من أنت

النهار السوري - رئيس التحرير . 

سؤال طالما تعرضت له مئات المرات سواء بمصادفات ولقاءات عابرة في الطريق أو بوساطة الهاتف ومنذ أيام التقيت شاباً في مستهل الثلاثينيات من عمره

الفتى استوقفني محيياً وباسماً ومسارعاً إلى تقبيلي رغم أنني لا أعرف عنه شيئاً وأؤكد بأنني أراه لأول مرة ثم ابتدأ حديثه قائلاً: (أقسم لك بأنني أحبك وأحترمك وأقرأ لك باستمرار في الصحف والمجلات كما قرأت كتبك الأربعة عن وحدة الوجود في الفلسفة والتصوف وحتى هذه اللحظة لا أكاد أعرف بالدقة من أنت ولست القارئ الوحيد الذي يريد أن يعرف من أنت فهلا تكرمت بحل هذا الإشكال لي ولغيري مشكوراً) .‏

فقلت له: سيكون لكم ذلك بإذن الله .‏

وها أنذا أجيب بالاختزال الممكن .‏

الإنسان‏

كان الإنسان وما زال وسيبقى سجين دائرتي الزمان والمكان بغض النظر عن دوره الفاعل في الأرض وذلك باعتباره سيدها والموكل بإعمارها وما الفتوحات العلمية المذهلة على صعيد الاتصالات مع إطلالة القرن الواحد والعشرين إلا تأكيد للضخ العبقري الذي يمتلكه الإنسان إذا ما أتقن أبجدية هذا الحضور المعرفي ووظفه توظيفاً معقلناً .‏

ومن يدري فقد يأتي يوم يتمكن فيه الإنسان من اختراق الفضاءات النائية وصولاً إلى كواكب جديدة خارج المجموعة الشمسية وحتى ما بعد مجرتنا هذه اجتياحاً لمجرات أخرى وقد يلقى كائنات حية وعاقلة كما قد تكون أكثر تقدماً علمياً منا نحن أبناء الأرض بل أكاد أجزم بوجود كائنات عاقلة ومتميزة عنا بما يدعو إلى الذهول .‏

لكنما بالرغم من ذلك سيبقى الإنسان أسير الزمان والمكان ومن شأن هذه المسلمة التأكيد بأننا نحن البشر موكولون بتحقيق حضورنا في الزمان والمكان معاً وبما أن الأزمنة متلاحقة فهذا يعني أن كل أبناء حقبة زمنية يقع على عاتقهم ترك بصمات في الزمن الذي يعاصرونه هذه واحدة .‏

أما الثانية فإن المكان الذي يحتوينا أو يخيل إلينا بأننا نحتله ممثلاً بالأرض هو مجموعة جغرافيات وبالتالي فإن مهمة كل التشكلات البشرية تتمركز في تحقيق حضورها في الجغرافيا التي تسكنها أولاً ومن ثم المساهمة في تطوير الأقاليم والقارات التي تشكل قريتنا الصغيرة الأرض .‏

أما ثالثة الأثافي فتكمن في السؤال المخيم علينا نحن أبناء هذا الامتداد الجغرافي والمنسوج بتاريخ مشترك ولغة واحدة وثقافة لها خصوبتها وقدرتها على التواصل بين الأرض والسماء .‏

وسيساهم كل أو بعض الباحثين بتقديم الإجابات التي يرتضيها وهذا يجعلني أطلب منكم السماح لي بتقديم رؤيتي المتواضعة .‏

أنا مواطن‏

وأنا كمواطن أراني منطلقاً من دوائر ثلاث إنسانية وعربية وسورية دوائر متماسكة متعانقة متجانسة وعبر هذه الدوائر المتجانسة المتماسكة أجدني محكوماً علي بحتمية التحليق في أجوائها كلاً وتفصيلاً وعدم الخروج من أفلاكها لأن تجاوز أي واحدة منها يعني بالضرورة تحقق خلل في بنية التركيب النفسي والعقلي من جهة كما في بنية التركيب التاريخي والاجتماعي لي كمواطن .‏

1- الدائرة الإنسانية:‏

تتمثل الدائرة الأولى في هويتي الأساسية منذ بدء البدء ... عنيت بذلك هويتي كإنسان وهذه الهوية تجعل مني مواطناً على سطح هذه الأرض لي مثل ما لكل واحد من أبناء القارات الخمس وعليَّ مثل ما على كل هؤلاء وبالتالي فإن الخروج من هذا الانتماء للإنسانية جمعاء يحقق لي نفياً كلياً لأساس وجودي الحقيقي كإنسان مخلوق على هذا الكوكب السابح في الفضاء ومحكوم عليه التفكير والتأمل والتفاعل من خلاله وهذا الخلل عنيت به الانسحاب من دائرة الانتماء الإنساني سقط فيه ذووا التوجهات الأنانية والشوفينية وأتباع الهوى وقد تمثل ذلك في العصر الحديث بـ:‏

أ- المركزية الأوروبية: والتي غدت اليوم مركزية غربية بعد أن أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية قطباً أحادياً يعمل على صياغة سكان الأرض وفقاً لنواياه الشريرة .‏

ب- التوجهات التي نسجتها الهتلرية والموسولينية والتي تطلعت إلى التحكم بالعالم من خلال أوهامها التفوقية على الأمم والشعوب الأخرى .‏

ج- الرؤى العقائدية المرضية التي استهدفت تحطيم أركانها الإنسانية خروجاً من انتمائها الأصلي والأساسي لها وكمثال على ذلك أشير إلى الشيوعية وتطلعها إلى مركسة التاريخ والحاضر والمستقبل والصهيونية التي قدمت نفسها شعباً مختاراً له الحق في الهيمنة على الآخرين كذباً على الله والتاريخ وحركات التطرف الإيديولوجي سواء من المتطرفين المسيحيين الذين يريدون تنصير العالم أو المتطرفين الإسلاميين الذين يريدون أسلمة العالم وهؤلاء كلهم يرتدون قمصاناً وهمية وكاذبة معاً وأود القول هنا بأن الحركة الصهيونية تشوه موسى عليه السلام وتسيء إلى توراته والبروتستانية اليهودية التي يحمل لواءها البيت الأبيض تكذب على السيد المسيح عليه السلام وتسيء إلى إنجيله كما أن حركات التطرف الإسلامي التي تمارس أحكاماً غير معقلنة وتصدر فتاوى ما أنزل الله بها من سلطان في كل مكان هي الأخرى تفتري على محمد عليه السلام وتسيء إلى أبجدية القرآن محققة انحرافات خطيرة في آياته البينات .‏

وبالتالي فهؤلاء كلهم خلعوا ثوبهم الإنساني كما وصفّهم الوحي فأحسن توصيفهم في الآية التاسعة والسبعين بعد المئة من سورة الأعراف "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" .‏

2- الدائرة العربية:‏

بيد أن الدائرة الإنسانية التي أطوف في أفلاكها لا تصادر انتمائي الثقافي والتاريخي واللغوي على الإطلاق فأنا عربي ومحكوم علي أن أكون عربياً بغض النظر عن انحداري من هذه السلالة أو تلك أنا عربي سواء أكنت من أصول قحطانية أو عدنانية أو سريانية أو فينيقية أو آشورية أو بربرية أو تترية أو آرية أو كردية أو تركمانية إلى آخر ما هنالك .‏

أنا عربي ما دمت أنضوي تحت مسارات تاريخية وثقافية وجغرافية وأتكلم العربية وقد أوضح ذلك خاتم النبيين بقوله: "من تكلم العربية فهو عربي" فجاءت مقولته هذه مجسدة الحكمة وفصل الخطاب ودرءاً لكل المطبات والأخاديد التي حفرتها التوجهات الاستعمارية أو السرطانات العنصرية وكما أنا إنساني جداً كذلك أنا يعربي جداً .‏

3- الدائرة السورية:‏

وبحكم الظروف والمناخات التي أعيشها وأتظلل بظلالها الآن فأنا سوري يتوجب علي التحرك حالياً في إطار هذه الجغرافيا سعياً إلى تحويل وتطوير هذا التحرك وصولاً إلى التضامن والعناق مع دائرتي العربية دون الإساءة إلى انتمائي الإنساني ولاسيما أن هذه الدائرة السورية تمتلك امتيازات متعالية جداً بدءاً من كونها الشق الغربي للهلال الخصيب الذي كان المنطلق الأول للحضارات الأولى ولأن سورية صاحبة الأبجدية الأولى وناشرة الرحيق الحضاري في العالم أجمع إلى درجة رفع فيها فلاسفة التاريخ وعلى رأس الهرم منهم المفكر الفرنسي أندريه بارو والمؤرخ البريطاني أرنولد تونبي والباحثون الغربيون شعاراً قوامه: (لكل مواطن في العالم وطنان وطنه وسورية) .‏

النهار السوري - رئيس التحرير د.محمد الراشد

من أنت 2/2

وفقاً لتلكم الدوائر والمنطلقات أحدد مساري الثقافي من كوني أؤمن بالإسلام عقيدة سامية كما رسمها الوحي عبر آيات الذكر الحكيم منذ أسلمت وجهي لله رب العالمين الذي عقلن إنسانيتي : / يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى * وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا * إن أكرمكم عند الله أتقاكم * إن الله عليم خبير / كما جاء في الآية الثالثة عشرة من سورة الحجرات وهي سورة مدنية من أواخر ما أنزل ، مما يؤكد الانتماء الإنساني القطعي لكل مسلم والذي يفرض عليه التواصل مع كل البشر .. تواصل وجداني ومعرفي وتعاون على تحقيق إنسانية الإنسان التي شخصها النبي العربي / ص/ بمقولته الخالدة / الإنسان أخو الإنسان أحب أم كره ، والخلقُ عيال الله ، وأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله / .

وهذا لا يفترض التبادل الحضاري فحسب وإنما يرتقي إلى حتمية تحقيق المناخ الصحي لكل مواطن سوري بغض النظر عن الدين والجنس واللون بأن يمارس أبجدية الحياة الكريمة بكل ألقها وصفائها .. الأمر الذي يجعل حق الاختلاف وحق التعايش المشترك قانونين أساسيين في المجتمعات الإسلامية ولو كره المتطرفون .. ولو مكر المستعمرون .‏

ولهذا أحمل قناعة مطلقة بأن / مفهوم الآخر / كمنطلق عدواني مرفوض كلاً وتفصيلاً وفقاً لأبجدية القرآن ، فالمسيحي واليهودي والهندوسي والبوذي والزارادشتي والماركسي والإمبريالي تشملهم الدائرة الإنسانية بعبق الحب والتعاون والتعارف والعمل المشترك لإعمار الأرض وتحقيق الأمن والحب والسلام في كل مكان ، وهذا يؤكد حتمية التبادل والترابط الثقافي بين البشر كلهم بدءاً من الوطن وامتداداً وشمولاً لكل الأقاليم والجغرافيات .‏

ليس هذا فحسب ، بل إن أبجدية القرآن تفرض عليّ الترابط والتواصل الثقافي ومد بساط الحب والأمن والسلام مع كل الانتماءات والتوجهات ما دام قد أسس لحق التعايش المشترك وحق الاختلاف ، وفي اللحظة التي أحقق فيها فيصلاً بيني وبين من أختلف معهم في الدين أو الاعتقاد أو الجنس ألغي قانوني حق الاختلاف وحق التعايش وأكون قد حققت انحرافاً عن منطق القرآن أولاً وأسأت إلى حسي الوطني ثانياً .

ولهذا أقدم لكم نفسي بأنني مسلم أعلن إخائي لكل من آمن بالله رباً وبالقرآن وحياً وبمحمد رسولاً ، وأضرب بكل التوجهات الطائفية عرض الحائط .‏

وأقدم نفسي عربياً معلناً إخائي لكل الناطقين بلغة الضاد مقدماً ما في وسعي تقديمه للأمة العربية جمعاء .‏

وبنفس الوقت .. وبنفس المنطق .. وبنفس المقدار .. أعلن بأنني مواطن سوري مؤكداً استعدادي المطلق لتقديم كل طاقتي وانتهاء بدمي دفاعاً عن سورية وعن كل سوري ليحقق حضوره الوطني وليمارس قناعاته العقائدية وليؤكد بأنه ابن أرض حملت مشعل الحضارة منذ بدء البدء وأنها كانت وما زالت وستبقى صاحبة القول الفصل في كل القضايا والمحاور الأساسية في غرب آسيا وشمال أفريقيا لأن التاريخ أكد من قبل ويؤكد اليوم بأن أية رؤية عقائدية أو نظرية أيديولوجية كما أن أي حضور اقتصادي أو سياسي أو عسكري سواء في الشمال الإفريقي أو المغرب الآسيوي لا يمكن أن يوجد أو يستقيم تاريخياً ما لم ينل إشارة خضراء من سورية ولعل هذا ما حدا بالتحرك الإسلامي العربي الحضاري ممثلاً ببعث أسامة بن زيد تلقاء سورية وبأوامر حاسمة من الرسول الكريم قبل قصم ظهر الفتن في شبه الجزيرة العربية التي أججها المفترون أمثال مسيلمة الكذاب وسجاح والأسود العنسي وغيرهم ممن ادعوا النبوة وقبل التوجه إلى أقاليم الجزيرة التي رفضت الانضواء تحت لواء المدينة المنورة وذلك لأن رب العزة علمه أو لأنه عرف بحدسه المتعالي أن سورية التي سوقت الحضارات والأديان السماوية ستسوق الإسلام إلى العالم ، وهذا ما تم فعلاً .‏

ولطالما أثبتت التجربة التاريخية عبر العصور الغابرة والحاضرة إن أي توجه فكري أو عقائدي أو سياسي أو اقتصادي في منطقة الشرق الأوسط مصيره الإخفاق ما لم يأخذ إشارة خضراء من سورية ، وأقرب مثال على ذلك فشل اتفاقية كامب ديفيد في نهايات القرن الماضي رغم الدعم العالمي لها ورغم القوى العظمى التي استهدفت تحقيقها .‏

تلكم هي رؤيتي كمواطن سوري مشدداً على انتمائي لسورية والعروبة والإنسانية جمعاً ومسلّماً وجهي للملك الديان .‏

فهل فيكم من يشاطرني الرؤية لمتابعة المسير ؟ .‏

وهل فيكم من لا يشاطرني الرؤية لأقدم له مواثيق الحب والدفء وحق كل منا في الاختلاف والتعايش المشترك وطنياً وإنسانياً وحضارياً ؟ .‏

تم نشرها على مرحلتين في جريدة الجماهير السورية