الشهيد أبو مصعب: زهير زقلوطة
إذا عرفت (زهيراً) فقد عرفت الروح المتمردة على كل ضيم، والجرأة والصلابة في الموقف. عندما قال محاميه أمام محكمة أمن الدولة: (إن موكلي آمن بقضيته التي اعتنقها، فانقلب إلى أداة ووسيلة، تنفذ أهداف فكرته دون وعي منه).. أجاب الشهيد: (كيف تقول مثل هذا الكلام؟ أنا أدري ما أفعل. أنا أقاوم الكفرة، وأريد أن أستشهد. ليعدموني فأكسب الشهادة ويزداد السخط على السلطة).
* * *
شاب وسيم المحيا، ذو بشرة حنطية اللون، معتدل القامة، عريض المنكبين، ثاقب النظرات، خبير بأهواء النفوس، صامت ينم صمته عن محاكمة ذهنية مستمرة، ذو حنكة وذو استقراء خاص تلمحه يفاجئك بهما في عينيه السوداوين.. زهرة من زهرات الشباب الإخواني لم يمر عليها سوى تسعة وعشرين ربيعاً.
أول ما يبادرك بالتحية المشفوعة بالبسمة التي تشف عن نفس مؤمنة، وطوية بيضاء، محبة، هذا إذا توسم فيك الخير، وإلا فإباء لا يعرف المهادنة.
عرفته، فعرفت فيه الصدق والوفاء، والنشاط والجرأة، والعزيمة التي لا تكل ولا تمل، والاندفاع الذي يحمل راية الحق بشجاعة ويقين.
طلب إليه أحد الضباط أن يحلق (لحيته) أثناء الخدمة الإلزامية، فلم ينبس ببنت شفة، والضابط واقف أمامه ينتظر الإجابة. كررها ثانية، فلم يختلج جفنه، ولم تعد تبصر فيه إلا العينين السوداوين، وقد التصقتا بحاجبيه، اللذين تجمعا على بعضهما البعض، وقال بنبرة سريعة:
لا أحلقها.
قال الضابط: بل ستحلقها.
رد بعنف: هذه شعيرة من شعائر الله، وسنة أمرنا بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم- .
فاهتز الضابط، وشعر بالإهانة أمام مجموعة الضباط وعناصر الكتيبة، فقال مستدركاً:
موعدنا في الغد، وسأرى أنك قد حلقتها.
ما إن انتهى الاجتماع حتى بادر إليه الأعداء قبل الأصدقاء يباركون حميته وجرأته، وفي اليوم التالي وقف زهير مزهواً بلحيته الطاهرة الكثيفة، رافعاً رأسه إلى أعلى حتى لا يتوهم الضابط أنه وَجِلٌ أو خائف، كما أنه انحاز قليلاً عن الصف، ليذكر الضابط، فلا ينسى موعده، وعندما استعرض الضابط الصف رمقه زهير بنظرة متفحصة من أسفله إلى أعلاه – على عادته حين يستخف بالعدو- ولكن الضابط تناسى الموضوع كله لما رأى من ثبات الموقف واستعداد زهير للاحتمالات الطارئة. وعندما التقيته، قال – ووجهه يطفح بالحزن المشوب ببسمة عريضة-
إنه أجبن من أن يتكلم بمثل هذه الأمور الخطيرة. أقصى ما يستطيعه أن يقول لي:
ما شأنك بالإجازات، وأنت عازب؟
فأرد عليه بسرعة:
– وكان رحمه الله يسمي هذا النمط من الكلام رشاً- أذهب، فاغتسل وأصلي الجمعة، وألتقي الأصدقاء والأهل. خير من أن أبقى هنا، وهذا حقي لكنكم تلجؤون إلى أساليب خسيسة، فتؤخرونها أو تحرمون منها أصحابها بلا سبب إلا الحقد والعقد النفسية.
ثم زفر زهير زفرة طويلة، وقال:
كم كان يكرهني، وكم كان يبطن العداوة للإسلام والمسلمين.
هذا جانب من حياته المليئة بالترقب والتحفز والمجابهة التي تفقأ عيون الأعداء، فقد كان حقاً (أبا مصعب)، نبراس النشاط الدائب في سبيل الله – عز وجل- ومثال اليقظة.
* * *
كان – رحمه الله - يعشق الرياضة، متخذاً من الجري السريع والرماية المتقنة أهم أشكال التدريب المتواصل، الذي يفيد جسمه، حتى برع فيه، وأقلق أعداءه، فباتوا يحسبون له ألف حساب، خشية الطلقة التي لا تخيف بإذن الله.
تميز بالثقافة الغزيرة والاطلاع المستمر في عالم الدعوة الإسلامية والعمل الحركي، وحصل على إجازة في (اللغة العربية) عام 1972م بتفوق، وأبى أن يتقدم لوظيفة تحت حكم عصابة مارقة، مفضلاً أن يعمل في حرفة حرة بشرف وكفاف.
نشط أبو مصعب بمهمة التدريب التي أوكلها إليه قادته المجاهدون، فتخرجت على يديه أفواج ومجموعات، قوامها الإخلاص في العمل، والحنكة في القتال، معتمداً بذلك على زج عناصره في أقسى المهمات، واضعاً إياها تحت ظروف مختلفة: من قتال ليلي، وحرب شوارع، وحركات خاطفة. وكان يقود بنفسه العمليات الفعلية لبعض المجموعات أثناء التدريب، ولا يتورع عن رصد خصومه في كل مكان. حتى لقد قال له القاضي: هل تلبسون (طاقية الإخفاء) في عملياتكم؟
* * *
خرج ذات يوم، فواجهته دورية مخابرات معززة بعناصر أمن وحزبيين، وما إن طالبوه بهويته حتى فاجأهم بطلقات من مسدسه، قائلاً لهم:
أنذال، جبناء، عملاء للنصيرية، لكن أحدهم استطاع التراجع إلى الخلف، وبدأ يرش ببندقيته على الأخ زهير رشاً كثيفاً من ثلاثة مخازن متتابعة، فاستقرت عدة طلقات في كتف أبي مصعب، وأغمي عليه، فحمله الزبانية والأجراء، وذهبوا يتصايحون، ويزمجرون معلنين أنهم ألقوا القبض على (هداف المجاهدين) فاندفع ضباط أمن الدولة وصف الضباط، وراح كل منهم يصافح الآخر، مهنئاً إياه بالصيد المغمى عليه.
كان بوسع الشهيد أن ينجو بنفسه، لولا تحديه لهم، واستهانته بالموت، وإيثاره الشهادة على كل شيء.. فجعل من نفسه قدوة لإخوانه الذين يعجبهم في قائدهم أن يرقبهم من عليين إلى جواب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أفاق زهير من غيبوبته، فوجد فوق رأسه رئيس فرع أمن الدولة المقدم علي سعد الدين و(جوقة) من الضباط والعناصر المسلحين، فقال له زهير:
أما آن لك يا علي سعد الدين أن تتوب إلى الله، وتكف عن أذى المسلمين ومسايرة النصيرية. نحن نعرف كل شيء عنك من أول يوم جئت فيه إلى حلب، ولكنك لا تستحي، لأنك وضيع، ذنب لرفعت.
فابتعد عنه علي سعد الدين، وهو يتوعد ويتهدد.
نقل بعدها الشهيد إلى دمشق حيث كسروا له يده تحت التعذيب، وجراحه بعد لم تلتئم.
رحم الله زهيراً، صاحب البسمة المضيئة على وجه الطهر والصفاء والثقة والاطمئنان، لقد طلب الشهادة فاستجاب الله تعالى لطلبه: (يا أيتها النفس المطمئنة. ارجعي إلى ربك راضية مرضية. فادخلي في عبادي. وادخلي جنتي).
وسوم: العدد 676