الداعية والمفكر الإسلامي محمد بن كمال الخطيب

(1913- 2000)

clip_image002_dd160.jpg

هو  أمين السر في جمعية التمدن الإسلامي، ومدير التحرير في المجلة الناطقة باسمها، والداعية، والمفكر الإسلامي، والمجاهد الوطني، والخطيب المفوه .

المولد والنشأة :

ولد الداعية والمفكر الإسلامي محمد بن كمال الخطيب عام 1913م في الخريزاتية – حي القيمرية أحد أعرق أحياء دمشق؛ منحدراً من أسرة علمية ينتهي نسبها إلى الإمام الحسن بن علي رضي الله عنهما (ويعتقد أن عمره الحقيقي أكبر عدة سنوات مما تذكره الأوراق الرسمية).

تجرع اليتم باستشهاد والده : الشيخ كمال في معركة ميسلون ، والذي كان فرضياً ومدرساً في جامع بني أمية الكبير، فأثر الأمر في نفس الابن فاتخذ من رجولة أبيه لقباً يذكره به، فكان يكتب تحت اسم : ابنُ شهيد ميسلون : محمد بن كمال الخطيب.

دراسته :

 نشأ محمد بن كمال عصامياً، وشق طريقه الصعب في الحياة حتى تخرج من كلية الحقوق بجامعة دمشق، وكان من زملائه منير العجلاني ومن أساتذته مفتي الشام الطبيب أبو اليسر عابدين، وكان بينهما محبة شديدة وملازمة من التلميذ لأستاذه مدة طويلة ، كما تردد على شافعي دمشق الشيخ صالح العقاد رحمه الله .

انخرط الأستاذ في نشاطات كثيرة وطنية وإسلامية ، ومنها الجبهة الوطنية المتحدة (الحرة) التي أسسها الأستاذان زكي الخطيب، وعبد الرحمن الشهبندر، وكان أحد المنظمين للشباب فيها باسم شباب العروبة السوريين .

أما أهم خط أثَّر في حياة الأستاذ رحمه الله فهو بلا ريب خط جمعية التمدن الإسلامي، وهو أحد أقدم رجالها، وقد ضمت الجمعية صفوة علماء الشام في وقتها مثل الأساتذة السادة :

حمدي السفرجلاني، عبد الفتاح الإمام، أحمد مظهر العظمة، عبد الحميد كريم، عبد الحكيم المنير، محمد بهجت البيطار، محمد علي ظبيان، محمد سعيد الباني، جميل الشطي، محمد أحمد دهمان، عبد الرحمن الخاني، سعيد الأفغاني ..... وغيرهم من العلماء السابقين ....

 ثم صار الأستاذ أحد أنشط رجال الجمعية وأميناً لسرها، ثم مديراً لمجلتها، وأفنى شبابه فيها، وكانت الجمعية همه وحياته وسعادته رغم الطريق الطويل المليء بالمصاعب والمحن .

ظهرت نجابة الأستاذ خطيباً وكاتباً ومفكراً منذ بواكير شبابه، وقد نشرت أول مقالة له في العدد الثالث من السنة الأولى من مجلة التمدن الإسلامي (1932م) بعنوان : التشريع الإسلامي .

 وتتابع عطاؤه، فنشرت له مجلة التمدن الإسلامي خلال ما يقارب الخمسين عاماً من حياتها حوالي أربعمائة وخمس عشرة مقالة باسمه الصريح وحوالي أربعاً وأربعين مقالة تقريباً تحت اسم ( م.خ )، وستاً باسم أبي كنانة (وقد صار أبا كنانة بعد أعوام طويلة من اختياره ذلك اللقب ) .

ويذكر الشيخ علي الطنطاوي في ذكرياته عن بغداد ما يلي:

 ( ولما رجعت في الصيف إلى دمشق، دعوت إلى داري، وكانت في (الخضيرية)، وكانت فيها غرفة كبيرة فيها مجلس عربي، دعوت العاملين في مجال الدعوة إلى الإسلام، من أصحاب الصوفية إلى أرباب السلفية، لم أغادر منهم أحداً، ومن فقهاء المذاهب الأربعة، إلى الوعاظ والخطباء، فحدثتهم عما رأيته في العراق، وحذرتهم مثل ذلك المآل.. وقلت لهم بعد كلام طويل: أنا لا أريد أن يبدل أحد منكم طريقته ولا أن يغير مشربه، ولكن أريد شيئاً واحداً، هو أن هذا الباب المغلق إن دفعته يد واحدة لم ينفتح، فإن اجتمعت عليه الأيدي الكثيرة فتحته. والذي أريده هو أن نتعاون، لا أن يعمل كل وحده. واقتراحي هو أن تنتخب لجنة فيها ثلاثة منكم، يراقبون الأحداث، فإن رأوا ما يمس الإسلام كان عملهم أن يبلغوكم به فقط. هذا هو وحده عملهم، فمن اقتنع منكم بوجوب العمل عمل على طريقته وأسلوبه: الخطيب يذكر ذلك في خطبته يوم الجمعة، والمدرس يعرض له في حلقته، والمعلم يذكره لتلاميذه في مدرسته، وكل واحد ينبه إليه أصحابه، ومن كان ذا قلم أو كانت له صلة بأرباب الأقلام وأصحاب الصحف؛ عمل على الكتابة فيها أو دفع إلى ذلك أصحابها. ومن استطاع أن يراجع الوزير الذي يقدر على إزالة هذا المنكر ذهب إليه وحده، أو مع وفد يختاره، فشرح له الأمر وطلب منه إنكار المنكر. وانتخبت اللجنة وكان فيها ثلاثة، وكلهم ـ بحمد الله ـ أحياء، أحسن الله ختامهم، وهم الأستاذ محمد كمال الخطيب، والأستاذ الشيخ ياسين عرفة، وعلي الطنطاوي). وهذه شهادة عالية بالأستاذ من رجل قليل من يعرف الرجال مثله. كما يذكر الطنطاوي في مذكراته أن الأستاذ عبد الغني الباجقني رجل عالم بالعربية، فقيه مالكي، واسع المعرفة من أفصح من عرف الطنطاوي لهجةً ، يكاد يكون كلامه كله فصيحاً، ثم يقول: ( لا أعرف مثله في ذلك إلا قليلاً منهم الشيخ بهجة البيطار، والأستاذ محمد البزم، ومن إخواننا الأحياء المحامي محمد كمال الخطيب ) وهذه شهادة أخرى من العلامة الطنطاوي للأستاذ رحم الله الجميع .....

كان للأستاذ مكتب للمحاماة يعيش منه افتتحه في منزله المعروف في شارع خالد بن الوليد ، بعدما تدرب على المحاماة في مكتب قريبه الأستاذ زكي الخطيب، وعمل معه في الأمور السياسية والوطنية ، وكان محمد كمال معجباً به لأستاذيته ووطنيته وثقافته العالية وبقائه ثابتاً على دينه وولائه لأمته خلاف الكثيرين ممن فتنوا بالغرب.

بقي الأستاذ محمد بن كمال يحاضر، ويدرس، ويخطب، وينشر أكثر من خمسين عاماً ، ..

وقد مكث حوالي خمسة عشر عاماً خطيباً في جامع نور الدين الشهيد (سوق الخياطين) وما يقارب عشر سنوات في جامع المولوية (شارع النصر) .

 عمل الأستاذ في الحقل الإسلامي والوطني السياسي والاجتماعي والخيري، وكان صلة الوصل بين جمعية التمدن الإسلامي، والشبان المسلمين، والجماعات الإسلامية الأخرى، وقد اعتقل مرتين في حياته، وحكم عليه في إحداها بالإعدام (أحداث الأموي) في منتصف الستينات .

لم يترك الأستاذ نوعاً من العمل الخيري والاجتماعي لم يقتحمه فكان من مؤسسي ميتم سيد قريش، ومن مؤسسي جمعية رعاية المكفوفين، كما شارك في الإدارة والتأسيس والتدريس في العديد من المدارس وخصوصاً ما يهتم منها بمكافحة الأمية، واختير مديراً للتعليم الخاص في الخمسينات (خلال عهد الرئيس شكري القوتلي)، وقد سافر في أواخر عام 1981م إلى بريدة، وأنشأ جمعية بريدة الخيرية لأنه رأى فيها ما يخالف نهجه في الحياة!

وعمل مستشاراً لرابطة العالم الإسلامي والتي طبعت له بعض مؤلفاته، كما امتحن بالعمل مستشاراً قانونياً في السعودية لأحد كبار رجال الأعمال أكثر من خمس سنوات ثم أُكلت حقوقه .

كان عنده تصريح من الملك عبد العزيز بأنه من رعايا المملكة، لكنه كان ينظر إلى عطايا الملوك بحذر بالغ، ويخشى أن يكون الثمن على حساب دينه؛ فلم يستخدم ذلك التصريح يوماً رغم ظروف شديدة أحاطت به ..

ينتسب الأستاذ عملياً إلى مدرسة علماء الشام الفحول كجمال الدين القاسمي وطاهر الجزائري، وسعيد الباني، ومحمد بهجة البيطار، ومحمد أحمد دهمان، وعلي الطنطاوي، وأحمد مظهر العظمة ... وغيرهم رحمهم الله جميعاً،. كما يعتبر الأستاذ أحد أنشط رجال جمعية التمدن الإسلامي، وربما لا يسبقه في ذلك إلا الأستاذ أحمد مظهر العظمة، وقد كان منهج الجمعية، ولا يزال منهج اتباع الدليل من الكتاب والسنة مع إدراك عميق لمقاصد الشريعة، وانفتاح وتعاون مع كافة التيارات الإسلامية، دون انغلاق ولا تعصب ولا تكفير، مع اهتمام بالغ بأحوال الأمة وسد ثغراتها على كل صعيد.

كان الأستاذ محباً لابن تيمية رحمه الله مع نفس صافية وتواضع جم، ومن طرائف تجرده وبحثه عن الصواب أنه كان ضد الفكر الصوفي، ويراه سبب تخلف المسلمين، وبعد محاورة مع الأستاذ محمود غراب ناشر كتب الشيخ محي الدين بن عربي ومدرسها؛ حضر كثيراً من تلك الدروس مابين عامي 1970- 1980م، وانغمس في تلك الفترة في دراسة الفتوحات المكية ولخصها كلها، وتوجه إلى البحث عن ناشر لملخصه ثم بدا له أمر ما؛ فأمر بإحراق ذلك الملخص!

-حضر الأستاذ مؤتمرات تربوية ودعوية وقانونية عديدة، في الإمارات والسعودية ومصر وغيرها باسمه أو باسم جمعية التمدن الإسلامي، وكان متأثراً بشكل كبير بقريبه الأستاذ محب الدين الخطيب وطريقته في الحركة والتفكير .

-شكل الأستاذ في عائلته آل الخطيب الحسني محور استقطاب فعال، سواء في مجالسها العائلية أو نسيجها الاجتماعي، وهو أحد وجوهها الأساسية، ويمكن اعتباره المرشد الروحي لبقية كشاف آل الخطيب الحسني والناظم التربوي لهم، متعاوناً مع ابن عمه الطبيب أبي الخير (وهو أحد أبرز رجال عائلة الخطيب وكبير أساتذة الجراحة في جامعة دمشق )) .

زاره أحد الدعاة وسأله:

 أين موقعنا؟

فقال الأستاذ: لو أُعطيت وزارات الدولة فأيها تختار؟

 فقال: وزارة التربية؛ فقال الأستاذ: إذاً اجعل همك وعملك في التربية .

مؤلفاته :

من آثر كتبه عنده كتاباه :

1- الحج على المذاهب الأربعة

2- ونظرة العجلان في أغراض القرآن (وهو موجز لتفسيره المخطوط) كما له من المؤلفات، والكل من مطبوعات جمعية التمدن الإسلامي

3-زهرات وثمرات 1976

4-تذكرة الحج والعمرة 1955م

5-الحج بعبادته ومنافعه 1977م

6-دراسات قرآنية 1973م

7-مناهج المعارف في البلاد العربية

8-طرابلس برقة 1965م

9-التعريب لأهل العربية 1977م

10-حكم قروض الجمعيات السكنية 1977م ك

ما له من الآثار المخطوطة تفسير موضوعي للقرآن الكريم كتب منه عشرين جزءاً في دمشق، وأتبعها بعشر في الحجاز؛ إضافة إلى مخطوط كتبه في السبعينات حول تعليم اللغة العربية لغير العرب.

وله مئات المقالات المبثوثة في بطون مجلدات مجلة جمعية التمدن الإسلامي .

أحواله الاجتماعية :

رزق الأستاذ ولدين أكبرهما محمد كنانة (مهندس ميكانيك) ومحمد معد (مهندس ديكور) وبنت (السيدة لبانة) تزوجت من آل الرقوقي، كما رزق بطفل توفي غرقاً وهو في الرابعة من عمره أثناء رحلة مع كشاف آل الخطيب!

كان للحياة الصعبة والمجهدة التي عاشها والسجون التي فتحت له أثر شديد على جسده النحيل، ففقد بصره نهائياً قبل وفاته بثمانية أعوام وهو صابر محتسب.

وفاته :

غمط الأستاذ حقه حياً وميتاً ولم يعلم كثيرون بموته، وصلي عليه في الجامع المحمدي غرب المِزة، ودفن في مقبرة الدحداح يوم الخميس الثامن عشر من ربيع الثاني عام 1421هـ الموافق 20 تموز 2000م.

حياة أبي كنانة رحلة طويلة من المحن والجهاد والبذل الذي لا يعرف الحدود لهذا الدين العظيم، وقد خاف البعض حتى من حضور جنازته أو العزاء به، وإن الجبناء لا يطيقون السير مع الشجعان ويخافون أن تجتمع ولو أسماؤهم مع بعضها حتى لو جُندل الشجعان بين الصفائح وضمتهم القبور

رجال من دمشق الشيخ كمال الخطيب :

 كتب الأستاذ علي الطنطاوي في مديح الشيخ كمال الخطيب، وفي رثائه وذكره في مذكراته أكثر من مرة في مواطن متفرقة، وها هو يقول عنه :

(( رجل كان فذاً بين الرجال، لا ترى مثله العصور الطوال، وإذا كان الرجل المهذب كالنسخة المطبوعة من الكتاب، كان الشيخ كمال نسخة مخطوطة مفردة، وقد يكون في المخطوطة خرم أو نقص - أو يكون على صفحاتها أثر من دهن أو بلل، ولكن مع ذلك أثمن من المطبوعة، وإن كان ورقها نظيفاً، وطبعها متقناً، لأن هذه واحدة في الدنيا، ولأن من تلك آلاف الألوف.

كان الشيخ كمال بقية عصر مضى - ولكنه أبى أن يمضي معه، فعاش في القرن الحاضر، كما كان في القرن الماضي، فكان تحفة في (متحف)، ولكنها تمشي، وصفحة من (تاريخ)، ولكنها تتكلم.

وكان بطلاً في جسم عجوز، وغنياً في ثياب سائل.

وكان فكرة استحالت رجلاً، ومثلاً أعلى سوى إنساناً.

ولكل منا مثل أعلى، يتمثله إذا انفرد بنفسه

- أما مثل الشيخ الأعلى فهو أعماله التي يعملها.

ولكل منا أفكار يفكر فيها إذا خلا بعقله، أما أفكار الشيخ فهي كلماته التي يقولها. وكل منا يعرف حقائق الناس ومثالبهم وعيوبهم، ولكنه يكتمها عنهم؛ أما الشيخ فكان يقول لكل إنسان ما يعرفه عنه - لا يستثني من ذلك أحداً من الناس أبداً.

 وليس الذي بالشيخ ما يسمونه الصراحة أو الوقاحة بل هو شيء لا أعرف له اسماً لأني لم أجده عند شخص آخر: يقول لكل رأيه فيه بأوضح عبارة وأقصرها وأشدها، ثم يمشي لا يريد جلب منفعة أو درء مضرة، ثم يحبهم مع ذلك الناس كلهم، ويحترمونه، ويخافونه: رجال الشعب ورجال الحكومة، والعلماء والجهلاء، والأغنياء والفقراء، لا يسلم من لسانه أحد، ولكن لا يكرهه أحد.

ولم يكن يبالي حبهم ولا كرههم، ولا يحفل بإكبارهم ولا احتقارهم، لنه يعيش في نفسه من عالم، غاية مطلبه من الدنيا قماش يستر عورته، ولم أقل جبة ولا رداء، لأنني لم أكن أدري ما كان يلبس على التحقيق: أجبة غيرها طول البلى حتى صارت من قصرها وثنيها كالرداء، أم رداء أبلته الأيام فصار كالجبة؛ وشيء يملأ جوفه، سواء أكان هذا الشيء خبزاً يابساً أم كان أرزاً ولحماً؛ ومكان يضع عليه جنبه: سريراً أو فراشاً أو قطعة ممهدة من الأرض الفضاء، فإن وجد ذلك لم يطلب شيئاً بعده - لا يرجو جاهاً ولا مالاً، ولا يخاف سجناً ولا رهقاً.

أخوه الأصغر زكي بك زعيم كبير من زعماء الشام، ولي الوزارة مراراً، ورياستها (بالوكالة) مرة، وهو محام معروف، وأخوه الآخر كان طبيباً كبيراً، وأهله ذوو ميسرة وغنى، ولكنه لا يرزأ أحداً شيئاً، ولا يجرؤ واحد منهم - على دعوته إلى طعام أو منام.

ولقد حدثني الأستاذ زكي بك أنه إلا لأنه كان كبير اخوته، مات أبوه وخلف له هذين الصغيرين، فباع ماله كله وأنفق عليهما، حتى استكملا الدرس في استنبول، وكانت باريس تلك الأيام، ثم أبى أن يأخذ منهما قرشاً واحداً. وإذا عرضا عليه هدية، أو دعواه دعوة، غضب أشد الغضب، فتركا ما يريدان لما يريد، فعاش أغنى الناس - لا لأنه كان أكثرهم مالاً، بل لأنه كان أقلهم حاجة - ولا فرق بين أن تكون لك كنوز قارون - وأموال فاروق، فتنال كل ما تطلب، أو أن تكون مطالبك هينة يسيرة، فلا تحتاج إلى مال كثير لتنالها، ومن هنا قال من قال، إن السعادة هي القناعة ..

قنع من الحياة بأيسر ما تحفظ على صاحبها الحياة، رغيف يسد جوعته، وقماش يستر عورته. وكان إذا طلب الناس المصايف. . واتخذوا لها الدور، وأعدوا لها العدة، حمل عباءته وعيبته، ومشى. . . مشياً إلى (نسيمه) درة الوادي، وجوهرة العقد في جيد بردى، فوضع العباءة والسفرة في المغارة، فوق (العين الخضراء) ثم نزل فدار بالقهوات - وجالس الجماعات، فوعظ ونصح وأمر ونهى، لا يرزأ أحداً طعاماً ولا شراباً ولا مالاً، ولا يدخل جوفه من عند أحد شيئاً، ثم عاد إلى المغارة فأكل فيها ما استطاع أن يعده لنفسه، رغيفاً ولحماً، أو خبزاً وزيتوناً، أو شاياً وكسرات يابسة من خبز الأمس، وحمد الله، ونام. لا يخشى السرقة على مال، ولا الخسارة في تجارة، ولا تحقق الشر من عدو، ولا خيبة الأمل في صديق .

وهذا هو عمله في دمشق: ينزل قبل أذان الفجر إلى جامع بني أمية، فيصلي ويقرأ أجزاء من القرآن ثم يبقى في الجامع - يمر على الحلقات، فإن وجد ما يعجبه شجع المدرس بكلمة، وإن أحس غموضاً وضح، أو إيجازاً شرح - أو مللاً من السامعين نفس عنهم بنكتة. ويعرف هذا المدرسون له، فلا يأبونه منه، وإن أبى بعضهم سلقهم بلسان حديد، فحط من كبرياء، وألان من إباءه - حتى كان شيخنا الشيخ صالح التونسي، (مدرس الحرم النبوي الآن) يسميه (مفتش الجامع)!

ويحضر المحاضرات العامة فيسلك في الجامعة والمجمع، مسلكه في الجامع.

حضرته مرة في المجمع العلمي العربي. من نحو ثلاثين سنة، وقد جاء محاضر لبناني فتكلم في الحضارة الجديدة، وأنه ينبغي في رأيه أن نأخذ كل ما فيها، وذم لباسنا ومدح لباس القوم .

ولما انتهى وأقبل الناس (أعني المتزلفين المنافقين) يهنئونه، صاح الشيخ في آخر القاعة، بصوته الذي كان يغلب عشرات مكبرات الصوت، ولهجته المعرقة في العامية: (ولك! الحمار حمار ولو لبس بدلة وبنطلون. والإنسان إنسان ولو حط جلال. . .) فانصرف الناس بكلمة الشيخ، وتركوا المحاضرة في مكانها.

ويدور في الأسواق - يراقب الناس ويدرس أحوالهم وهو يعرف أكثر أهل دمشق، وآبائهم وأجدادهم - وتمر به المرأة المحجبة فيعرفها من أي أسرة هي. أمضى سبعين سنة وهو في هذه المراقبة، فإن رأى حقيراً رفعته الأيام بلا سبب فتكبر - رماه بكلمة كالقنبلة فعرفه قدره وجرأ الناس عليه. وإن رأى دجالاً انخدع به الناس فحسبوه عالماً، حط منه فصرفهم عنه. وإن أبصر جاسوساً أو ممالئاً للفرنسيين - صرخ: (الله يلعن الجواسيس والمنافقين). وإن نظر إلى أم ولدها وسخ - قال لها: (ولك! هاي الماي غسلي وجهه. النظافة من الإيمان). وإن رأى بائعاً يغش مشترياً، أو مشترياً يضايق البائع، أو شاباً يتحرش بالنساء، أو امرأة تتصدى للشباب، أو رأى معتدياً على آخر في جسده أو ماله، أقام القيامة عليه، فكأن البلد كلها مدرسة، والناس تلاميذها، وهو المعلم فيها .!

وهو قاموس حي فيه تاريخ دمشق، وأنباء أحداثها، وأخبار رجالها ونسائها؛ حوادث رآها ووعاها، وناس عاشرهم وخبرهم. وله آراء في السياسة صائبات، وأنظار ثاقبات. وله كلام مغطى تعوده أيام الاستبداد الأولى، أيام السلطان عبد الحميد، حين كان الجواسيس يخالطون الناس في أسواقهم ومجامعهم، ومدارسهم وطرقهم، وحين كان للجدران آذان، وكان يأخذ الناس في أوساط الليل من بيوتهم - بلا محاكمة ولا تحقيق، إلى حيث لا يدري أحد - وكان الناس يستمعون له، ولا يجرءون على معارضته .

وكان يتوسط في الخصومات، ويعرض لحل المشكلات، ويقضي بين الناس بلا حكمة ولا مرسوم جمهوري، فيسمع من الخصمين، ويوازن بين حجج الفريقين، ثم يقضي. فكم ألف بين زوجين، وأصلح بين شريكين. وكان يأخذ من الأغنياء، سطوة واقتداراً، أو حباً وإكباراً، فيعطي الفقراء المستورين، فيسعف الله وجوهاً لولاه أذهب مائها حر السؤال

وكان قديماً خطيب الجامع الأموي، ولم أدرك أنا ذلك فضايق الحكومة بكشف عيوبها، وضايق العلماء الرسميين بذكر سجايا العلماء العاملين؛ فتألب عليه علماء السوء - فأغروا حكام السوء حتى عزلوه - فأتخذ من كل مكان منبراً يخطب عليه. ولبث على ذلك حتى توفاه الله، من نحو سنة ..

هذا هو الشيخ كمال، نسخة مخطوطة نادرة من مخطوطات الرجال. رجل فرغ من مطالب نفسه، وعاش للناس، فكان مثله الأعلى هو عمله، وأفكاره هي قوله، وكانت دمشق مدرسة وكان فيها الأستاذ رحمة الله عليه ..

- اللهم أنزل عليه واسع رحمتك وطهره من ذنوبه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واجعله مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً ..... اللهم آمين..آمين.

مصادر الترجمة :

 1-أحمد معاذ الخطيب الحسني – الذي أجرى مقابلة مع السيد محمد كنانة الخطيب

2-من أوراق جمعية التمدن الإسلامي

3-مذكرات الشيخ علي الطنطاوي

وسوم: العدد 673