قاسم ططري في ذمة الله
من ذكريات عمالقة كهف تدمر العسكري.ابن الزبداني..
لم يعد بمقدور أبو طارق قاسم ططري تناول أي شيء من الطعام، ولم يعد لديه القوة الكافية للوقوف على قدميه، وبدأ يزور دورة المياه محمولاً، ونضى عنه ثوب اللحم والعضل، فلم يعد له منهما أي نصيب، وصار إلى نحولة شديدة، تنتزع من نحولته التي جُبل عليها، حتى وكأنني خلته واقفاً على ساقين من القصب الفارغ في آخر مرة رأيته فيها مسنوداً بين اثنين من الشباب!! وكانت منامتي إلى جواره طوال وجودي معه في ذلك المهجع، لا أفارقه، إلى أن ألمّ به المرض فافترقنا لأيام، ثم عدت فجاورته.
وكان مساءً، جاء كالعشاء الرباني الأخير، قام فيه كلاً من الدكتور مصطفى عثمان والدكتور أبو خالد بزيارة قاسم ططري، كانا يرجوانه في تناول شيء من الطعام، ولم يكن فيه سوى عينيه الذابلتان تتحركان، فأشار إلى الماء، محاولاً تحريك شفتيه، اللتان ما عادتا تقويان على الكلام، ففهم من كان قريباً أنه يسأل عن ترطيب شفتيه كي يقول شيئاً، ففعلوا، كان الليل قد رحلت بواكيره، وسرت برودة جو الصحراء في المكان، هكذا هي الصحراء دائماً، قيظ لاهب في النهار، وقرٌّ قارص في الليل، وزادت رطوبة المهجع المغلق المكتظ بالبشر عفونة فوق البرودة، تحلقنا حول الرجل وكلنا له محب، لو أمكن لنا افتداءه بالمهج لفعلنا، بدا هرماً قد تضاعفت سنين عمره، كومة من عظام اجتمعت في هيكل عظمي، لو طُلب لأحد عدَّ عظام قفصه الصدري لعدها دون أن يخطئ منها واحدة، وأخذت بعض الحاضرين عبرة، في الوقت الذي راح أبو طارق يرسل آخر سهام القول عنده، حديثاً كما لو أنه يملي عليه من عالم آخر، حديثاً لم يعد من أحاديث أهل الأرض، كما لو أنه الفارس على وشك أن يترجل:
- جزى الله من أحسن إليَّ خيراً، فقد زدتكم بوضعي المتأزم الميئوس منه شقاء إلى شقائكم، ما فات فات، وما هو آت لا بد أنه آت، غداً تستريحون مني، رحلتكم معي صبر ساعة، ثم هي راحة إلى قيام الساعة، اليوم أقضيه بلا طعام، بعدها أنشط على قدميّ، أصنع طعامي بيدي، ما أظن أن أحداً منكم سرت فيه لذته، لحظات أراها رأي العين أتناول بعدها ما لذ وطاب من كل طعام، من أدرك أن يسامح فليفعل، فأنا اليوم بينكم وغداً عبرة لكم، الله وكيلي ووكيلكم إلى يوم الدين.
ثم راح في غيبوبة، استيقظ بعدها استيقاظة مرتحل تذكر شيئاً نسيه، عاد ليأخذه على عجل وقد أزف الرحيل.
كان ابن بلدته محمود مويل ما زال جالساً عند رأسه، راح أبو طارق يوصي بأولاده طارق وظلال ووائل خيراً، وكنت ما زلت أسمع همسه الذي راح يرسل آخر خيوطه، ولا أدري كيف خطفني النوم فنمت، وما أدري كم مضى عليّ من الوقت نائماً إلى أن أيقظني محمود وهو ينتحب في صوت مكتوم، ليلقي عليّ بالخبر، وكأنه الصاعقة تشعب قلبي، مع أنني كنت أنتظره:
- مات قاسم!!
أحسست بموته كما لو أن أحزان الأرض اجتمعت عليّ لتثأر مني، وصرت كمن راح بعضه يودع بعضه الآخر، وحرت فيما أفعل، غير أنني كشفت الغطاء عن وجهه لأطبع على جبينه الوضاء قبلةً سبقتها دمعةٌ حرى، لعلها ترافقه إلى مثواه الأخير إلى أن يجمعنا عند الله لقاء.. رحم الله قاسم، كلما لاح من تلك الديار بارق تذكرت قاسم، وإخوة آخرين، عزائي فيهم قول الشاعر: "وعند الله تجتمع الخصوم".
وسوم: العدد 685