وقفات اجتماعية من حياة والدي – رحمه الله- 2 +3
وقفات اجتماعية من حياة والدي – رحمه الله- 2
نور من الذكرى
لكل عالم من علماء الدين في مدينة حلب طريقة في هداية الناس وإبعادهم عن مسالك الشيطان ، وكل العلماء مخلصون في عملهم ،يرجون الرحمة والمغفرة من الله ، (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا" ) وحين زار العالم الإسلامي المصري محمد أبو زهرة- رحمه الله – حلب في أواخر عام 1957 والتقى فيها مع علماء حلب ، قال : مخاطبا"العلماء أنتم علماء قلوب ونحن – في مصر – علماء عقول ، أمد الله حلب بالعلماء العاملين ، حتى تبقى مزارع الإيمان مستعلية بالنماء .
لم يجلس الوالد في مسجد واحد ، يدرس فيه ويلتقي فيه مع مريديه، كان يدرس في عدد من المساجد وفي المدارس الشرعية ،منهجه نثر العلم وتوزيعيه لتعم الفائدة ، وكان لايشعر بالتعب من التدريس أو من أسئلة طلاب العلم أو من جاء يستفتيه في حكم شرعي ، التدريس كان متعة عنده ، وإذا أراد طالب علم بعد الانتهاء من الدرس ، أن يحمل له كتابه يرفض ذلك ، ويبين له : أنه أولى بحمله ، وإذا مشى حوله بعد الانتهاء من الدرس بعض طلاب العلم ، اعتذر منهم من مشيته البطيئة ، وهم شباب وعليهم أن يلحقوا بأعمالهم ، ويطلب منهم الدعاء ، وإذا مر به أحد المحبين في سيارته ، ووقف عنده ، وطلب منه أن يجلس بجانبه في سيارته ليوصله إلى مقصده ، فكان يعتذر منه ويبين له أنه يحب الرياضة ويريد النشاط لجسمه، ويشكره على لطفه وحسن صنيعه .
الثقافة والمطالعة من الأمور الرئيسية في حياة الوالد ، كان يدرك أن عالم الدين عليه أن يلم بثقافة عصره ، في بداية خمسينات القرن الماضي اشترى الوالد مذياعا" ( راديو ) وكان اقتناء المذياع عند الناس في ذلك الزمن نادرا"، وكان يحرص على متابعة نشرات الأخبار، وكانت هناك إذاعة الشرق الأدنى ، ثم تحول اسمها إلى إذاعة لندن ، وكان مشتركا"بجريدة ( التربية ) وكان رئيس تحريرها الأستاذ عبد السلام الكاملي – رحمه الله- وكان الاشتراك السنوي بحدود /25/ ليرة ، وكان ثمن الجريدة ( فرنكا" واحدا")وكانت الجريدة تصل إلى مركز تصل إلى مركز عمل الوالد في دائرة أوقاف حلب ، وكان يشتري كل أسبوع مجلة ( المصور ) وهي مجلة مصرية ، وحين ظهرت مجلة العربي الكويتية كان يشتريها في مناسبات كثيرة ، وكانت لدى الوالد مكتبة جيدة، وكان يضيف عليها في كل فترة كتبا" جديدة ، عندما كان يتردد على مكتبة ( حامد عجان الحديد ) وقد أهدى ورثة الوالد مكتبته إلى المكتبة الوقفية ، لتعم الفائدة على المسلمين ، وقد أخذت أنا وإخوتي من الوالد محبة المطالعة واقتناء الكتب .
وقفات اجتماعية من حياة والدي – رحمه الله – 3
نور من الذكرى
كان الوالد – رحمه الله – يحب مساعدة كل صاحب حاجة ، في نيسان 1935 كان مديرا" لأوقاف المعرة ، ثم انتقل إلى أوقاف حلب عام 1938، وفي عام 1963 انتقل عمله من دائرة أوقاف حلب ، إلى دائرة الأفتاء والتدريس الديني ، خلال عمله في دائرة الأوقاف ، كل إنسان يقصده للمساعدة في الحصول على دار للسكن أو دكان للعمل ، أوعلى وظيفة دينية كإمام أو مؤذن أو خادم في مسجد ، كان يسعى أمامه ، باذلا" كل جهده شعاره قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الخلق كلهم عيال أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله)وكان يسأل الأجر من الله (من جاء بالحسنة فله خيرا" منها ) .
ذكرلي عالمان فاضلان بدأا في دراسة العلم الشرعي في المدرسة الشرعية في جامع الكلتاوية أسسها شيخ العلماء الشيخ محمد النبهان - رحمه الله – وقد بلغ كل واحد منهما مبلغا" كبيرا" في العلم الشرعي وفي خدمة الإسلام ، قال الأول:كان أبي عاملا" وعلى معرفة بأبيك ، أحب أبي أن يدرسني العلم الشرعي في مدرسة الكلتاوية ، قدم لي الأوراق إلى إدارة المدرسة ، خاف أبي أن ترفضني الإدارة ، وتبعدني عن رغبته ، فجاء والديلعند أبيك ، راجيا" منه أن يتكلم مع صديقه الشيخ محمد النبهان حتى أكون مقبولا" عنده في المدرسة ، لبى والدك طلب أبي وتكلم مع الشيخ محمد النبهان رحمهم الله جميعا" .
قال الثاني : انتسبت إلى المدرسة الشرعية في الكلتاوية ، كنت الولد الوحيد عند أبي وكان متعلقا" بي ، كان نظام المدرسة ينص على أن الطالب يقيم في المدرسة ، ويذهب عند أهله في المناسبات ، ذهب والدي عند والدك ، وطلب منه أن يتكلم مع صديقه الشيخ محمد النبهان حتى يسمح لي بقضاء عطلة نهاية الأسبوع عند أهلي وأعود مساء الجمعة إلى المدرسة ، وتحقق لي ماتمناه أبي .
عندما كنت واقفا" في عزاء والدي في مدرسة الشعبانية ، تقدم إلي شخص معزيا" ، لا أعرفه ، ترحم على والدي ، وقص لي هذه القصة ، جاء رجل ملهوف إلى المدرسة الشعبانية يطلب رؤية الشيخ محمد زين العابدين الجذبة ، عندما رأى الرجل الشيخ ، قال له : إن ابنتي متزوجة وهي عندي في البيت منذ فترة طويلة وزوجها لا يريد إرجاعها إلى بيتها ، وجدت وساطات كثيرة والزوج مصر على رأيه ، وهناك من دلني عليك لتساعدني في عودة ابنتي إلى زوجها ، سأل والدك الرجل :من زوج ابنتك ؟ ذكر له الرجل اسمه وبين أنه طالب في المدرسة الشعبانية ، طلب والدك الزوج ، وعندما حضر طلب منه بلسان أبوي ممزوج بالمحبة ، أن يذهب إلى بيت أهل زوجته حتى يعيد الزوجة إلى بيتها ، فخجل طالب العلم أمام شيخه ، أبدى موافقته على طلب شيخه ، في اليوم الثاني جاء الرجل إلى المدرسة الشعبانية ليشكر الشيخ فقد رجعت ابنته إلى بيتها .
كان الوالد – رحمه الله – يحزن حزنا" شديدا" عندما يتوفى عالم ديني ، كان يدرك أن الخسارة كبيرة بعلماء عاملين مخلصين .
الصور الاجتماعية من حياة الوالد كثيرة جدا" ، حياة مليئة بالعمل مع كل حلقات المجتمع وكل فئاته ، وكانت الأيام تزيده همة ونشاطا"، ويعطي دروسه لمن حوله بعلمه، أتمنى من تلامذته ومحبيه أن يسجلوا ذكرياتهم مما لمسوه من عمل الوالد. ولده: محمد عطا .