عاكف الشهيد.. عاش حرا ورحل كالأشجار واقفا

clip_image001_62118.jpg

- لا تعجب إذا علمت أن عاكف كانت له هيئة استشارية، تضم قامات من مختلف التيارات: الشيوعية، والقومية، والليبرالية، والمسيحية.

- نجح عاكف في إحداث أزمة كبيرة لنظام مبارك، وأظهره أمام العالم أنه نظام مستبد يقمع الحريات، ويعتقل المطالبين بالإصلاح.

- طلبت زوجته أن يسمح لها بزيارته لمدة ساعة يوميا لتقدم له بعض الرعاية لكن المحكمة رفضت طلبها. فما كان منه إلا أن قال لها: لا تبتئسي فالراعي هو الله.

- عاش عاكف بعد إلغاء الحكم بإعدامه في عام 1954 وتأخر استشهاده 63 عاما.

- علمني عاكف أن الحياة موقف، فقد عاش حرا عزيزا قابضا على مبدئه، وكان شعاره:فإما حياة تسر الصديق.. وإما ممات يغيظ العدا.

- ضباط السيسي طلبوا منه - وهو في أشد المرض - أن يلتمس العفو ليفرج عنه: فقال: (لم أفعلها وأنا شاب صغير.. فهل أفعلها وأنا شيخ في التسعين أنتظر لقاء ربي كل لحظة)؟ 

- عرفت الفقيد الكبير محمد مهدي عاكف- المرشد العام السابع للإخوان المسلمين- منذ ثلاثين عاما، واقتربت منه في مناشط عديدة، حيث عملت معه، وسافرت معه، وصحبته في لقاء عدد من الزعماء والشخصيات العربية والإسلامية، تأثرت به، وتعلمت منه الكثير.

- عاكف الذي ولد مع ميلاد جماعة الإخوان المسلمين في العام 1928، والتحق بقافلتها في عام 1940، وقاوم في صفوفها الاحتلال الإنجليزي في مصر، والصهيوني في فلسطين.

عاش عاكف المحنة التي تكررت لمرات، ودفع من حريته ثمنا كبيرا، وشارك في صنع إنجازات الجماعة وانتصاراتها. كان جنديا حارسا لها، كما كان قائدا متقدما لصفوفها في ساحات النزال السياسي.

تبقى حياة عاكف كتابا مفتوحا، يقرأه الأجيال من الإخوان ومحبيهم، لينهلوا من تجربته التي هي بمثابة تاريخ جماعة في سيرة رجل. تصلح لأن يصنع منها فيلما سينمائيا، أو مسلسلا دراميا، وأتمنى أن نجد من يتعاون في هذا الأمر.

إنه (عاكف بيه) كما كان يناديه الأستاذ نجم الدين أربكان، كنت أسمع هذا النداء كلما شرفت بالمشاركة في اللقاءات التي تجمعهما مع قيادات العمل الإسلامي.. تذكرت هذا اللقب وأنا أشارك في صلاة الغائب على روحه في مسجد السلطان محمد الفاتح بإسطنبول، وهو نفس المسجد الذي شارك عاكف في الصلاة فيه على رفيق دربه أربكان.

تذكرته وأنا أتابع أخبار إقامة صلاة الغائب على روحه الطاهرة في كل المدن التركية (81 محافظة)!تذكرته وأنا أتابع الصلاة على روحه في معظم دول العالم، ومجالس العزاء التي فتحت في كل العواصم لتلقي العزاء فيه، بعد أن منعت سلطات الانقلاب المصريين من تشييعه إلى مثواه الأخير، وقرر مشايخ الشرطة في وزارة الأوقاف منع إقامة صلوات الغائب على روحه في مساجد مصر، وتهديد من يفعل بالعقاب. جنازته كانت عبارة عن أرتال من المدرعات والمصفحات التي حاصرت الجثمان حتى أسلمته لباب المقبرة، ولم تسمح قوات الشرطة لأحد أن يودعه إلى قبره إلا لثلاث نساء. زوجته وابنته وحفيدته إضافة إلى محاميه! ويا له من مشهد مشابه تماما لمشهد جنازة مؤسس الإخوان المسلمين الإمام الشهيد حسن البنا، فلم يسمح لأحد أن يمشي في جنازته إلا للسياسي المسيحي الكبير مكرم عبيد باشا، وحمل نعشه والده وثلاث نساء.

في شبابه كما في كهولته أشرف عاكف على قسم الطلاب فكان ذلك النشاط الطلابي الواسع الذي أشعله في جامعات مصر. عملت معه عندما كلّف بالإشراف على قسم المهنيين، فكانت النقابات المهنية التي قادها شباب الإخوان أقوى في تأثيرها السياسي من كل الأحزاب، وفي تأثيرها الاجتماعي والاقتصادي لصالح أعضائها كانت أقوى من الحكومة. وعملت معه في قسم الاتصال بالعالم الإسلامي الذي كان بمثابة وزارة الخارجية للإخوان المسلمين، وشرفت بصحبته في زيارة عدد من الدول، ولقاء العديد من المسؤولين فيها، فكان عاكف نعم الممثل لجماعته، تشعر أنك أمام سياسي محنك، تتعلم منه أصول الحوار والبروتوكول السياسي، أما الشرف الكبير فقد كان عملي معه في لجنة فلسطين التي شكلها الإخوان منذ زمن بعيد لدعم القضية الفلسطينية.

وكان الدعم الذي يوجهه الإخوان لفلسطين بمساعدة شعب مصر - الفقير الكريم - يفوق أي دعم من أية دولة عربية أو إسلامية، بترولية أو غير بترولية، كان عاكف مهموما بالقضية، متصلا بقادتها ورموزها، فكم من مرة يدعوني وكنت شابا صغيرا للقاء أبي عمار (ياسر عرفات) والنقاش معه فيما يخص الشأن الفلسطيني، أو العلاقة بين فتح وحماس، أو الصعوبات التي تواجهها القضية. كان عرفات يحب عاكف بحكم علاقة النضال التاريخية التي جمعتهما شبابا، وكان عاكف يبذل إليه النصيحة كصديق حميم، وفي الوقت نفسه يمثل الطرف الغائب في النقاش (حماس) أفضل تمثيل. تسمع دفاعه عن حماس في مواجهة عرفات فتشعر أن الشيخ أحمد ياسين، أو أبا الوليد خالد مشعل لو كان حاضرا ما قال أكثر مما قاله عاكف! وكان يشجعني وأنا الشاب الصغير أمام عرفات أن أدلي برأيي فيما يثار من أفكار ونقاشات. وأذكر له أنه لما تولى منصب المرشد أصر أن تبقى رئاسة لجنة فلسطين معه، حتى لا يحرم من بركة العمل لفلسطين والأقصى والقدس! 

رافقته في بعض لقاءاته بقيادات الأحزاب والحركات، وقادة الفكر والرأي، والكتاب والصحفيين، والفنانين، فقد كان حريصا على التواصل مع كل قوى المجتمع وفئاته .. وفور انتخابه كمرشد زار كل الأحزاب المعارضة وكان لبعضهم تباين في الرؤى مع الإخوان المسلمين، لكنه أراد أن يفتح صفحة جديدة من التعاون في المشترك الوطني مع الجميع. حتى مع خصمه اللدود الراحل رفعت السعيد - الذي لقي ربه قبل عاكف بشهر واحد - ذهب إليه وقد كان رئيسا لحزب التجمع اليساري، وجلس مع قيادات الحزب، ودعاهم جميعا إلى التعاون مع الإخوان فيما يعود بالخير على مصر وشعبها.

لا تعجب إذا عرفت أن عاكف كان له عدة هيئات استشارية يعود إليها لأخذ رأيها في قراراته الاستراتيجية، فقد كانت له هيئة تضم قامات عظيمة - دعوية وسياسية وقضائية وقانونية وتاريخية، وكان يجلس مع هذه الهيئة كل خمسة عشر يوما، أما مكان الاجتماع فقد كان متنقلا كل مرة في بيت من بيوت هؤلاء العظام، وقد كان أعضاء هذه الهيئة من المحبين للجماعة الحريصين على نجاحها.

لا تعجب إذا علمت أن عاكف كانت له هيئة استشارية أخرى، تضم قامات أيضا من مختلف التيارات: الشيوعية، والقومية، والليبرالية، والمسيحية. كان يستشيرهم فرادى ومجتمعين كلما دعت الحاجة، وكانوا يبذلون له الرأي والنصيحة لثقتهم في قدرة الرجل وجماعته على إحداث التغيير الذي ينشدونه لمصر. لكن للأسف الشديد تحوّل معظم أعضاء هذه الهيئة إلى معسكر الانقلابيين، رغم تعامل الإخوان الكريم معهم، ورغم حمل الإخوان لهم ودعمهم في الوصول إلى عضوية البرلمان، لكنه الحسد على الإخوان والغيرة التي دفعتهم للتعاون مع العسكر بغية القضاء على الإخوان! 

كان عاكف مبادرا مقداما.. انتخب في يناير 2004، وبمجرد انتخابه طلب من القسم السياسي، ومن لجان الجماعة الفنية إعداد مبادرة للإصلاح في مصر، تشمل كافة الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والتعليمية والصحية، إضافة إلى إصلاح الأزهر، وقرر عاكف إعلانها من نقابة الصحفيين باعتبارها منبر الحرية والرأي في ذلك الزمان. لم يتجاوب مبارك مع نداء عاكف، فما كان من الأخير إلا أن حرك المظاهرات التي بدأت في مارس 2005، واستمرت حتى مايو من العام نفسه.

أذكر أن الإخوان خرجوا في كل مدن وقرى وكفور مصر عقب صلاة الجمعة في أوائل شهر مايو، وواجههم الأمن بالقمع والاعتقال، ووصل عدد المعتقلين الإخوان في هذا اليوم إلى أربعة آلاف معتقل. مساء هذا اليوم جلست أتابع نشرات الأخبار في القنوات التلفزيونية، وأدير مؤشر الراديو على محطات الإذاعة العالمية لأجد خبر مظاهرات الإخوان محتلا لصدر النشرات، وهو محور البرامج التحليلية. غمرتني السعادة، وتوجهت في الصباح إلى فضيلة المرشد مواسيا له في اعتقالات الآلاف من إخوانه وأبنائه. دخلت عليه فاستقبلني بوجهه المشرق وابتسامته المعهودة.

قلت: فضيلة المرشد لك أن تشكر الله على ما أنجزه الإخوان بالأمس، لقد رفعت اسم الإخوان عاليا. لا تحزن على ما أصاب الإخوان من اعتقالات وتنكيل. وأضفت قائلا: قضية الإخوان ومظاهراتهم واعتقالاتهم الآن هي موضوع حديث أهاليهم وجيرانهم وأصدقائهم في الدراسة أو العمل. 

رد بابتسامة الواثق: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات. أنا لست حزينا على اعتقال الإخوان.. هذه ضريبة يجب أن يدفعها الإخوان نيابة عن الشعب المصري.. لأنهم الطليعة.

ثم ضحك وقال. الأمر بسيط.. أنا كنت عامل حسابي على اعتقال خمسة عشر أو عشرين ألفا!

فاجأني المرشد برده، وشعرت أنه قائد من طراز خاص. 

نجح عاكف في إحداث أزمة كبيرة لنظام مبارك، وأظهره أمام العالم أنه نظام مستبد يقمع الحريات، ويعتقل المطالبين بالإصلاح، فما كان من نظام مبارك إلا أن قرّر الإفراج عن الإخوان بعد أسابيع من اعتقالهم، ولكن على ذمة قضايا تجمهر ومحاولة لقلب نظام الحكم بالقوة! وبكفالة مالية لكل معتقل متوسطها خمسة آلاف جنيه يدفها المعتقل كي يفرج عنه. ومرة أخرى يرمي عاكف بالأزمة في حجر مبارك، إذ أصدر تعليماته للإخوان بالامتناع عن دفع الكفالة، ورفض توصيف المظاهرات المنادية بالإصلاح وحرية الشعب بأنها محاولة انقلابية.. تأمر نيابة أمن الدولة بإعادة إلإخوان إلى السجون لأنهم رفضوا دفع الكفالة. ولم يكترث عاكف بقرار النيابة، ليذعن نظام مبارك المأزوم ويقرر الإفراج عن الإخوان بلا كفالات مالية.

إنه المرشد الذي التقط فرصة الإشراف القضائي على انتخابات 2005، ودفع بمائة وستين مرشحا من الإخوان لخوضها، فاز منهم 88 نائبا، وكان الإخوان جديرين بحصد أربعين مقعدا إضافيا باعتراف أحمد نظيف رئيس الحكومة آنذاك، لكن أعمال القمع والتزوير والعنف الذي ارتكبه الأمن وأودى بحياة 12 مواطنا حرم الإخوان من هذه المقاعد. وأذكر أن المرشد عاكف والدكتور مرسي كانا مهندسي هذه الانتخابات.

في عام 2006 خرج الإخوان يدافعون عن القضاة واستقلالهم بعد إقدام النظام على إحالة اثنين منهم إلى التحقيق (المستشاران محمود مكي وهشام البسطويسي) على خلفية فضح نادي القضاة لأعمال التزوير التي ارتكبها النظام في الانتخابات البرلمانية. واعتقل في هذه المظاهرات المئات من الإخوان وكان من بينهم الدكتور محمد مرسي.

وفي عام 2006 أخرج عاكف المظاهرات المنددة بالحرب الإسرائيلية على لبنان، وأعلن استعداده لإرسال عشرة آلاف متطوع من الإخوان للمشاركة في المقاومة الشعبية ضد العدوان الإسرائيلي ودفاعا عن الأشقاء في لبنان.

وفي عام 2008 خرج الإخوان في تظاهرات عارمة ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، ولم يكتفوا بالتظاهر، لكنهم حركوا مئات القوافل الإغاثية التي أوصلت الأدوية والأغذية لأهلنا في غزة. وكان أطباء الإخوان في طليعة الأطباء الذين دخلوا غزة وشاركوا في علاج الجرحى والمصابين رغم القصف الإسرائيلي الذي طال المستشفيات والمراكز الطبية.

إنه عاكف الذي أشعل شرارة المواجهة مع نظام مبارك الاستبدادي، تلك المواجهة التي مهدت لثورة الخامس والعشرين من يناير، لم يرهبه الاعتقال الذي طال الآلاف من أبناء الجماعة، وامتد ليطال الأمين العام للجماعة وبعض أعضاء مكتب الإرشاد، بل كان رده: وأنا أيضا مستعد لدخول السجن. وعندما قتلت قوات أمن مبارك عددا من أبناء الإخوان كطارق الغنام في المنصورة، وأكرم الزهيري في الإسكندرية قال عاكف إنني أفضل أن يقتل أبناء الإخوان دفاعا عن حرية إخوانهم المصريين.

حكى عاكف - لنا ولكل الأجيال - أنه عندما دخل السجن في عام 1954، وحكم عليه بالإعدام مع ستة من إخوانه في قضية تهريب الفريق عبد المنعم عبد الرؤوف، أحد قيادات حركة يوليو، والذي قاد مهمة حصار قصر التين، وأجبر الملك فاروق على الخروج من مصر. يقول: إنهم أعدموا إخوانه الستة واحدا تلو الآخر، وكان ينتظر دوره، وكانوا في نفس الوقت يساومونه على كتابة التماس لعبد الناصر يطلب منه العفو أو تخفيف الحكم.. لكن عاكف رفض. وشاءت إرادة الله أن تتدخل بعض الحكومات وتضغط على عبد الناصر لوقف مسلسل الإعدام، ليلغى إعدام عاكف، ويستبدل بالسجن المؤبد. عاش عاكف بعد إلغاء الحكم بإعدامه في عام 1954 وتأخر استشهاده 63 عاما. ورحل عبدالناصر الذي حكم بإعدامه في عام 1970، ورحل السادات في عام 1981، وخلع مبارك في عام 2011، ويبقى عاكف حيا يرزق حتى لقي ربه شهيدا في سجون الانقلاب بعد حياة حافلة بالعطاء.

اعتقله الانقلاب وقام بإيداعه في باستيل مصر، سجن العقرب سيء السمعة، لمدة ثلاث سنوات، كانت الزنزانة التي يقبع فيها تحت الأرض خالية من مقومات الحياة، فما هي في الحقيقة إلا حمام فيه قاعدة تواليت، ومصطبة بازلتية للنوم عليها، وبطانية رثة ذات رائحة كريهة. ولما اشتد عليه المرض في هذه الزنزانة، وأصبحت صحته في خطر عظيم، نجح محاميه في الحصول على قرار بنقله للعلاج على نفقته الخاصة في مستشفى القصر العيني. ووافقت وزارة الداخلية، لكنها لم تراع وضع الرجل الصحي وحاجته للرعاية، وفرضت عليه حراسة مشددة تحصي عليه أنفاسه، وتفتش الداخل إليه والخارج حتى الأطباء والممرضين. لدرجة أنه كان رحمه الله يطلب حضور الممرضة لتتابع آلامه لكنها كانت تمتنع تارة وتتلكأ تارة أخرى بسبب المضايقات التي تتعرض لها من طاقم الأمن الموجود أمام غرفته.

طلبت زوجته أن يسمح لها بزيارته لمدة ساعة كل يوم لتقدم له بعض الرعاية الضرورية لكن المحكمة رفضت طلبها. فما كان منه إلا أن قال لها: لا تبتئسي فالراعي هو الله.

علمني عاكف أن الحياة موقف، فقد عاش حرا عزيزا قابضا على مبدئه، وكأن شعاره: فإما حياة تسر الصديق .. وإما ممات يغيظ العدا.

لقد جاءه من يطلب منه -وهو في أشد المرض- أن يلتمس العفو ليفرج عنه: فقال: لم أفعلها وأنا شاب صغير.. فهل أفعلها وأنا شيخ في التسعين أنتظر لقاء ربي كل لحظة؟

لله درك أيها المرشد العظيم.. طبت حيا.. وطبت شهيدا.