قافلة الشهيد موفق سيرجية
قَلَّ أن نجد في تاريخ الحركة الجهادية المعاصرة في سورية يوماً كذلك اليوم الفريد والفاصل المجيد، وقل أن نجل كأولئك الشباب الأبطال الشاهقين الباهرين. إذ لم يكن الأمر في ذلك اليوم أمر شهداء برزوا لمناياهم في استبسال وغبطة. ولا أمر شباب مجاهدين خرجوا لملاقاة الفئة الباغية فأبلوا بلاءً حسناً.. إنما هو الأمر الذي شغل حلب الشهباء وأقض مضجعها فخرجت إلى الشوارع بقضها وقضيضها ثائرة تثأر لأبنائها الشهداء الأبرار وهي تنادي بحشودها الغاضبة لله "بالروح بالدم نفديكم يا إخوان".. إنه اليوم الذي تجلت فيه قداسة الحق وشرف التضحية على نحو متميز فريد، إنه اليوم الذي أسقطت فيه جماهير حلب المجاهدة كل مظهر من مظاهر الحكم الباغي حتى لفظ أنفاسه في هذه المدينة المجاهدة.
وصحيح أن تاريخ الحركة الجهادية المعاصرة في سورية مترع بالمشاهد الزاخرة بقداسة الحق وشرف التضحية بيد أن استشهاد هؤلاء الثمانية يبقى له سمته المجيدة وميزته الفريدة ونتائجه الكبيرة.
إنها القضية الغالية الجليلة التي دار من أجلها الصراع بين وحدات أسد وبين الثمانية الصامدين الماجدين الذين هزوا البغي في الشهباء حتى أسقطوه لافظاً أنفاسه.. وإنها الطريقة المروعة التي دار بها القتال بين مئات من جنود البغي من سرايا ووحدات أسد وبين ثمانية مجاهدين لا غيرهم من أقمار حلب الجهاد.. إنه الحصاد الأليم والعظيم الذي خلفه هذا اليوم من طلوع فجره إلى ما بعد الظهر.
كل ذلك يجعل من هذا اليوم يوماً فريداً من أيام الشهباء الخالدات، ويوماً فريداً في تاريخ الجهاد السوري المعاصر وفي تاريخ الحق الذي شهد في ذلك اليوم – رغم استشهاد الثمانية- كيف يكون الصدام بين المجاهدين وبين وحدات البغي المدججة بالسلاح والآليات والطائرات العمودية.. إن أعظم ما صنع الشيخ موفق سيرجيه وإخوته الميامين في ذلك اليوم هو أنهم جعلوا الحق قيمة ذاته ومثوبة نفسه، فلم يعد للنصر مزية وقد حلقت أرواحهم في عليين وأقدامهم لا تزال على الأرض.
لقد وقف ثمانية أبطال أقمار شباب وتقدمهم الشيخ موفق وليس لهم في إحراز النصر أدنى أمل وليس أمامهم سوى الشهادة بأسلحة الطائرات العمودية التي تحوم فوقهم وتصليهم برشاشاتها أو الشهادة بأسلحة المجنزرات التي حاصرت القاعدة أو بأسلحة الوحدات التي تدعمها من كل مكان.. وهكذا راحوا يقاتلون مع شيخهم معانقين المنايا واحداً بعد واحد وهم يصيحون الله أكبر والعزة لشام الرسول.
لذا هبت الشهباء بعد استشهادهم لتصنع بجماهيرها المؤمنة الثائرة مهرجاناً للحق ويوماً للتضحية ليس له نظير.
فهل يأذن الشباب الأبطال أن أقدم عنهم هذه الكلمات؟ إني لأجاوز قدري إذا زعمت أو توهمت أنني قادر على إيفاء تضحياتهم وعظمتهم حقاً.
لكنني وجدت – لا غير- عبير تلك التضحيات، وسمعت بعض وقائع تلك العظمة فرحت أنادي الناس كي يستمتعوا معي بهذا العبير الجهادي، وليشهدوا معي شرف التضحية وعزمها الباسل من أجل أنبل قضية، قضية الإيمان والعدل والتحرير. ويا أيها الثمانية: سلام وتحية إكبار للدين الذي رباكم، وسلام للشهباء التي أنجبتكم وسلام عليكم في الأبطال المجاهدين والشهداء الأبرار.
مع فجر اليوم الثاني من أيام ربيع الآخرة عام 1400هـ السابع عشر من شباط 1980 شعر الإخوة بأرتال وحدات البغي تطوق القاعدة، وما إن تلقى الإخوة الأوامر بالاستعداد حتى تحولوا جميعاً إلى أماكنهم استعداداً لصنع العظمة والبطولة اللتين كانتا على موعد مع هؤلاء الثمانية الأبرار. وتقدم الشيخ موفق صوب الباب الخارجي أخطر نقطة في القاعدة فتبعه أصغر الثمانية سناً:
- لِمَ لحقتَ بي يا هيثم؟
- والله لا أفارقك حتى أكسر في صدورهم بندقيتي هذه.
ولكن سرعان ما اندفع بقية الإخوة الثمانية يعطون الشاب الشيخ موفق بيعة هي أمجد بيعة في تاريخ التضحية والفداء، بيعة على موت محقق في سبيل الله لتنتصر الشام، فليس هناك لما دون الموت أدنى احتمال، ثم عادوا إلى أماكنهم يتهيأون لنزال قوات الشر والفساد.
يا ويحهم.... ألا يخجلون؟
مئات مدججة بالسلاح والطائرات العمودية، لثمانية فقط لا غير وفي سبيل ماذا...؟؟ في سبيل باطل يرونه رأي العين، في سبيل من باع الأرض وخان الأمة وجدَّف على الله.
وانطلقت قذيفة (آر. بي. جي) من العدو صوب باب القاعدة فدمرته، فاندفع موفق سيرجية وخرج من الباب المدمر وأخذ الأرض على رأس الشارع ونادى أصحابه أن اثبتوا مكانكم، وليتقدم أيمن (الخطيب) وليتمركز خلف الباب المدمر، ودافعوا عن أمة محمد "صلى الله عليه وسلم".
والتحمت نيران الطرفين التحاماً رهيباً، ورأى قائد وحدات العدو كثرة القتلى الذين يسقطون رغم غزارة نيرانه، فجن جنونه، حيث سقط في الدقائق الخمس الأولى من جنوده الأشرار حوالي (35) قتيلاً.
وكبر الشيخ موفق تكبيرة هزت الأرض من حي الصاخور هزاً، فانقضت نيران إخوانه الأبطال على الأشرار انقضاضاً صاعقاً... واتقد مضاؤهم، وامتلأت أفئدتهم المؤمنة عزماً على عزم وراحوا يضربون ويقاتلون في استبسال عظيم.
لم يكن هؤلاء الشباب الأبطال الأطهار يتعجلون النصر، فما أبعد النصر عن فتية يقاتلون في مثل ظروفهم وبمثل عددهم هذا... إنما كانوا يتعجلون الجنة والتضحية وكتابة سطور الشرف ورسم معالم طريق التحرير.
وكانت الطلقة التي تخرج من صوب قاعدة الأبطال ينهمر عليها مئات الطلقات بل الآلاف من مصفحات الأشرار.. وهذا وحده كان يرينا كيف كانت ضراوة القتال وعظمة الاستبسال.
ورغم ما كان لوحدات الباطل من تفوق لا يقاس، فقد كان الفزع من نصيبهم وحدهم، وليس هناك ما يصور هذه الحقيقة مثل إقدامهم على قذف القاعدة بقذائفهم الصاروخية.. لكن الثمانية ثبتوا كأنهم الجبال، ولا يزال سعير المعركة يزداد ضِراماً والمجاهد أيمن الخطيب عند باب القاعدة يذود ببسالة خارقة عنها ويحمي ظهر الشيخ موفق ويُمِدُّه بمخازن الذخيرة..
وثقل جسده الطاهر بالجراح فوقع على الأرض مضمخاً بدمه.. ثم لا تكاد عيناه المليئتان بالدماء تقعان على البطل الشيخ موفق يقاتل وحده – بعد أن طوقته مجنزرات أسد - حتى انتفضت فيه من جديد عافية الإيمان وتضرم فيه بأس المجاهدين واستعلى على الجراح النازفة ونهض ليقاتل من جديد قتالاً مريراً حتى هوى الشهيدان ووقع أجرهما على الله بعد أن تعانقت أرواحهما وكانت في موعد واحد مع الجنة.
واندفع الستة الباقون ليسدوا الثغرة التي حصلت من استشهاد الأخوين، وراحوا يقاتلون في جسارة وغبطة، كلما سقط أحدهم جريحاً نهض فوق جراحه، وسبح فوق دمائه، حتى يعود فيقاتل ويقاتل في عزم شامخ وثبات مكين إدراكاً منه أنه من الجنة على قرب ذراع.
وهذا الشاب النضر محمد لؤي بيلوني يسد مسد شيخه الشهيد موفق ويُصْلِي الفَجَرة ناراً حامية شوت أرواحهم قبل أن تشوي الأجساد.. وتحامل المجاهد لؤي على جراحه، لكن الطلقات مزقت جسده الغض الشريف... وبكل رباطة جأش تذهل كل حي اندفع المجاهد (سامح آلا) ليحمي مدخل الشارع الذي يفضي إلى القاعدة، ونادى إخوانه تقدموا حتى أراكم قد نصحتم لله ورسوله.. واستمرت بنادق من بقي من الإخوة الثمانية تنقض بنيرانها كالصقور الكواسر حتى ملؤوا الشارع العريض بجثث القتلى، وكلما زج البغاة بنسق جديد تحميهم المجنزرات كان المجاهدون الشباب يقذفون بهم إلى جهنم وساءت مصيراً.
وعندما استطاعت بعض المجنزرات أن تطوق المجاهد سامح اندفع الأخ المجاهد فخر الدين زنجير في لُجَّة هذا الهول ليفك هذا الحصار ثم ما لبث أن ألهب ثلاث مجنزرات بثلاث قذائف (آر. بي. جي) وانثنى على أخيه سامح ليجده مثخناً بجراحه وهو ينادي: (يا الله).
وسرعان ما تقدم جنود البغي تحميهم مجنزرة، لكن المجاهد فخر الدين كان يصليهم بقذائف الحق التي سمرتهم في أماكنهم زائغة أبصارهم واجفة قلوبهم حتى أصابت رشات كثيفة منه مقتلاً وصعدت روحه إلى السماء، ولا يزال المجرمون يضربون ويضربون، يرهبونه وهو شهيد.
وتوسطت الشمس كبد السماء، ولم يبق في معركة الإيمان والبسالة إلا ثلاثة أشبال، كان المجاهد باسل كسحة يشد على رأسه الشريف عصابة ليوقف نزف الدماء الزكية ويصاول المجرمين من فتحة في جدار القاعدة أحدثتها قذيفة معادية.
ويطير صواب العدو عندما استطاع المجاهدان محمد أيمن علوان وهيثم حزيني أن يتسلقا على سطح مجاور لينزلا الموت والعار بالنسق المتقدم صوب المجاهد باسل كسحة الذي ثبت أمام نيران الوحدات ثبات الشم الرواسي.. لكن سرعان ما تصدت رشاشات الطائرات العمودية للمجاهدين هيثم حزيني ومحمد أيمن علوان واستشهدا مع آخر طلقة معهما بعد أن جندلا عشرات القتلى فوق تراب حي الصاخور البطل.
مالت الشمس عن كبد السماء ولا يزال الباسل يصاول ويصاول وحيداً حتى كسر رأس أحد جنود البغي بعقب بندقيته الخالية من الذخيرة، ثم أسلم الروح إلى بارئها مغسولاً بدماء الشباب والبسالة.
وهكذا صعدت إلى جنان الله أرواح الشهداء الثمانية فتبعتها السماء بطلقات رعد قوية صادعة... ولقد حسبها الناس نذيراً للبغاة المجرمين من وحدات أسد ولكن لا... فهم أهون على الله من ذلك... إنما هي السماء تحيي شهداءنا الأبرار تحية إجلال للمهمة التي أنجزوها، وللغاية النبيلة التي من أجلها استشهدوا.
"إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى".
"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً".
وسوم: العدد 706