الشهيد مهدي علواني
عندما يكشر الليل عن أنيابه السود، وينتفش الباطل مزهواً بطغيانه، ويوشك التاريخ أن يكتب صفحاته بالهباب الأسود لأمة من الأمم.. في هذا الليل المظلم تراجع الأمة حساباتها، تبحث عن نفسها في نوع من الرجال (لا كالرجال) تغلي في أعماقهم عزمات البطولة، وترتفع رؤوسهم فوق هامات النجوم، ليقرعوا أبواب الشمس بأناشيد البطولة والتضحية والفداء..
والبطولة في الأمة الإسلامية نبات أسطوري مدهش لا يموت، وكلما حاول الطغاة أن يقطعوا منه غصناً قام له ألف غصن مورق يعلن رأيه (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في دنيا الجاهلية والفراعنة، يستعلي بالإيمان ويتجدد بالنبع الساحر في ضمير هذه الأمة.
"إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون".
في منابت المجد والإباء، في مدينة أبي الفداء، مدينة الشهداء وفي حي العليليات ولد الشهيد مهدي وجيه العلواني عام 1956م في أسرة مؤمنة صالحة حيث كان والده الحاج وجيه من رواد مسجد الشيخ محمد الحامد رحمه الله ومن مريديه وتلاميذه، وسليل البيت النبوي الطاهر.
كان مهدي متوسط الطول، أجعد الشعر خرنوبيه، حنطي اللون يميل إلى البياض باسم الوجه، هادئاً لا يزيده لوم إخوانه وثورتهم عليه إلا هدوءاً وأناة، يحب إكرام إخوانه، سخياً بالغ السخاء، ما في يده لإخوانه، وجيبه جيبهم ذا نخوة عظيمة في خدمة إخوانه، لا يتوانى ولا يتلكأ جريئاً إلى حد بعيد، صريحاً في مواقفه، لا يماري ولا ينافق، لا يقبل الذلة في الدين متواضعاً لإخوانه شديداً على أعدائه، والحل المسلح هو أقرب الحلول عنده، وأجمل الأيام لديه: يوم ينتصر فيه الإسلام، ويوم يلقى به العدو، ويوم يصرع به طاغية من أئمة الكفر.
لقد كتب على مهدي وأسرته الكريمة أن يدخلوا المحنة في وقت مبكر من حكم الطاغية حافظ أسد، إذ اعتقل مهدي مع ثلة من إخوانه منهم الشهيد خليل شققي في منتصف تشرين الثاني عام 1972م، وهو بعد ابن السادسة عشرة من عمره، ثم أفرج عنه في شباط عام 1973م وفي الخامس والعشرين من أيلول 1975م لاحقت إحدى دوريات المخابرات العسكرية أخاه زكريا في حماة كمناصرةٍ من السلطة لطالب طائفي اعتدى على حرمة الصيام في كلية الطب البيطري، وبينما كان زكريا يؤدي الامتحان دخلت دورية من المخابرات العسكرية لاعتقاله، وكان مهدي قد علم بالأمر، فكمن لهم هو وإخوانه عمر وغزوان رحمهم الله فأخرج عناصر المخابرات أخاهم زكريا من مبنى الكلية، ووضعوه في السيارة فهاجم مهدي وإخوته الدورية على مقربة من مبنى الكلية، وأثناء ذلك استطاع زكريا الإفلات من قبضتهم بعد قتل سائق السيارة، وجرح اثنين من عناصر المخابرات وأصبح مهدي بطبيعة الحال لا يذهب إلى المدرسة إلا برفقة سلاحه، الذي ما تركه أبداً، والمكون من مسدس عيار (9مم) وأربعة أمشاط وقنبلتين دفاعيتين.
بعد ذلك بشهرين فقط – أي في 27/11/1975م – أرسل المجرم محمد غرة رئيس مخابرات أمن الدولة في حماة قوة عسكرية أطلقت النار على أخيه غزوان، قرب بيته في شارع بدر الدين الحامد، فاستشهد على الفور وكان شجاعاً مقداماً لا يعرف الخوف إلى قلبه سبيلاً، وعندما رأى مهدي وإخوته ما صنع المجرمون بأخيهم، كان لا بد من أن يصنعوا شيئاً، فقاموا بإلقاء بعض القنابل التي كانت بحوزتهم تجاه الأنذال وابتعدوا عن أنظارهم بعد أن أصابوا منهم مقتلاً، وانسحب مهدي من المنطقة مع إخوته، لأن عناصر المخابرات تريد قتلهم جميعاً كما صنعوا بأخيهم، وبناء على هذا أصبح مهدي من الملاحقين لدى السلطة الطائفية.
وعلى إثر مقتل المجرم محمد غرة في اليوم التاسع من شباط عام 1976م داهمت السلطة الباغية بعناصرها منزل مهدي وأصبحت عائلته كلها مطلوبة للاعتقال بما فيهم الوالد الشيخ الكبير الحاج وجيه العلواني وبعدها وضعت السلطة المجرمة يدها على أملاك الأسرة كما اعتقلت أخاه يحيى وأودعته السجن بالإضافة إلى صهر مهدي المسن المقيم في دمشق والذي لا علاقة له بالمصادمات من قريب أو بعيد كما اعتقلت العشرات من رجال آل العلواني وحتى النساء فقد اعتقلت والدة الشهيد مهدي ما يقرب من عام ونصف عام في سجن قطنا للنساء وفي سجن الحلبوني بدمشق.
وبعد ملاحقة مهدي بفترة وجيزة سافر إلى لبنان..
وفي لبنان كانت أرواح الشهداء الذين ساروا معه على طريق الجهاد المبارك لا تفارقه.. كان يحن إلى البندقية ويحن إلى لحن الرصاص يلعلع في سبيل الله وينبه الغافلين والمتثاقلين من المسلمين عن الجهاد ويتشوق إلى كسر أطواق الخنوع والذل وصرع الطغاة المتسلطين على رقاب الشعب.
لقد كانت أرواح إخوانه الذين استشهدوا كالشهيد صبحي عثمان الذي استشهد تحت التعذيب في سجن المخابرات العسكرية كانت لا تفارقه، فهم في فؤاده لا ينساهم أبداً مهما بعدت الدار وشط المزار فيصرخ وبملء فيه: إلى أين نسير؟ لماذا أتينا إلى هنا؟ أين الأخوة؟ وكيف الوفاء يكون؟ وتغلي دماء الثأر في رأسه ويكبر السؤال ويكبر كيف تركنا المجرمين ينالون من إخواننا؟ أتذهب دماؤهم هدراً وما زلنا أحياء؟! أتذهب سدى وما زال الإيمان فينا يحفزنا نحو الثأر.. وينساح اللون الأحمر في عالمه أكثر فيهيئ الله له سبيل الجهاد..
اتصل به الأخ القائد عمر مرقة فعاد سراً إلى سورية للجهاد ضد نظام حافظ أسد الكافر الحاقد.
وكأني به يتمثل قول الشاعر الشهيد محمد صالح نازي:
لأُصعدنَّ غضبي لأحرق طغمة حكموا البلاد وشردوا أصحابها
ولأجعلن من ناره مثوى لهم أَسرَ الأكارم واستباح عذابها
فالساحة الحمراء نحن جنودها لا تنثني أبداً لما قد نالها
وبلادنا الخضراء نحن لها فدى عهداً علينا لن نخون ترابها
وعقيدة الإسلام نحن حماتها لن يستطيع الكفر أن يحظى بها
وتبدأ مآثر البطولة والمجد التي راح يزرعها شهيدنا البطل تنمو وتزهر في قلوب أبناء الشعب السوري.
ويبدأ الجهاد بالبندقية والبارود والقنبلة، ويكون مهدي من الثلة المؤمنة الأولى مع الكتيبة الخرساء مع هشام وعبد الستار وفيصل وبسام ومع الفئة المؤمنة الصامتة التي أطلقت الرصاصات الأولى وشقت طريق الجهاد، فمزقت حجب الغفلة والنسيان في دنيا هذه الأمة.
لقد عانى مهدي في ملاحقته ما الله به عليم، وكان بإيمانه وجرأته المتناهية يمثل واحدة من الصرخات المدوية الأولى التي دقت طبول الخطر الطائفي في سورية الحبيبة، ويا لها من بداية صعبة، وأصعب ما تكون الأمور في بداياتها الأولى وسط أمة نائمة.
شارك مهدي في عدد من العمليات الناجحة الجسورة، وتهاوى أزلام الباطل صرعى أمام رصاصاته الصائبة، وكيف لا تكون صائبة مسددة والمسدسات تلعب في يديه منذ نعومة أظفاره، يداعبه معها إشعاع نصرة عقيدته.
مضت رصاصات مهدي يزرعها في قلوب ورؤوس الطائفيين العفنة وكان في كل تلك العمليات كبيراً في الشجاعة والجرأة والفداء وهو يعتلي قممها الشامخة، ويدرج في ذراها.
وكانت كل من حماة ودمشق مسرحاً لعملياته وكان يسند إليه الأخ عبد الستار الزعيم العمليات المهمة.
اعتقال مهدي
بينما كان مهدي جالساً في بيت أخته في دمشق في منطقة العباسيين سمع طرقاً خفيفاً على الباب فتحه فإذا بطفلة بريئة من بنات الجيران تقول له: إن المخابرات اعتقلت الآن شخصين بجانب المبنى وتظن أن أحدهما ابن أخته خالد، عندها انتفض مهدي انتفاضة البطل فارتدى ثيابه، وقد حمل سلاحه، وخرج من البيت في سرعة البرق وليلقى أعداءَ الله أعداء الحرية والكرامة الذين طالما نال أهله وإخوانه منهم الأذى فوجد المنطقة محاصرة، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم.. سار خطوات وئيدة وبأعصاب هادئة ودون أن يلتفت فسمع وقع خطوات تتسارع خلفه، وعلى بعد مئتي متر من بيت أخته، وبلمح البصر يرفع مهدي مسمار الأمان، ودون أن يلتفت إلى الوراء يرمي القنبلة ويرتمي على الأرض فتنفجر القنبلة، فتصيب اثنين منهم، فقتلت أحدهما وجرحت الآخر، أما الذي قتل فهو عنصر مخابرات كان مع مهدي في مدرسة ابن رشد في حماة، وهو الذي وشى به للسلطة.
وفي هذه الحال يهرع أحد المجرمين من عناصر المخابرات، فيغدر بالأخ مهدي بضربة بعقب المسدس على رأسه، ومن خلفه فيقع البطل على الأرض مغمياً عليه، ويحمل مجندلاً إلى السيارة، غير أنه عاد إلى وعيه، وقد أمسك به الجبناء من كل جانب ويتذكر أن بحوزته أوراقاً تحمل مخططاً لتحرير سجناء المزة، فيخرج قداحة غاز كانت معه، وينحني على الأوراق ويشعلها بينما يقوم الجبناء بضربه فيتظاهر لهم بالموت ثم سرعان ما انقض على أحد العناصر، وسحب منه سلاحه، وأطلق عليهم النار حتى انتهت ذخيرته وحاول الهرب من السيارة فهرب باتجاه الشارع المؤدي إلى باب توما على مسافة 500 متر، ولكن الطوق الذي حوصر به والدم الذي ينزف من رأسه حال دون تمكنه من الإفلات فألقوا القبض عليه مرة أخرى، وأخذوه إلى المستشفى للعلاج لعلهم يستطيعون أن يأخذوا منه شيئاً، ويسوقونه إلى السجن وهم فرحون باعتقاله كأنهم حرروا الجولان، أو حرروا فلسطين ولم يعلموا أن أقدار الله خبأت نصراً آخر لمهدي، يشهد له فيه كل أبناء الشعب على جرأته الجريئة، وقلبة الحديدي، الذي لم يعرف الخوف إلا من الله عز وجل. فيا اخوتي.
لا تحزنوا لمجاهدٍ أدمت معاصمه القيود
فالقيد في أيديه من خلف الحواجز والسدود
يحدو قوافل زحفنا يسمو بأرواح الجنود
يزرع بمن أرضى الجفون على القذى خوف الرعود
يختط درب الصاعدين إلى العلا نعيم الصعود
ولئن كانت حياة مهدي بما فيها من مآثر وبطولات قد غابت عن بعض أبناء شعبنا السوري، الذين طالما سمعوا عن تضحياته وإقدامه وعن قلبه الذي لم يعرف الخوف إليه سبيلاً، أن المحكمة الصورية المهزلة، التي أعدتها السلطة له ولإخوانه الأطهار من شباب الإخوان المسلمين وعقدت بتاريخ 23/6/1979م وكانت أحكامها قد أبرمت من حافظ، والتي أرادها إدانة أمام الشعب، فخاب فألهم فكانت بمثابة القنبلة التي انفجرت في وجوههم حينما تصدى لهم مهدي ويكاد يكون أصغر المحكومين سناً فيرد على الأجير فاير النوري رئيس محكمة الأمن القومي بكل جرأة وبقلب حديدي لا يعرف الجبن والخور، مُظهراً عزة المسلم، مبرهناً للطغاة أنهم لا يستطيعون أن ينالوا من عزيمة وإيمان المجاهد ما دام قد آمن بأن الموت في سبيل الله أسمى أمانيه.
إن الذين رأوا مهدي من أبناء الشعب السوري على شاشة التلفزيون السوري، وهو يرد على الحاكمين الظالمين بهذه الوقفة الإيمانية، يكادون لا يصدقون ما يرون بأعينهم لعظمة الموقف، لأن أحكام الإعدام قد صدرت مسبقاً ومع ذلك يقف مهدي وقفة الرجال الرجال، يرد الصاع صاعين، ويستهزئ بالمبعوثين المأجورين الذين يعقدون هذه المسرحية أمام الشعب لكن مهدي لم يدعها تمر وهو يعلم أنه ليس بينه وبين حبل المشنقة سوى أيام قلائل بل سويعات.
إن هذه الوقفة الإيمانية من الوقفات التي لن يعهد لها الجيل المعاصر مثيلاً إلا لدى أبناء العقيدة الإسلامية الصحيحة الذين تربوا إيمانياً وخلقياً واجتماعياً وسلوكياً في أحضان جماعة الإخوان المسلمين في هذا القرن.
وفي داخل سجن (السادات)، وضع مهدي داخل زنزانة مُكَّبل اليدين، وهي ضمن قبو فيه عدد من الزنازين والمهاجع أوصدت جميعها بباب حديدي، إضافة إلى باب خارجي.
ويستطيع مهدي بما أوتي من فطنه أن يفك قيد يديه، وأن يفتح باب الزنزانة بطريقته الخاصة، وخرج إلى الشباب في الزنازين والمهاجع يقول لهم: هيا يا شباب هيا لنخرج ونهجم عليهم، فسمعه أحد الخونة واسمه غالب كنعان من مدينة حماة، فصاح في الحرس بأن الإخوان المسلمين سيفرون من السجن، وعلى الفور عاد مهدي إلى زنزانته لتواتيه فرصة أخرى.
تعال معي أخي القارئ لنقرأ ما قاله مهدي لفايز النوري عندما سأله:
- لماذا قتلتم هؤلاء الذين قتلتموهم؟ وما ذنبهم!
فيجيب مهدي وبكل بساطة واطمئنان غير آبهٍ للجموع والأزلام والإعدام:
- إجرامهم أنهم عناصر مؤيدون (للسلطة)، أنا ما عندي أي تفريق بين أي عنصر من عناصر السلطة من المجند إلى رئيس الجمهورية.
أخي إنني اليوم صلب المراس أدك صخور الجبال الرواس
وإن طوقتني جيوش الظلام فإني على ثقة بالصباح
أي شجاعة هذه، وأية جرأة، مهدي أسير أعدائه، ومع ذلك لا يترفق.. لا يسترحم.. لا يستعطف.. بل يهاجم، ويهاجم حتى رأس الأفعى حافظ أسد، لأنه تربى وآمن بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك. وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف".
نعم لقد هدي مهدي لكل هذه المعاني قبل وأثناء المحاكمة الجائرة، وصدق الله إذ يقول: "إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون".
رئيس المحكمة: هل أنت جريح؟
مهدي: أصبت ببعض الشظايا.
ويسأله رئيس المحكمة: مَنْ عالجك؟
مهدي: عالجني مستشفى المواساة.
النوري: كيف كانت معاملتهم لك؟
مهدي: حسنة.
فيكمل فايز: وهم من عناصر السلطة.
ولا يدع مهدي الفرصة للمجرم لكي يصطاد في الماء العكر، فيقاطعه قائلاً: "لكنهم عاملوني معاملة حسنة لأجل أن يكسبوا شيئاً من المعلومات عن التنظيم بشيء".
وهاكم مزيداً من محاكمته التي رآها وسمعها أبناء سورية كلها:
فايز النوري: طيب يا مهدي أنت دائماً كنت تصدق ولحد الآن تقول الحقيقة، فهل يعقل أن واحداً يراقب ولا يعرف من ينفذ؟!
مهدي: إي فعلاً.. ليش؟ لأني أنا قاعد بتنظيم سري ماني قاعد بخان ولا شيء، قاعد بتنظيم سري..!!
النوري: مين كان يدربكم على إطلاق النار!
(يسأله الأوباش هذا السؤال وكأنهم لم يدروا ولم يسمعوا من الناس أن مهدياً نشأ والمسدسات تلعب بين يديه).
مهدي: أنا مدرب لحالي من صغري.. أطلق النار لحالي.
النوري: طيب الناس الذين قتلتوهم.. ما هو ذنبهم؟
مهدي: إجرامهم أنهم عناصر مؤيدون للسلطة أنا ما عندي أي تفريق بين أي عنصر من عناصر السلطة من المجند إلى رئيس الجمهورية.
وهنا في هذا السؤال الذي سأله الحاكم الأجير، كان يريد به الإدانة والوقيعة بين الشعب والإخوان المسلمين، فلم يكن رد الفعل إلا تصفيقاً حاداً لمهدي، وحَيَّته الجماهير المسلمة بقلوب مؤمنة عرفت من هم الإخوان المسلمون، وما هو تاريخهم الناصع مع الدعاء له بالحفظ ومع شدة الإعجاب بجرأته في هذه الإجابة الواضحة والصريحة.
النوري: أما تعتقد أن هذا العمل يخدم إسرائيل؟
مهدي: لا.. لا يخدم.
النوري: كيف لا يخدم؟! نحن قبل أن نصفي إسرائيل نصفي وطننا من العملاء بعد ذلك نصفي إسرائيل.
أجاب مهدي على كل هذه الأسئلة ببساطة وكأنه يجري امتحاناً في مدرسة من المدارس الحكومية دون أن تختل مشاعره أو يرجف له قلب أو تلين له عزيمة، بل كان يجيب عليها بكل قوة المسلم ورباطة جأشه وعناده، و (رحم الله امرءاً أراهم من نفسه قوة).
عجباً! كيف كان موقف الجماهير على امتداد سوريا من شمالها إلى جنوبها ومن غربها إلى شرقها، بنسائها وأطفالها ورجالها وشيوخها التي رأت مهدي وهو يقف في قفص الاتهام هذه الوقفة على شاشة التلفزيون التي لا يعدلها كل تجمع الأزلام حول رأس النظام حافظ!؟
لقد صفقت له القلوب قبل الأيدي، وحياه الشعب على قوة عزيمته وإيمانه الذي لا تردد فيه، وعلى شجاعته التي أرهبت الطغاة، فأخرست ألسنتهم وأفشلت ما كانوا برمون إليه من تقديمه للمحكمة الجائرة.
ويصدر حكم الإعدام بحق ثمانية عشر مؤمناً رفضوا الخنوع للسلطة، ومضت قافلة الكتيبة الرائدة على أرض سوريا، مضت قافلة من قوافل الشهداء التي جادت بها دعوة الإخوان المسلمين وما أكثر ما جادت.. هذه مواقف مهدي في المحاكمة العلنية، فيا ترى ماذا صنع مهدي في المحاكمة السرية؟
بعد أن استعاد مهدي شيئاً من العافية، وضمدت جراحه، جاؤوا به إلى مبنى المخابرات العامة (أمن الدولة) وجاء ليراه ويحاوره ويذله كل من المجرمين: رفعت أسد وعدنان الدباغ (وزير الداخلية حينئذٍ وعلي دوبا ومحمد ناصيف، وتركي علم الدين، ومحمد الخولي، ونزيه زرير، وفايز النوري، وعلي سعد الدين).
سأله فايز النوري:
- لماذا تقتلون العلويين وهم مواطنون صالحون؟
أجاب مهدي:
- نقتل المجرمين منهم.
فما كان من وزير الداخلية العميد الهالك عدنان دباغ إلا أن يصفع مهدي المكبل بالقيود.
التفت مهدي إلى الوزير وقال وهو يشير إليه وإلى فايز النوري وعلي سعد الدين:
- انتظروا دوركم يا كلاب.. بكرا جاي دورك يا دباغ ويا كلاب حافظ أسد.
اقترب رفعت منه قليلاً وقال:
- صار لي سنتين وأنا بدوّر عليك يا سيد مهدي.
فأجابه مهدي بعنفوان ساخر:
- وأنا ما تركت قرنة في الشام إلا وفتشت عنك فيها يا سيد رفعت، لكن الله كريم.. إذا احسنتوا تقتلوا مهدي اليوم، فراح يطلعلكم ألف مهدي بكرا يا كلاب..
ثم تحدث مهدي في هذه المحاكمة عن تنكيل السلطة بعائلته التي هي من أولى العوائل التي نكلت بها السلطة وصبت جام غضبها عليها، بالرغم من مقاطعة الحاكم المتكررة له، فتحدث عن قتل السلطة لأخيه غزوان، واعتقال أمه لمدة سنة ونصف، وكذلك اعتقال إخوته الصغار والكبار، وملاحقة أخيه زكريا وعمر، ومصادرة أملاك عائلته، واعتقال زوج أخته المقيم في دمشق.. وقال:
- الصاع بصاعين يا بيت الوحش.. والبادي أظلم.
لقد هزت هذه الكلمات والمواقف التي تدمي القلب وتعتصر الفؤاد مشاعر الحضور من الشرطة، فعرض عليه أحدهم وهو في قفص الاتهام بندقيته ليقتلهم جميعاً، لكن مهدي أشفق على الشرطة وأجابه: لا.. فقط.. القيود تعيقني..
لكن عبير البطولة يظل يعبق منه حتى النفس الأخير، وهو على مشارف الوداع، ويتبدى ذلك في طريقة تلقيه الحكم بالإعدام، فهو أبداً لم يتلقه بالبكاء.. ولم يتلقه باصفرار الوجه، ولا بالاسترحام، فعزة المسلم تأبى عليه ذلك وهي أجل من أن تسترحم الباطل.
ابتسم مهدي وهو يواجه حكم الإعدام وثغره يفتر بابتسامة راضية بقدر الله لم تكن إلا بسمة اليقين..
وما هي إلا بسمة التحدي للباطل، وهو يزهو وينتعش..
وما هي إلا بسمة الاستخفاف بكل جبروت الطغاة..
ابتسم مهدي، وبكته الحرائر من نساء أمتنا وقَدَّرَ الرجال وقفته، وعلى مثل مهدي فلتبك البواكي..
ابتسم مهدي لأنه آمن أنه لن تموت نفس حتى تستكمل أجلها ورزقها ولأنه عرف بداية الطريق وعرف مساربه ووعورته كما عرف نهايته، فهو كفاح وجهاد وأشواك ثم شهادة يرتفع بها عند الله وهي أسمى ما تمناه، وأغلى ما سعى إليه مهدي، ودعا بها إخوانه.
مضت الكتيبة الرائدة الهادية التي آثرت لغة الرصاص، لأنها اللغة الوحيدة التي لم يدع، ولم يفهم الطائفيون إلا بها.
لقد عاش مهدي عزيزاً طوال حياته، ومضى عزيزاً إلى ربه ولم يطأطئ رأسه لأحد إلا الله.
ويهتز سجن القلعة بدمشق، وهو يودع خمسة عشر مجاهداً من خيار شباب هذه الأمة، ويعلو صوتهم هادراً بالتكبير، فيخشع السجن لصلواتهم وتكبيراتهم وهي تدوي في جنبات الزنازين والمهاجع: "الله أكبر.. ولله الحمد.. الله أكبر ولله الحمد".
لقد كان مهدي سادس ستة من أعضاء الكتيبة الصامتة المتقدمة، بعد الشيخ المجاهد مروان حديد وهم: "عبد الستار الزعيم، وهشام جنباز، وبسام أرناؤوط، وعمر مرقة، وفيصل غنامة، ثم مهدي) هذه الفئة المؤمنة المجاهدة التي استنهضت همم المجاهدين، واختطت الطريق الشائل المستقيم، وهزت أركان السلطة الطائفية، التي كانت ترتعد فرائصها لمجرد ذكر اسم واحد من هؤلاء المجاهدين، لما لاقوا من شدة بأسهم وثباتهم وشجاعتهم.
قام مهدي وإخوانه للصلاة، وأرادوا الوضوء فحالوا بينهم وبينه، فتيمموا صعيداً طيباً وبعد أن صلوا صلاتهم تقدمهم الدكتور حسين خلوف والتكبير يهز الأجاء من حولهم: الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.. وفي كان آخر ترفع المشانق للمواكب، ويقف الإخوة جميعاً.. ويقف مهدي وأخوه عمر مع ابن أختهما خالد، ليواجهوا حكم الإعدام، ويطلب مهدي جرعة ماء قبل الصعود إلى المشنقة، فيلتفت إليه عمر قائلاً: إي أخي لا تشرب سنشرب في جنة الله، ويستبشر مهدي بذلك فيصعد عمر، ويصعد مهدي، ويواجه الموت بابتسامة الرضى بقدر الله، نعم يصعد الإخوة والإخوان متجاورين، ويُكلل وداعهم ويزفُّ رحيلهم نداءاتُ التكبير والتهليل، ونظرات وداع مؤقتة يلتقون بعدها في الجنة بينما يزفهما ابن أختهما خالد بالتكبير ويمضي بعدهم خالد، وهم يتأرجحون بل يتألقون في عليائهم، مشاعل هادية تحت ظل العرش، ويمضي الركب وتمضي الجماعة المؤمنة إلى ربها راضية مرضية على طريق حسن البنا وسيد قطب، ومروان حديد، وأحمد زلف، وصبحي عثمان، حيث الأحبة محمد وصحبه.
رحمك الله يا مهدي، ورحم إخوانك لقد بكتك الحرائر من نساء سورية بدموع ساخنة غزار، وخلدت ذكراك في القلوب والأسماء، واتخذ الرجال مثالاً في الشجاعة.
بالله يا مهدي، كم أنت جريء وجريء..؟ وكم يتصاغر المجرمون أمام عينيك؟!..
لله درك: كنت لا تعرف مداهنة للباطل، قضيت أربعة وعشرين ربيعاً من حياتك في مناجزة الطغاة، ولم أرك يوماً لنت أو تهاونت معهم، فلم تجد ريحاً أطيب من عبق البارود، ولا أجمل لحناً من أزيز الرصاص، وزغردة القنابل تلعلع في سبيل الله.. تتصدى للمهمات الخطيرة بلا تردد ولا مبالاة، وأنت تعرف ماذا قد تَجِرُّ عليك من المحن والأخطار، بيد أنك كنت تلبي نداء الله تعالى.
ولئن قضيت يا مهدي نحبك، لقد زرعت ألف مهدي على ثرى الشام الحبيب.. هنيئاً لك ولإخوانك بضيافة الكريم لكم، فقد صدقتم العهد مع الله وجاهدتم في الله حق جهاده، وعهداً على الطريق، طريق الجهاد أو نثأر لك ولإخوانك الذين لحقوك حتى تطهير آخر شبر من أرض الإسلام وإعلاء راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فوق كل رابية من روابي الوطن الأكبر.
"من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً"..
وسوم: العدد 707