الحسن البصري، نجم الحكمة والزهد
هو أبو سعيد، الحسن بن يسار
أبوه أبو الحسن / يسار، كان مولى للصحابي الجليل زيد بن ثابت.
وأمّه خَيْرَة مولاة أم سلمة هند بنت سهل زوج النبي صلى الله عليه وسلم.
وكأنّ الحُسْن واليُسْر والخير قد اجتمعت فيه، فكان جميل الطلعة، يحب الخير واليُسْر لعباد الله.
وأبناء الموالي كانوا حتى عهد قريب، في الجاهلية، يعامَلون مواطنين من الدرجة الثانية، وأما في شريعة }إن أكرمكم عند الله أتقاكم{ فقد أصبح ابن الموالي الحسن البصري سيد التابعين، ومن أعظم سادات المسلمين على مر التاريخ.
عندما وُلد الحسن سنة ثلاثين للهجرة، استبشرت بولادته أم المؤمنين أم سلمة، لأن التي أنجبته إنما هي مولاتها خَيْرة. وكانت خيرة محببة لديها. فأرسلت إليها لتقضي هي ووليدها فترة النفاس في بيتها، فكان هذا مفتاح الخير لهذا الوليد حتى يحظى برعاية أم المؤمنين وتربيتها، فلقد أطلقت عليه هذا الاسم الحسن، ودعت له بدعوات صالحة، وعاش في حِجْرها... وكثيراً ما كانت أم الطفل تخرج من البيت لبعض حاجاتها ويبكي الطفل فتلقمه أم سلمة ثديها لتهدئه، وبذلك تكون أمه في الرضاع!.
وكانت فرصة رائعة لهذا الطفل أن عاش بين أمهات المؤمنين، ينهل من علمهن وحكمتهن وتقواهن وأخلاقهن... كما أتيح له أن يتتلمذ على أيدي كبار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب وأبي موسى الأشعري وعبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك وجابر بن عبد الله...
لكنّ وَلَعَه بأمير المؤمنين علي بن أبي طالب كان هو الأشدّ، فقد مَلَك عليه نفسه بصلابته في الدين، وإحسانه في العبادة، وزهده بحطام الدنيا، فضلاً عن بلاغته وفصاحته وحكمته وخطابته وسُموّ أخلاقه!. وكأنه اتخذ عليّاً مثلاً أعلى له، فظهرت صفات علي في شخصية الحسن!.
ولما بلغ الحسن الرابعة عشرة من عمره انتقل مع أبويه إلى البصرة، وعُرف بعدئذ بالحسن البصري.
وكان مسجد البصرة يعجُّ بحلقات العلم التي يتصدرها كبار الصحابة والتابعين، فكان الحسن لا ينقطع عن هذه الحلقات، لا سيما حلقات حَبر هذه الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فأخذ عنه التفسير والحديث والقراءات والأدب والفقه... حتى غدا من أعلم الناس، وأحكم الناس، وأتقى الناس، وأزهد الناس.
وجعل الخلفاء يتساءلون عن أخباره. من ذلك أن القائد الأموي مَسْلَمَةَ بن عبد الملك سأل خالد بن صفوان: أخبرني عن حَسَن البصرة فإنك تعرف من أمره ما لا يعرفه سواك!.
قال خالد: الحسنُ امرؤٌ سريرتُه كعلانيته، وقولُه كفعله، إذا أمر بمعروف كان أعملَ الناس به، وإذا نهى عن منكر كان أترك الناس له. ولقد رأيتُه مستغنياً عن الناس، زاهداً بما في أيديهم... ورأيتُ الناس محتاجين إليه، طالبين ما عنده.
ولما ولي الحجاج أمر العراق، وظهر طغيانه، كان الحسن البصري أحد الرجال القلائل الذين تصدَّوا له، وواجهوه بكلمة الحق. من ذلك أن الحجاج بنى لنفسه قصراً ودعا الناس للتفرّج عليه.. فخرج الحسن ووقف في جموع الناس، وقال:
"لقد نظرنا فيما ابتنى أخبث الأخبثين، فوجدنا أن فرعون شيَّد أعظم مما شيَّد ثم أهلك الله فرعون... ليت الحجاج يعلم أن أهل السماء قد أبغضوه، وأن أهل الأرض قد غرُّوه!..."
ومضى الحسن في كشف طغيان الحجاج حتى أشفق عليه أحد الحاضرين، فقال الحسن: لقد أخذ الله الميثاق على أهل العلم ليُبيِّنُنَّه للناس ولا يكتمونه!.
وفي اليوم التالي جمع الحجاج حاشيته وراح يوبّخهم أن لم يُسكتوا الحسن، ويضعوا له حدّاً!. وهدّد بقتل الحسن وأعدَّ السيف والجلاد، وأرسل جنده فأحضروه. ودخل الحسن وعليه جلال الإيمان ووقار الداعية الذي زهد بالدنيا وزخرفها... فأوقع الله مهابته في نفس الحجاج حتى إنه راح يوسّع له في المجلس، ويَجلس أمامه جِلسة التلميذ، يسأله عن بعض أمور الدين... ثم قال له: أنت سيد العلماء يا أبا سعيد!.
ومن ذلك أن يزيد بن عبد الملك ولّى على العراق عمر بن هبيرة. وبعد حين دعا ابنُ هبيرة الحسنَ البصري ليسأله: إن أمير المؤمنين يزيد يُرسِل إليّ كتباً يأمرني فيها بإنفاذ أمور لا أطمئن أحياناً إلى عدالتها، فهل لي في متابعتي إياه مَخْرَجٌ في الدين؟!.
فقال الحسن: يابن هبيرة، خَفِ الله في يزيد، ولا تخف يزيد في الله! واعلم أن الله عز وجل يحميك من يزيد، وأن يزيد لا يحميك من الله. واعلم أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق...
فبكى ابن هبيرة وبالغ في إعظام الحسن وإكرامه!.
وبمواقف الحسن هذه، وبمآثره وعلمه وحكمته وزهده وتقواه كان من أعظم سادات التابعين، وتناقلت الأجيال الحِكَم العالية التي نطق بها. ومن ذلك:
- "لا يزال الرجل كريماً على الناس حتى يطمع في دنياهم، فإذا فعل ذلك استخفّوا به، وكرهوا حديثه وأبغضوه".
- "يا بن آدم، إن مثل الدنيا والآخرة كمثل المشرق والمغرب، متى ازددت من أحدهما قرباً، ازددت من الآخر بعداً".
- إنّ مَنْ خوّفَك حتى تلقى الأمن، خير ممّن أمّنكَ حتى تلقى الخوف".
- "الواعظ من وعظ الناس بعلمه لا بقوله".
- "لله درُّ الحق! كانت دُرَّة عمر رضي الله عنه، أهيب من سيف الحجاج".
ولهذا كله كثر ثناء أهل الفضل عليه
قال أبو بردة: ما رأيت أحداً أشبه بأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
وقال أبو قتادة: الزموا هذا الشيخ فما رأيت أحداً أشبه بعمر منه.
وقال عوف: ما رأيت رجلاً أعرف بطريق الجنة من الحسن!.
وقال الأشعث: ما لقيت أحداً بعد الحسن إلا صَغُر في عيني!.
***
في ليلة الجمعة مطلع رجب سنة مئة وعشر للهجرة توفي الحسن، وشاع نبأ وفاته، وارتجَّت البصرة للنبأ، فغُسِّل وصُلِّي عليه بعد الجمعة، ثم تبِعَ الناس جميعاً جنازته، فلم تصلَّ العصرُ في ذلك اليوم في جامع البصرة، لأنه لم يبق فيه أحد يقيم الصلاة. ولا يُعلم يوم عُطِّلت الصلاة في جامع البصرة إلا ذلك اليوم.
رحم الله الحسن البصري ورضي عنه، وألحَقَنا به في الفردوس الأعلى.
وسوم: العدد 719