الله، وإذا لم يكن هناك خير مع الأهل، فأي خير بعد ذلك.
وأوصيكم ونفسي بتقوى الله، والمسافة بين الدنيا والآخرة؛ نفس يدخل فلا يخرج أو يخرج فلا يدخل، فالعاقل من يضع هذا في حسابه، وأن يؤمن إيمانًا صادقًا جازمًا بكل حرف في كتاب الله، ويضعه فوق رأسه، وأن يؤمن إيمانًا صادقًا جازمًا بكل حديث صحيح نطق به سيد الخلق ﴿لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21)﴾ (الأحزاب)، ﴿فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ ۚ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٤٤)﴾ (غافر).
أيها الأحباب:
لا.. بل إيمان وعمل وثقة في وعد الله وأمل
جاء في الحديث الصحيح: "والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه".
طريق طويل:
يقول الأخ الشافعي بدر من الدقهلية: إنه في أبريل 1947م كان الأستاذ البنا- رحمه الله- بمستشفى الروضة بسبب إجراء عملية بسيطة له، وحضرتُ خصيصًا لزيارته، وذهبتُ إلى المستشفى في الأتوبيس وكنت أرتدي عباءة، وفي الأتوبيس وجدت منظرًا خُلقيًّا أثارني، وكدت أشتبك في معركةٍ مع مرتكبيه، ولكن تركتهم وأنا ساخطٌ على الأوضاع، وانصرفت إلى تفكير عميق في أمر الدعوة التي نحملها، ومتى سنصلح كل هذا الفساد؟ وكيف؟ وكم من الأجيال أو الزمن الطويل نحتاج إليه؟
ويقول: وسرت في الطريق حزينًا، وقابلت الأستاذ وأنا على هذه الحال، فلم تخف عليه حالتي؛
فسألني: ماذا بك؟
فلم أجبه بصراحة،
وبعد قليل كرَّر السؤال، فذكرت له كل ما حدث في الطريق، وكل ما مر بخاطري بعد الحادث، وقلت له: متى نصلح كل هذا، وكل الذي يدور في المجتمع؟ وكيف نوقف عجلته؟
فابتسم رحمه الله، وقال: نعم إن الطريق طويل ولها أعباؤها، ولكن مفتاح المسألة بين يدي اليأس والأمل، والأمل واليأس هما المفتاح:
الأول يفتح الباب أمام المؤمن المجاهد فيمضي في الطريق،
والثاني يقفله، فلا يمضي إلى الغاية أحد، وإن هذه الأفكار والتساؤلات هي مبادئ المرض، مرض اليأس فاحذروه.
ونأخذ المثل الحي للأمل المشرق الذي أشار إليه الإمام من سيرة الداعية الأول صلى الله عليه وسلم،
ولعل من خير ما نوضح به هذا المعنى ما كان منه عليه الصلاة والسلام في العام الحادي عشر لبعثته؛
فقد خرج في هذا العام إلى وفود العرب، وقد حضرت إلى مكة في موسم الحج، يدعوهم إلى الله، وأخذ يطوف بالخيام ومضارب الحجيج طوال أيام الحج، فهو صلى الله عليه وسلم يغشى المجالس، ويعترض القادمين يعرض نفسه عليهم، فلم يظفر من أحد باستجابة.
وها هو موسم الحج قد أوشك على الانتهاء، وبدأ الحجاج يرحلون من مكة، ومع ذلك فرسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغ الخمسين من العمر ماضٍ في طريقه، وبينما هو عائد رأى ستة من أهل يثرب يتحللون ويستعدون للرحيل، فجلس إليهم.
عن عاصم بن عامر بن قتادة، عن أشياخ من قومه، قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: "من أنتم؟" قالوا: نفر من الخزرج.
قال صلى الله عليه وسلم: "أمن موالي يهود؟"
قالوا: نعم،
قال: "أفلا تجلسون أكلمكم؟"
قالوا: بلى، فجلسوا معه فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن،
قال: فأجابوه فيما دعاهم إليه بأن صدقوه، وقبلوا منه ما عرض عليهم من الإسلام، وقالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر مثل ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليك، فلا رجل أعز منك، ثم انصرفوا راجعين إلى بلادهم وقد آمنوا وصدقوا.
تبارك الله رب العالمين، لقد كان هؤلاء النفر أهل العقبة الأولى ونواة الأنصار بالمدينة، ومفتاح العهد الجديد الذي استقبله الإسلام، بعد الهجرة الكبرى. (من كتاب تذكرة الدعاة للأستاذ البهي الخولي).
والفارق كبير جدًّا بين الواقع الآن والواقع الذي واجهه الرسول صلى الله عليه وسلم؛
فالآن الناس من أمة محمد صلى الله عليه وسلم مسلمون موحدون، وربما كان بينهم من هو أفضل منا وأغير على الإسلام وعلى حرمات الله أكثر منا، وهم على استعداد للعمل لهذا الدين لولا العوائق والموانع،
الآن توجد الصحوة الإسلامية التي تبشِّر بكل خير، ويوجد العلماء الفضلاء، وهم أغير منا على هذا الحق، ومستعدون دائمًا للتضحية في سبيل الله، ولا يهم أن نعرفهم، فالحق تبارك وتعالى يعرفهم،
وكان الإمام البنا رحمه الله يدعوهم في كل عام إلى حفل يقيمه لهم، يتبادل فيه معهم الآمال والآلام يشاركهم ويشاركونه، وهم أصحاب غيرة على حرمات الله، وكان يقول لهم: أنتم الضباط ونحن الجنود، ائتوني بألفٍ من علماء الأزهر، يحفظون القرآن، ويعملون به ويفقهون السنة، ويطبقونها، وأعطي كل واحد من هؤلاء ألفًا من الإخوان يقودهم في سبيل الله، هذه ألف ألف لو أوتيتها لفتحت الدنيا، رضي الله عنه وأرضاه، يحيي الأمل ويجدد الثقة، وينمي الإيمان في القلوب.
وهناك اليوم المرأة المسلمة، المحجبة والمنتقبة، وهذا دليل على أن بنات أسماء والسيدة عائشة وأحفاد السيدة أم سلمة بحمد الله يثبتن أن المرأة المسلمة بخير، وأنها تذود عن دينها بعد أن التزمت به، وهناك من الأعلام المسلمة الكثير فأمتنا بخير، يملئون المساجد، ويتلون القرآن، ويحتاجون إلى مَن يحسن تذكيرهم، ويضع يده في أيديهم، ويبشرهم برحمة من الله وفضل، وقد قال الله عز وجل في رواد المساجد وأمثالهم: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (36) رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ (37)﴾ (النور).
وهناك من يتحرقون شوقًا إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى البذل والعطاء، والتضحية والفداء، وأحب أن أؤكد أن مهمتنا سهلة وميسرة إن شاء الله؛ لأن الخامة موجودة، والإيمان موجود بحمد الله في هذه الأمة.
وهناك الشباب المؤمن النظيف العفيف الذي لا همَّ له إلا نصرة هذا الحق، ورفع أمر هذا الدين، وإعلاء هذه الراية، لا تخلو منهم بحمد الله قرية ولا مدينة.
فكيف لا يكون الأمل والثقة في وعد الله، يقول الإمام البنا مؤكدًا هذه المعاني: "إننا ينبغي أن نعيش دائمًا، ونحيا على الأمل، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، وإننا والحمد لله مؤمنون فوجب أن نعيش على الأمل في الله بهذا الإيمان، فما كان الله ليضيع هذا الإيمان، ومهما كان الإسلام في محنة، ومهما اشتدت به المحن، ومهما تكاثرت عليه، فإننا آملون في الله خيرًا، ومن أحق بالأمل عند الله من رواد الإيمان، الذين اهتدوا بهدى السماء، وبنور محمد صلى الله عليه وسلم".
وهل يسيء الزارع ظنه بأرضه الخصبة التي قامت كل الشواهد على سلامتها وقوتها؟ إذن فكيف يسيء ظن الداعية بفطر الناس التي فطرهم الله عليها، وإسلامهم الذي تربوا عليه، وإيمانهم الذي ذاقوا حلاوته.
إن المسلمين اليوم في شتى بقاع الأرض في حاجة إلى قائد يقودهم إلى الله، ويفعل ما يقول، ويرفق بهم، ويحمل ضعيفهم، ويمسح على رأس اليتيم والمسكين والفقير، ويسهر على مصالحهم، ثم بعد ذلك يرفع اللواء أمامهم، ويعمل القرآن في يمينه، والسنة المطهرة في يساره، ويردهم ردًّا جميلاً إلى الله، ويعود القرآن غضًا طريًّا، عندئذٍ سيجد أن هذه الأمة تفعل الكثير، وتستجيب لله ورسوله.
ويقولون مرة أخرى كما قال أسلافهم يوم بدر "والله لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، فامض لما أراك الله لعل الله يريك منا ما تقر به عينك" (السيرة النبوية).
نحن نملك أعظم ثروة لا في الذهب ولا الفضة ولا في المعادن كلها، بل هي في كتاب الله الدستور الخالد الذي يخرج الناس جميعًا من الظلمات إلى النور قال تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1)﴾ (إبراهيم).
تحتاج الأمة أيضًا إلى العمل الدائب بعد الأمل العميق في نصرة الله تعالى، قال سبحانه وتعالى: ﴿وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105)﴾ (التوبة).
وليس معنى الصبر القصور والقعود والاستكانة، وإنما المقصود من الصبر أن المؤمن لا يشعر بأن هذه العقبات لا علاج لها؛ فإن ذلك يضايق المؤمن ويجعله لا يروض نفسه على التغلب عليها.
إن ميزة الإيمان الحق في الثبات والاطمئنان؛ في ثبات صاحب المبادئ عليها، واطمئنانه إليها فلا يشك لحظة في أنها منتصرة؛ لأن الله عز وجل قال لنا ذلك: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17)﴾ (الرعد)، ﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18)﴾ (الأنبياء)، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
********************
أيها الأحباب..
نظرات في التربية الجهادية
جاء في الحديث: "من سمع بي وسرَّه أن يراني فلينظر إلى أشعث شاحب مشمر؛ لم يضع لبنة على لبنة ولا قصبة على قصبة، رفع له علم فشمر إليه اليوم المضار وغدًا السباق والغاية الجنة أو النار"
(ابن حبان في الثقات والطبراني في الأوسط).
الجهاد في سطور:
ذكر الإمام ابن القيم- رحمه الله- أن الفقهاء اتفقوا على أن جنس الجهاد فرض عين، أي ملزم لكل مسلم ومسلمة؛ إما بالقلب أو باللسان أو بالمال أو باليد؛ فعلى كل مسلم أو مسلمة أن يجاهد بنوعٍ من هذه الأنواع، أما الجهاد بالنفس فهو فرض كفاية، ويصبح فرض عين في حالات ثلاث:
1- إذا أُعلنت التعبئة العامة.
2- إذا غزا العدو بلاد المسلمين.
3- إذا وُجد المسلم أو المسلمة في أرض المعركة.
* الجهاد أعظم ركن في الإسلام بعد الشهادتين؛ لأنه الدليل على وجود الغيرة والحميَّة الدينية وحب الدين عند المسلم، وهو بمعناه العام يتناول حياتنا كلها من أولها إلى آخرها، وهي حلقات ومراحل، وأي خللٍ فيها قد لا يؤدي إلى المطلوب.
* إن الطريقَ طويل، وعقباته كثيرة، ومزالقه خطيرة، ولا بد لمَن يسير عليه من إعداد نفسه بالصبر والمصابرة والتعود على الاحتمال والتضحية، وأن يخرج من حظ نفسه وأن يطارد وساوس شياطين الإنس والجن.
* الجهاد ضروري لبقاء الأمة الإسلامية أمة قوية مرهوبة الجانب بعيدةً عن أطماع الطامعين والحاقدين، كما أن الجهاد بالنفس دليل قاطع على إيمان المسلم ومبادرته إلى ما يحبه الله ويرضاه؛ ولهذا وبَّخ الله من يتقاعس عن الجهاد فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنْ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ﴾ (التوبة: 38).
* من الجهاد المبرور أن يظل الأخ عاملاً في سبيل غايته مهما بَعُدَت الشُّقة وطال الزمن حتى يلقى الله على ذلك، والطريق طويلة المدى، متعددة المراحل، كثيرة العقبات، ولكنها وحدها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل الثواب.
* الجهاد فريضة الله الماضية إلى يوم القيامة، وهو ركن أساسي في العقيدة الإسلامية، بل هو ذروة سنام الإسلام وقبته، وهو من مهمة المسلمين ومسئوليتهم كحمَلة رسالة للعالمين.. مهمتهم في الدعوة إلى الله الممتدة في هذا الكون ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ﴾ (يوسف: من الآية 104).
* الجهاد هو بذل الوسع والطاقة في سبيل إعلاء كلمة الله وإقامة المجتمع الإسلامي، وبذل الجهد بالمرابطة والقتال في سبيل الله نوعٌ منه، بل ذروة سنامه.
* غاية الجهاد إقامة المجتمع الإسلامي وتكوين الدولة الإسلامية الصحيحة، "لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى".
* طبيعة الدعوات الحقة لا يمكن أن يقع بينها وبين فريضة الجهاد قطيعة أو تباعد؛ لأن الجهاد من خصائصها، وهو سبيلها وطريقها، بل هو سر حياتها وسر وجودها، وعلامة ذلك رفض المواءمة دائمًا بين المثل العليا التي تحملها الجماعة وشهوات الناس الدنيا، كما ترفض دائمًا الجري وراء المرونة أو الكياسة واللباقة؛ لكي يأنس بهم أهل الباطل ويتلاقوا معهم في منتصف الطريق على أنصاف الحلول، فلا تنازل عن شيءٍ من العقيدة، ولا مساومة على الإسلام.
* إن أصحاب الدعوات الحقة لا ينتظرون كلمة ثناء من مخلوق؛ لأنهم يحرصون على مرضاة الله وحده، كما أنهم يدركون أن الدعة والقعود من الأمراض الخطيرة على الدعوات، كما أن السكون والراحة من أثقل الأشياء على أخلاق وطباع الدعاة والمصلحين على أنفسهم.
* علامة المجاهد الحق: أنه دائم التفكير، عظيم الاهتمام، غدوُّه ورواحُه وحديثُه وكلامُه وجِدُّه ولعبُه لا يتعدَّى الميدان الذي أعدَّ نفسه له، ولا يتناول سوى المهمة التي وقف عليها حياته وإرادته؛ يجاهد في سبيلها.
* أول مراتب الجهاد إنكار القلب، وأعلاها القتال في سبيل الله، وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وكلمة حق عند السلطان الجائر، وبقدر سمو الدعوة وسعة عظمتها تكون عظمة الجهاد في سبيلها وضخامة الثمن الذي يطلب لتأييدها وجزالة الثواب للعاملين.
* الجهاد مراتب:
أولاها جهاد النفس على تعلم الحق ومعرفة الهدى؛ معرفة الحلال والحرام، وإلزامها طاعة الله عز وجل.
إن من حق الله علينا أن يُطاع فلا يعصى، وأن يُذكَر فلا ينسى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر؛ فلا بد من جهاد النفس لتسلم قيادتها لربها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر ما نهى عنه" (أخرجه أحمد).
وفي حجة الوداع قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أخبركم بالمؤمن؟! من أمنه الناس على أموالهم وأنفسهم، والمسلم من سلم الناس من لسانه ويده، والمجاهد من جاهد نفسه في طاعة الله، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب" (رواه ابن حبان والحاكم).
هذه البداية الصحيحة للجهاد، ومن بدأ بغير هذا في جهاد نفسه وتربيتها فقد حاد عن الطريق، وعرض نفسه للضلال والانحراف، فلا بد لمن يريد أن يصلح نفسه بحق أن يلتزم منهج الله كتابًا وسنةً.
المرتبة الثانية: مجاهدة النفس على العمل بما علمت، وإلا فمجرد العلم فقط بلا عمل يضر لا ينفع، بل يتحوَّل الإسلام إلى مجرد ثقافة وفكر، أما التطبيق والتنفيذ فهيهات أن يصل إليهما إلا من جاهد نفسه على العمل والالتزام، وهذا هو منهج الصحابة.
ذكر الإمام ابن تيمية عن أبي عبد الرحمن السلمي أنه قال: حدثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن (عثمان بن عفان وعبد الله بن مسعود وغيرهما) أنهم كانوا إذا تعلَّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلَّموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: (أي الصحابة) "فتعلَّمنا العلم والعمل"، وقيل: العلم خادم العمل، والعمل غاية العلم.
المرتبة الثالثة للجهاد هي: أن يجاهد المسلم نفسه على الدعوة إليه وتعليمه من لا يعلمه، وإلا كان من الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى، ولا ينفعه علمه، ولا ينجيه من عذاب الله، وهذه مرتبة من الجهاد عظيمة، خاصةً حين يعم الفساد وينتشر اللهو ويغيب حكم الله في الأرض، ويضرب إبليس بخيله ورَجله، وتحل الغفلة؛ فالموقف (جهاد الدعوة) لا هوادة فيه وصبر على المشقات والأذى والمضايقات، وعدم الركون أو التقاعس، والثقة الكاملة بالحق الذي يحمله، والمآل الذي يصير إليه المجاهدون في سبيل الله إعلاء كلمة الله.
المرتبة الرابعة جهاد الشيطان: وهي كما يقول الإمام ابن القيم على مرتبتين: جهاده على دفع ما يُلقي إلى العبد من الشبهات والشكوك القادحة في الإيمان، والثانية جهاده على دفع ما يُلقي إليه من الإرادات الفاسدة والشهوات.
ثم يقول: فالجهاد الأول: يكون اليقين، والثاني يكون بعده الصبر، قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (الساجدة: 24).
والحق تبارك وتعالى حذَّرنا من أساليب هذا العدو، وأمرنا بإعلان الحرب عليه، قال تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ (40)﴾ (الحجر)، وقال سبحانه: ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ﴾ (البقرة: من الآية 268).
ولقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا العدو في كثيرٍ من الأحاديث، فقال: "إن للشيطان لُمَّةً (1) بابن آدم، وللملك لُمَّة، فأما لمَّة الشيطان فإيعاد بالبشر وتكذيب بالحق، وأما لُمَّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق؛ فمن وجد من ذلك شيئًا فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان"، ثم قرأ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمْ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ (البقرة: 268) (أخرجه الترمذي).
وقال عليه الصلاة والسلام: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيِّقوا مجاريَه بالجوع".
يجب سد مداخل الشيطان من هوى وشهوات وغرور وحب كثرة الأتباع والشهرة بالتحرر من الهوى والبُعد عن مواطن الشهوات والانسياق وراءها؛ فهي الهاوية،
وقد ورد في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق: قعد له طريق الإسلام فقال: أتسلم وتترك دينك ودين آبائك؟ فعصاه فأسلم،
ثم قعد له بطريق الهجرة فقال له: أتهاجر؟! أتدع أرضك وسماءك؟! فعصاه فهاجر،
ثم قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل وتُنكَح نساؤك ويقسم مالك؟! فعصاه وجاهد"،
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فمن فعل ذلك فمات كان حقًّا على الله أن يدخله الجنة".
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنْ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201).
ويقول الإمام ابن القيم عن جهاد الكفار والمنافقين إنه أربع مراتب: بالقلب، واللسان، والمال والنفس.
وجهاد أصحاب البدع وأرباب الظلم والمنكرات ثلاث مراتب: باليد إذا قدر؛ فإن عجز انتقل على اللسان، فإن عجز جاهد بقلبه.
ثم يقول رحمه الله: "فهذه ثلاث عشرة مرتبة من الجهاد، و"من مات ولم يَغْزُ ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق" (2)، ثم يقول: "ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة، ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان، والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (البقرة: 218).
إن التزام المسلم بهذا الفهم للجهاد هو الذي يجعله ينهض بأعباء الجهاد إن صدق في هذا الالتزام، إنه يفسد كل مخططات إبليس، ويفسد خيوط مؤامراته، ويستطيع أن يحرر غيره من شباكه التي يزينها (الاختلاط، المتعة، التحرر من الأخلاق، الاستمتاع المحرم، العري الجنس ...)، وتنجو الأمة من الوعيد الذي هدَّدها به الحق تبارك وتعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 146).
لقد حثَّ الشارع على جميع تلك الأنواع، وأمر بكل نوع من أنواعه؛ لارتباطها الوثيق، والمراتب التي ذكرها الفقهاء للجهاد في مجموعها متكاملة؛ يقود بعضها بعضًا، وكل مرتبة منها تحقِّق هدفًا من أهداف الإسلام، وكلها تتدافع لتحقيق الغاية العليا للدعوة الإسلامية، وهو تحقيق العبودية لله في داخل النفس وفي خارجها وفي واقع الحياة وفي دنيا الناس.. قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمْ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ﴾ (الحج: من الآية 78).
يقول الإمام ابن القيم: "ولمَّا كان جهاد أعداء الله في الخارج فرعًا من جهادِ العبدِ نفسَه في ذات الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المجاهد من جاهد نفسه في ذات الله والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه".. كان جهاد النفس مُقدَّمًا على جهاد العدو في الخارج، وأصلاً له؛ فإنه ما لم يجاهد نفسه أولاً؛ لتفعلَ ما أُمِرَت به، وتتركَ ما نُهيَت عنه، ويحاربها في الله، لم يكن جهاد عدوه في الخارج" (3).
إن أنواع التضحية في سبيل الله تتفاوت في الدرجة والمكانة، قال تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاً وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ (النساء: 95).
ودرجة الرباط في سبيل الله أفضل من العبادات، جاء في الحديث: "رباط يوم وليلة في سبيل الله خيرٌ من صيام شهر وقيامه، ومن مات مرابطًا مات مجاهدًا، وأجري عليه رزقه من الجنة وأُمن الفتَّان".
ويقول أبو هريرة:"لأن أرابط في سبيل الله أحبُّ إليَّ من أن أقوم ليلة القدر عند الحجر الأسود".
والحديث الصحيح:"من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"، يشير إلى أن المرتبة الأولى تضحية أكبر من المرتبة الثانية والثالثة، وأقل هذا الجهاد باللسان، ثم الجهاد بالقلب؛ ولذلك كان أضعف الإيمان، وليس معنى بالقلب أنه ضعيف، بل عمل القلب ضروري، وهو الحد الفاصل بين الإيمان والكفر، والقلب إذا لم يعرف المعروف ويحب أهله ولم يعرف الفساد والمنكر ويكره أهله فقد فسد ومات.
يقول الإمام الشهيد رضي الله عنه وأرضاه تحت عنوان "الجهاد عزنا":
"ومن الجهاد العاطفة القوية التي تفيض حنانًا إلى عز الإسلام ومجده، وتهفو شوقًا إلى سلطانه، وتبكي حزنًا على ما وصل إليه المسلمون من ضعف، وما وقعوا فيه من مهانة، وتشتعل ألمًا على هذا الحال الذي لا يُرضي الله ولا يُرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الجهاد في سبيل الله أن يحملك هذا الهم الدائم على التفكير الجدي في طريق النجاة، وتتلمَّس سبيل الخلاص، وقضاء وقت طويل في البحث عن فكرة تمحص بها سبل العمل، وتتلمس فيها أوجه الحيل؛ لعلك تجد لأمتك منقذًا أو تصادف منقذً،ا ونية المرء خير من عمله، والله يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.
ومن الجهاد في سبيل الله أيها الحبيب أن تنزل عن بعض وقتك وبعض مالك وبعض مطالب نفسك لخير الإسلام وبني الإسلام.
ومن الجهاد في سبيل الله- أيها الحبيب- أن تكون جنديًّا للإسلام؛ تقف له نفسك ومالك، ولا تبقي على ذلك من شيء؛ فإذا هُدِّد مجد الإسلام وديست كرامة الإسلام ودوَّى نفير النهضة لاستعادة مجد الإسلام كنتَ أول من يجيب للنداء، وأول متقدم للجهاد ﴿إِنَّ اللهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ﴾ (التوبة: من الآية 111).
وفي الحديث:"من مات ولم يَغْزُ ولم يحدِّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق"، وبذلك يتحقَّق ما يريده الله من نشر الإسلام حتى يعم الأرض جميعًا.
ومن الجهاد في سبيل الله أن تعمل على إقامة ميزان العدل وإصلاح شئون الخلق وإنصاف المظلوم والضرب على يد الظالم مهما كان مركزه وسلطاته، وفي الحديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أفضل الجهاد كلمة الحق عند سلطان أو أمير جائر" (رواه أبو داود والبخاري بمعناه)، وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله" (رواه ابن ماجه بإسناد صحيح).
ومن الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى- أن لم توفَّق إلى شيء من ذلك كله- أن تحب المجاهدين من كل قلبك، وتنصح لهم بمحض رأيك، وقد كتب الله لك بذلك الأجر، وأخلاك من التبعة، ولا تكن غير ذلك فيُطبعَ على قلبك ويؤاخذك أشد المؤاخذة ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا للهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)﴾ (التوبة).
وبعد..
فهذه بعض مراتب الجهاد في الإسلام ودرجاته، فأين الإخوان المسلمون من هذه الدرجات؟! فأما أنهم محزونون لما وصل إليه المسلمون، متألمون لذلك أشدَّ الألم، فعلم الله أن أحدهم يجد من ذلك ما يُذيب لفائف قلبه، وينال من أعماق نفسه، ويحز في قرارة فؤاده، ويمنعه في كثير من الأحايين الأنس بأهله وإخوانه والمتعة بكل ما في الوجود من لذة وجمال،
وأما أنهم يفكِّرون في سبيل الخلاص، فعلم الله أن ما من فكرة تحتل أفكارهم، وما من خطة تستهوي عواطفهم، وما من شأن يشغل عقولهم كهذا الشأن الذي ملك عليهم رءوسهم وقلوبهم، واستبد منهم بشعورهم وتفكيرهم.
وأما أنهم يبذلون في هذا السبيل وقتًا ومالاً فحسبك أن تزور ناديًا من أنديتهم لترى عيونًا أذبلها السهر، ووجوهًا أشحبها الجهد، وجسومًا أضناها النصب، وأخذ منها الإعياء، على أنها فتيَّة بإيمانها، قوية بعقيدتها، وشبانًا كم يقضون ليلهم إلى ما بعد انتصافه مُكبِّين على المكاتب، عاكفين على المناضد!، وأترابهم في لهوهم وأنسهم ومتعتهم وسمرهم، ورُبَّ عينٍ ساهرةٍ لعينٍ نائمةٍ، وإنما نحتسب ذلك عند الله، ولا نمتنُّ به ﴿بَلْ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾ (الحجرات: من الآية 17).
فإذا سألت عن المال الذي يُنفَق على دعوتهم فما هو إلا مالهم القليل؛ يبذلونه في سخاءٍ ورضا وراحةٍ وطمأنينةٍ، وإنهم ليحمدون الله إذا ترقَّت تضحيتهم بالمال من درجة السخاء بكماليات العيش إلى درجة الاقتصاد من ضرورياته وإنفاق ما يُقتصَد في سبيل الدعوة ﴿وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ﴾ (الحشر: 9)، وما أسعدنا أن يقبل الله منا ذلك وهو منه وإليه!.
وأما أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فقد بدءوا في ذلك بأنفسهم، ثم بأسرهم وبيوتهم، ثم بإخوانهم وأصدقائهم، وهو يتذرَّعون في ذلك بالصبر والأناة والحكمة والموعظة، وهل ترى جريدتهم هذه إلا مظهرًا من مظاهر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟! وهل ترى عظاتهم وأقوالهم إلا سبيلاً في هذه السبيل؟!
وأما ما بقي من درجات الجهاد فواجب الجماعة؛ فعلى الجماعة أن تجيب، وإن الإخوان المسلمين في ذلك الرعيل الأول لا يدَّخرون وسعًا ولا يحتجزون جهدًا، وهي يعلمون منزلة ذلك من الإسلام، ويعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن لقي الله بغير أثر من جهادٍ لقي الله وفيه ثلمة" (رواه الترمذي وابن ماجه)، وهم يسألون الله أن يوفِّقهم إلى لقائه وليس بهم ثلمات، وقد قال الله تعالى لنبيه: ﴿لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (النساء: من الآية 84)،
وإنا لنرجو أن تكون بذلك قد أبلغنا أمتنا، وأن يكون هذا الصوت قد وصل إلى نفوسهم فوجد خصوبة يزداد بها عدد العاملين وتنتظم معها صفوف المجاهدين ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).
واقع المسلمين اليوم يقول إنهم بعدوا عن هذه الفريضة بكل أنواعها وأبعادها وصورها إلا من رحم الله، وهم قليل.
1- فأهل التصوف لا شأن لهم به، ولا يُدخلونه في حسابهم، ونسوا أن الإسلام يرفض الرهبانية رفضًا باتًّا، وينهى عن الجمود واعتزال الحياة، وترك الجهاد والانقطاع للطاعة والعبادة، وفي الحديث: "رهبانية أمتي في الجهاد"، ومرَّ رجلٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بشِعْبٍ فيه عيينة من ماء عذبة، فأعجبته فقال: لو اعتزلت في هذا الشعب، فذكر ذلك لرسول الله فقال: "لا تفعل؛ فإن مقام أحدكم في سبيل الله أفضل من صلاته في بيته سبعين عامًا.. ألا تحبون أن يغفر الله لكم ويدخلكم الجنة؟! اغْزُ في سبيل الله.. من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة".
2- والأحزاب الوطنية اتجهت إلى ما يسمَّى بالنضال الوطني أو الكفاح السياسي، وكثيرٌ من السياسيين يعتبرونه خارج وظيفتهم.
3- والمعاهد العليا لا تشير إليه في برامجها ولا منهاجها من قريب أو بعيد.
4- وبالتالي فإن الشباب ينشأ بعيدًا عن أغلى ما في دينه وعن لب إسلامه، بل سر عزته وموطن سيادته، ألا وهو التربية على الجهاد بمعناه الشامل الذي أشرنا إليه.
الجهاد في سبيل الله وبواعثه لا علاقة له بحروب الناس اليوم؛ فلا هو لإذلال أحدٍ أو التحكم في مقدرات الأمم أو إكراه إنسان على ترك عقيدته أو زيادة دخل المسلمين أو توسيع رقعة بلادهم أو الطمع في أموال الآخرين.. هذه الصور وغيرها ليست من الجهاد في شيء، بل هي أقرب إلى عمل اللصوص وقطَّاع الطرق، ولم يحدث في تاريخ المسلمين أي شيء من هذا.
غير أنه من الواجب أن نشير في ختام هذه السطور إلى أن الفرق كبيرٌ بين استصحاب فكرة الجهاد في سبيل الله بهذا الفهم الشامل الذي أجمع عليه العلماء والفقهاء وبين الغرام بالشغب والإثارة والضوضاء، ويجب أن توضح أن اعتناق الجهاد ليس احترافًا للتمرد ولا امتهانًا لخلق المتاعب والتربص بالآخرين والاحتكاك بهم.
المؤمن أبيٌّ كريمٌ عزيزٌ؛ لا مُعتَدٍ ولا مشاغبٌ، وهو دائمًا أوَّاب للخير والحق، وقَّاف عند حدود الله، ومن هذا المزج بين اعتناق الحق والالتزام بروح الجهاد والسمو عن صغائر الشغب والعدوان يتكوَّن خلق المؤمن الداعية إلى الله بحق، وبهذا وحده تكتمل معالم شخصية المسلم الصحيح.
ولست أعلم في تاريخ دعوتنا المبارك الممتد الميمون أن خلافًا ذُكر حول هذه القواعد التي ذكرتها عن الجهاد وتطبيقاته في هذه العجالة؛ فطبيعة الدعوة تنطق بهذا، وأخلاق الدعاة تؤكده مهما افترى علينا المفترون الذين لا يقدمون دليلاً واحدًا على صدق ما يزعمون.
وأخيرًا..
من باب الاعتراف بنعمة الله أنه ما من موقف ولا مناسبة إلا سجل للإخوان ودعوتهم هذا التوافق الطيب.. مواقفنا- والحمد لله- كلها غيرة على الحق، وإباء للقيد والظلم، واستنكار بأسلوب عفٍّ نظيفٍ كريمٍ دون تجريحٍ لأحد، ودون أذى لمخلوقٍ أو إضرارٍ، ثم أوبة إلى السير في الطريق المرسوم، ومواصلة للبلاغ والأعذار، والحمد لله نصون تراثنا ونواصل عزمنا على الجهاد في أمانةٍ وثباتٍ والتزامٍ ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ للهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128).
--------
حواشٍ:
1- اللمَّة: هي الخطرة بالقلب، وهي وسوسة الشيطان.
2- يراجع في فصل مراتب الجهاد، كتاب زاد المعاد، ج3، للإمام ابن القيم.
3- زاد المعاد، ج3.
وسوم: العدد 646