الشهيد أحمد نيساني
في اللاذقية الوادعة الجميلة، ولد أحمد نيساني وفي قلبه شعاع رباني ظل ينمو ويضيء حتى توهج في لهيب الشهادة، وتلك مرتبة يرنو إليها المؤمنون ويسبق إليها المخلصون، كما أنها موهبة إلهية يتخير الله لها من حباهم بمنازله العالية في جنات النعيم.
لم يكن أحمد نيساني ابن عَلَم، ولا من أسرة ذات شهرة عريضة، ولكنه نشأ في أسرة متوسطة الحال عُرفت بالقناعة، ولم ينل أبناؤها حظاً كافياً من التعليم إنما نالوا حظاً طيباً من فضائل الأخلاق. وقد وقف تحصيل الشهيد في فتوته ومقتبل شبابه عند المرحلة الابتدائية، غير أنه بعد ما سار في طريق الدعوة العظيم لم يرض له إيمانه أن يكتفي بما حصل، فأقبل على القراءة والمطالعة الإسلامية وشغف بها، وجمع الكتب النافعة في هذه السبيل، ولا بدع في ذلك فدعوة الإخوان المسلمين أضرمت الرغبة إلى العلم في قلوب الكثيرين.
وفي حياة أبي علي – وهي كنية أحمد نيساني– عاملان واضحان كان لهما أكبر الأثر في بنائه العقلي والنفسي وأساليب تفكيره:
العامل الأول: هو القرآن الكريم: فقد انكب الشهيد العزيز على تلاوته ومعرفة تفسيره. وأفاده ذلك الغذاء الرباني صفاءً روحياً وإشراقاً نفسياً، وأصبح ذا بصيرة نافذة، ورأي سديد، وكلمات نورانية، وما زال ينهل من هذا المعين الصافي بشغف واهتمام حتى أصبح مشعلاً بين إخوانه، ومضرب المثل في الالتزام بأخلاق الإسلام من الإخلاص والود والوفاء وسعة الصدر وقوة التحمل. أما العامل الثاني: الذي أسهم في بنائه فهو جماعة الإخوان المسلمين وكانت بالنسبة إليه التربة الصالحة والمناخ المناسب الذي تفتحت فيه مواهبه وشحذت همته وأنارت له الطريق وأثارت فيه الوعي الديني والاهتمام الحركي للعمل من أجل الإسلام.
إن كل عارف بحياة الشهيد عن قرب يعلم أن دعوة الإخوان المسلمين كانت عنده شيئاً عظيماً متميزاً، وكنا نحن أبناء جيله الذين نتمتع بحظ من الثقافة والفكر نراه يجلس بيننا في الخمسينيات يستمع إلى أحاديثنا ومناقشاتنا بصمت وبسعادة غامرة، وينهل من فكر الدعوة من أفواه أبنائها ومن كتابات كتابها حتى ارتقى به الأمر وهو العامل المحدود الثقافة إلى مرتبة يطمح إليها المخلصون، وظل يرتقي في مراتب الفهم والعمل إلى منزلة الشهادة.. وكان رحمه الله يردد في كل مناسبة: إنني لا أستطيع أن أوفي هذه الدعوة العظيمة حقها علي فهي كل شيء في حياتي، ولولاها ما كنت شيئاً مذكوراً..
إن دعوة الإخوان المسلمين في حياة أحمد نيساني هي المرشد الواعي، والناصح الأمين، والمربي الحكيم الذي أخذ بيده ووضعه في الطريق الصحيح، وهي التي صقلت مواهبه ووضعت في يده موازين الإسلام فراح ينظر إلى الحياة من خلالها نظرة جديدة، ويقومها من جديد فارتقت في نفسه قيم وهبطت أخرى.
وعلى ضوء الدعوة الجديدة التي احتلت سويداء قلبه، والعقيدة التي أشعلت فتيل الجهاد في نفسه، وشعر لأول مرة في حياته أنه صاحب رسالة في الحياة، يقع على عاتقه تبليغها والذود عنها، والعيش بها ولها، فملأت كيانه وأطلقت طاقاته، وفجرت ينابيع الخير والعطاء في نفسه، ووضعت بين يديه المعايير الصحيحة والقيم الأصيلة الثابتة فراح يتعامل من خلالها مع نفسه وأهله ومجتمعه.
أخلاقه: كان أبو علي لطيف المعشر، شديد الحياء، وربما جرح حياءه الإشارة الخاطئة أو الكلمة العابرة الشاردة التي انفلتت من قيود الخلق والدين وكان طاهر الإزار، نظيف اللسان، بعيداً عن التكلف، تشي تعبيرات وجهه بسرعة بكل حركة نفسية في داخله، وهو إلى ذلك دمث الخلق، سهل الطباع هادئ، يميل إلى الصمت، ينكر ذاته تواضعاً ويؤثر إخوانه على نفسه في المواقف كلها. فاض حبه للقرآن نوراً على وجهه، وحقاً على لسانه، واستقامة في فكره ووجدانه، وعطاء وبناء في يده وجوارحه، وحباً وتفاؤلاً وشجاعة في نفسه. كان يجيد العطاء أكثر مما يجيد الأخذ، حتى غدا – في نظر عارفيه – متلافاً للمال في سبيل دعوته، وما يتلف مال أنفق في سبيل الله. وإدراكاً منه لهذا المعنى كان يجيب الذين يحدثونه بشأن ماله: أما ضياع الأموال فأنتم الذين تضيعون أموالكم لأنكم لا تنفقونها في سبيل الله، وأما أنا فمالي باق ومُدَّخر عند الله، وغداً أجده أضعافاً مضاعفة، فأموالي وضعتها وديعة عند من لا تضيع عنده الودائع، أحتسب ذلك عند الله، وأرجو أن يكون غداً في ميزاني يوم القيامة يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليم..
وقد لا يدرك سر هذا الكلام إلا من أصبح الإنفاق في سبيل الله لذة عنده وقديماً قيل: لا يعرف الشوق إلا من يكابده.
أما ثمرات الإيمان في نفسه فقد كان من أعظمها: الصدق والإخلاص والحب في الله والبغض في الله. كان يعرض نفسه أحياناً لأخطر المواقف في سبيل إنقاذ أخ أو الدفاع عنه فهو بحق رجل عقيدة عاش لها ومات دونها.
سلوكه في العمل الإسلامي: كان أحمد نيساني رجلاً ربانياً حيثماً حل ترك وراءه أثراً طيباً يحتذى، وكان إخوانه يرتاحون للجلوس معه لما يجدون في جواره من الأنس والحب والطمأنينة واسترواح نسمات الإيمان. مجلسه مجلسُ خير وبركة لا تفارق الابتسامة ثغره مهما اشتد الخطب وعظم البلاء، ووراء ذلك أعصاب فولاذية لا تضطرب في المواقف الصعبة، بل كنت تراه طلق المحيا متهلل الوجه يبتسم للشدائد ويتصرف إزاءها بروية وحكمة وحزم، يعلم إخوانه بسلوكه المتزن في المعضلات كيف تكون الرجولة وكيف يستعلي المؤمن بإيمانه.
نبذة عن عمله: اشتغل شهيدنا رحمه الله عاملاً زراعياً في مدرسة "بوقا" الزراعية في اللاذقية واكتسب من خلال عمله خبرة زراعية واسعة، ثم تعلم أصول تربية النحل، حتى أصبح خبيراً في هذا الموضوع يشار إليه بالبنان ويقصد للمشورة والإفادة، ثم اشتغل في تمديدات الكهرباء في المنازل، فأتقن هذه المهنة وعمل فيها كأحسن المختصين، ثم عمل في مهنة البناء، وأظهر تفوقاً عجيباً في هذا الميدان، وأصبح ينفذ المخططات الهندسية بمفرده، ثم عمل بمهنة الاتجار في الأراضي فكان موفقاً في ذلك أيضاً، وقد اشتهر في سائر أعماله بالأمانة والإتقان، لم يعمل في عمل إلا كان فيه مبرزاً تمده مهارات عملية واضحة وتَوقُّدٌ ذهني ملحوظ، شعاره في كل الميادين التي عمل فيها قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه).
جهاده: كان بلاؤه من أجل دعوته معروفاً، يقول الحق، ولا يخشى في الله لومة لائم، لا ترهبه قوة، ولا يثنيه عن عزيمته تهديد أو وعيد، ولا تنال منه الشبهات أو الشهوات، ماضي العزيمة لا يرده عن درب الجهاد شيء.
دخل السجن في سنة 1974، وتعرض في سجنه لبلاء شديد، وعذاب عظيم لا تطيقه الجبال، لكنه كان أثبت من الجبال الرواسي.
ومن ألوان التعذيب التي تعرض لها في سجن (الشيخ حسن) التعذيب على طريقة "الفروج" وهي طريقة يعلق السجين فيها من يديه ورجليه وهي معقولة إلى ظهره بينما يتدلى صدره باتجاه الأرض، ثم يمارس عليه الزبانية فنوناً من التعذيب، أو يرحموه فيتركونه هكذا معلقاً، ولا يتحمل الإنسان هذا الأمر عادةً أكثر من دقائق معدودة وإلا أصيب بالشلل، لكن هذا الصابر المحتسب كان يعلق كل مرة على هذه الحالة قرابة نصف ساعة، والله برحمته الواسعة يحفظه من الأذى، فلم يصب بعاهة من جراء هذا اللون من التعذيب البشع، وتلك كرامة من الله لهذا المؤمن التقي.
بقي في سجنه سنتين ونصف السنة بدون أن ترهبه المخاوف أو تزعزع نفسه المغريات، وقد تعرض للأمرَّين، وخرج من محنته هذه منتصراً. استعلى بإيمانه ويقينه على حظوظ النفس، وعلى شهوات الدنيا الزائلة، خرج أصلب عوداً وأشد مراساً وأقوى شكيمة وأعظم تجربة.
وعندما سمع منادي الجهاد في سورية أحس بأن هذا النداء يلبي طموحه ويعبر عما يتأجج في حنايا ضلوعه، فسارع لتلبية هذا النداء، وانخرط في كتيبة الفداء آملاً بأن يسهم في إزالة الظلام الذي خيم على المسلمين في سورية الحبيبة ورفع قبضة الطغاة عن رقاب المسلمين، وقد نشط في ميادين الجهاد حتى كان علماً من أعلامها في اللاذقية.
وقد جدت قوى الطغيان في ملاحقته والبحث عنه، فداهمت بيته بوحشية منقطعة النظير روعت أطفاله، ولما لم يجدوه صبوا جام غضبهم على أثاث البيت فحطموه تحطيماً ثم انصرفوا مهددين متوعدين، وبعد ذلك هجر أهله البيت.
لم يشف صدور هؤلاء الحاقدين تحطيم ما في البيت، بل ذهبوا إلى شريك له في العمل الزراعي، وداهموه في بستان كان له فيه نحو عشرين خلية نحل، فأتلفوها، وعاد الجبناء منتصرين على الأطفال والنساء وخلايا النحل.
ولم تفت في عضده الخسارة المادية، لأنه أعد نفسه لأعظم من ذلك، وكانت أمنيته التي يسعى إليها جاهداً، ويطلبها من ربه صادقاً هي الشهادة في سبيل الله، وكم سمعه إخوانه يقول: اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، وكم اتجه إلى السماء في جوف الليل وهو قائم يصلي، يدعو بهذا الدعاء بحرارة وضراعة وابتهال. وكثراً ما كان يردد: غداً نلقى الأحبة محمداً وصحبه.
من أخباره الفذة أثناء ملاحقته من قبل السلطة الباغية أنه لجأ ذات ليلة إلى أحد بيوت معارفه، وإذا بزوجته الصابرة وأولاده البررة في المنزل نفسه فأعلمه صاحبه بذلك، ولم يعلم أسرته ثم اقترح عليه أن يجمعه بهم ليرى أطفاله، فرفض ذلك. خشي على نفسه أن ينتابه أي ضعف بسبب عاطفة الأبوة أو الزوجية، فتميل نفسه إليهم، وتركن إلى جوارهم، وتخلد إلى الراحة أو فيكون ذلك مثبطاً عن الجهاد أو معيقاً عنه بسبب ما يأخذه من الشفقة عليهم مدفوعاً بينابيع العاطفة الغزيرة في نفسه. وقد عُرف بحبه الشديد لعائلته وحدبه عليها، ولكنه آثر أن يتجاوز قلبه حتى لا يجد الشيطان سبيلاً إلى نفسه فتركن إلى الضعف وتستشرف الراحة في جوار مَنْ تُحب.
على أن القدر دفعه للاجتماع بعائلته قبل استشهاده بثلاث ليال، بعد غياب طويل دام أشهراً وكانت تلك ليلة الوداع، وقد قال لعائلته: لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد اليوم فعليكم بتقوى الله ولا تنسوا الدعوة بعدي، ولما طلع الفجر صلى بأهله الفجر، وانصرف وعيون الأطفال دامعة وقلوبهم حزينة، والزوجة الصابرة تهدئ من روع الجميع، وتتجلد أمام زوجها وقد أسلمت أمرها لله.
وبعد يومين من هذا اللقاء، نصبت له السلطة الباغية كميناً عند السكة الحديدية قرب الحرش في اللاذقية، فقاتل مفرزة كبيرة قتال الأبطال بضع ساعات حتى استشهد رحمه الله وكان ذلك في أواخر شعبان 1401هـ الموافق 16 أيلول 1981م، ولم ينطفئ ذكره في الأرض ولا في السماء، بل غدا مشعلاً من مشاعل النور على الطريق، وعلماً من أعلام الجهاد ورمزاً للتضحية والفداء.
رحمك الله يا أبا علي، فقد كنت في حياتك تُقصَدُ للمكارم وترجى للصعاب وأصبحت اليوم بعد مماتك منارة على طريق الجهاد تنير الدرب للشباب وتستنهض الهمم صباح مساء. لقد كتبت بدمك الزكي سطراً خالداً في ملحمة البطولة التي سطرها جهاد الثورة الإسلامية في سورية وهي ترتقي في قمم الصعود لتقطف ثمرات النصر إن شاء الله.
وسوم: العدد 692