ما لا نحب أن نقوله في استشهاد عاكف
قد ادخرت لنفسي الحديث المزعج بعدما سبقني الأكثرون بالحديث الجميل، وأسأل الله أن يجعلني من المخلصين الناصحين لا ممن يحب الظهور والتميز، فمن شاء أن يقرأ كلاما لا يعجبه فعلى العين والرأس والرحب والسعة، ومن شاء غير ذلك فأسأل الله أن يرزقه خيرا من كلامي كتبه من هو أحسن مني وأرفق.
قد قتل العسكر فضيلة الأستاذ المجاهد الباسل الكبير محمد مهدي عاكف، إلا أن لتدبير الله ألطافا، فقد ظهر يوما في محاكمته مستندا إلى عكازه متلفعا ثوبا فكان أشبه شيئ بصورة عمر المختار المتلفع قبل شنقه بثوبه والمقيد إلى أغلاله، ثم إن العسكر بعد قتله سلَّموا لأهله نظارته ومصحفه فأكملوا له شَبَهَ عمر المختار وأكملوا لأنفسهم شَبَه سيرة الاحتلال! وأنتم تعرفون، فنحن في زمن القتل فيه بالقانون وبالنظام، إنما نسلب الأرواح ونعيد المتعلقات الشخصية.. فهل رأيت مثلنا قاتلا أمينا؟!
(1) لم يتغير النظام
هو سجين كل العصور، فما معنى هذا؟
ليس إلا معنى واحدا من اثنين، إما أن كل العصور كانت خيرا وكان هو الشر الذي اتفقوا على سجنه، أو أنها كانت كلها شرا وكان هو الخير الذي اتفقوا على سجنه.. فأي شيء كان عاكف؟ وأي شيء كان فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي؟!
للأمة إجابتها، وللمنافقون إجاباتهم.. وقد رضينا بضمير الأمة وإجابته.
إلا أن الذي ينبغي أن نؤكد عليه أن كل تلك العصور برغم ما بدا من كونها انقلابات على بعضها، لم تكن في الحقيقة إلا تنويعات على عصر واحد، عصر الاحتلال والاستبداد، عصر قهر الأمة وإذلالها وتحطيم قوتها ومطاردة رجالها وتشويههم، عصر الولاء للغرب والحفاظ على العلمانية وحراسة إسرائيل. ما الذي يجمع بين فاروق وعبد الناصر والسادات ومبارك والسيسي إلا هذا؟! إن وجدتَ شيئا يجمع بينهم إلا هذا فالتمس سببا لعدائهم جميعا لمهدي عاكف.
ومن هنا، فعلى كل من شاء "إسقاط النظام" أن يعرف حدود النظام وأعماقه وامتداده في الزمان كي يُحسن الإسقاط، ويُحسن البناء.. فإن قِصَر النظر وتَوَهُّمَ أن تكون المشكلة في مبارك قد أوردنا المهلكة، وستظل مهالكنا تترى إن حسبنا المشكلة في السيسي.
(2) ألا وهي القلب
رفض عاكف أن يكتب طلبا للسيسي ليُفرج عنه إفراجا صحيا، ولا يفعلها إلا رجل قوي القلب.. إنه ربما انكسر في مثل المحنة الشاب القوي الجلد، ولست ألوم أحدا ضَعُف بل ولا أدري ما أفعل إن ابْتُلِيت بمحنة كهذه. لكن صمود الرجل وهو عند التسعين من عمره شيء يلهب الخيال ويثير الآمال.
ما كان له أن يصمد لولا قوة قلبٍ، فالقلب سر المرء وخلاصته، وما الجوارح إلا مظاهر ومشاهد وخدم، كما أخبر نبينا "ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".
والدرس المستفاد أن معركة الأمة لا يقوم لها إلا صاحب قلب قوي، وقد نزل على نبينا في أول رسالته فرض قيام الليل لأن (ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا)، وحفظنا عن سلفنا الصالح الاهتمام بعبادة السر لتربية القلب وإخلاصه لله، ومتابعة السنن والنوافل وإدامة تلاوة القرآن.. بغير تلك الأمور يسقط الرجل في أول الطريق أو في منتصفه أو حتى عند آخره.
ومن كان يحب أن يتشبه بالشهيد فعليه أن يختبر بين الفينة والأخرى قلبه، يرى هل تسلل إليه حب المال أو الحرص على الدنيا أو تعلق بشهوة أو سعى إلى جاه.. تلك الأمور تحرف الثائر عن غايته، بل ربما كانت هي نقاط ضعفه التي منها يُخترق ومنها يُسْقَط!
(3) سيرة الجماعة في رجل
وُلِد عاكف مع مولد الجماعة (1928م)، وبرأيي أنه توفي أيضا مع وفاتها، وإن سيرته لتَخْتَزِل سيرتها، فقد كان في محنتها ممتحنا، وكان في عافيتها مسؤولا عن أهم مفاصلها: الشباب والتنظيم الدولي والمرشد العام، كان في قلب الجهاد يوم كانت تجاهد، وفي قلب المسؤولية السياسية يوم دخلت البرلمان. رأى معها السجن والإعدام والتعذيب، ورأى النفوذ والجاه والانتشار!
فهل حقق عاكف ما يصبو إليه؟! وهل حققت الجماعة أهدافها؟!
أعرف أن المجاهد لا يلزم أن يرى النصر والتمكين، ولكن، هل هو صحيح في شأن الكيان والجماعة والمجموع؟! من واقع ما أعرفه من التاريخ أن الأمر ليس كذلك، وأن الدعوة تصل إلى السلطة (وكل دعوة غيير أو إصلاح تستهدف السلطة لأن السلطة هي أهم وأقوى وسائل التغيير) في عمر مؤسسها أو في حياة تلاميذه، فإن مضى عليها الجيل الثاني يكون قد فاتها الوقت، وبدأت في الجمود وفي أول طريق الشيخوخة.
هل تقضي الكيانات زمانها وأعمارها في معاناة المحن؟! إن سيرة الحركات الناجحة أنها تُمتحن وهي في طريقها للتمكين، لا أنها على دائرة المحنة ما إن تخرج منها حتى تعود إليها كرة أخرى.. وللتمكين أيضا محنته، لكنها ليست محنة سجون وعذاب بل محنة معاناة القيادة والزعامة وإيجاد الحلول. أما أن يتكرر على نفس الأشخاص انقلاب في شبابهم وانقلاب مثله في شيخوختهم فما تلك بسيرة من يتقدمون.
قد يُهزم المجاهد، قد يُخفق، وليس هذا يضيره هو ما دام قد اجتهد، وحسابه عند الله! وأمتنا بقدر ما أخرجت من مجاهدين لا يُحصون كثرة في القرنين الماضيين بقدر ما هُزِموا فلم يكد ينجح إلا القليل، فلا يُنزل هذا من قدرهم ومقامهم وبطولتهم وتغنينا بها.. لكننا نخون أنفسنا ونخون التاريخ والمستقبل إن لم نبصر أسباب الإخفاق ونعمل على تلافيها، ونحن نأثم ونذنب إن كررنا الأخطاء ولم نتعلم منها، ونحن نرتكب الجريمة الكبرى إن سُقْنا قصص أبطالنا على أنها نصر كبير مؤزر مكتمل.. عندها ندمر معايير البصر والنظر والعقل، ونستمتع بالهزيمة نُخَدِّر أنفسنا أنها نصر.
فمهما جل عندنا قدر الشهيد الكبير فإن أمانة الله ألا نتوقف عند التغني ببطولته، وإنما في التقييم الموضوعي لسيرته ومسيرته. والجماعة التي قدمت للإسلام خدمة عظمى يوم كانت في شبابها وفتوتها ليست –ولا ينبغي أن تُتَّخَذ- صنما يُعبد حتى في وقت غروبها وأفولها.
(4) القيادة الربانية
أول من طعن الشهيد بعد موته كان نائبه في منصب المرشد العام، إنه محمد حبيب.
لقد بدا من الرجل ما لم يكن يتوقعه منه أحد من أعضاء الجماعة ولا من أنصارها ولا حتى من أعدائها، وهو منذ ترك منصبه تحول إلى سهم مسموم، حتى صار حالة غريبة بعد الانقلاب العسكري، ولا تزال تظهر منه الغرائب.
إن السمع والطاعة والثقة للقيادة من أركان أي عمل تنظيمي لا شك، وبغيرها لا يكون للتنظيم ولا للعمل الجماعي معنى، لكن بين تلك الأمور وبين التسليم المطلق للقيادة والثقة فيها مساحة واسعة وشاسعة وواضحة.
إن القيادة التي كان فيها عاكف هي نفسها التي كان فيها محمد حبيب، فهل كان ينبغي أن يبذل لهما نفس السمع والطاعة والثقة؟! فإن لم يكن ممكنا تمييز من سينتهي مثل عاكف ممن سينتهي مثل حبيب حيث سيرة المرء لا تكتمل إلا بالموت، فلا بد من أن تكون الثقة مشروطة والطاعة بصيرة والمحاسبة قائمة. إنه ليس أفضل من أبي بكر وعمر، وكلاهما لم يطلب من الأمة طاعة مطلقة ولا بذلت له الأمة ثقة مطلقة، فقد عورضا واحتُجَّ عليهما واستمعا بل وطالبا بالنصح والتقويم وأعملا الشورى ونزلا عليها.
وإن القيادة التي كان فيها عاكف الزاهد في المنصب والحائز لأول مرة على لقب "مرشد سابق" هي القيادة نفسها التي يستمسك فيها بالمنصب من لم يأتِ باختيار ولا شورى، أحدهم في مخبئه بمصر، والآخر في اسطنبول، والثالث في لندن.. وثلاثتهم لم يخترهم أحد، وثلاثتهم لم يبق في مكانه إلا بحكم المال والعلاقات، وثلاثتهم يتعامل مع معارضيه بالفصل والتجميد!
نفس القيادة التي كان فيها عاكف المحبوب بين الشباب المنفتح عليهم المتسع الصدر لهم فيها من يحتقر الشباب وينفر منهم ولا يثق فيهم، وتحتفظ ذاكرتي بإبراهيم منير على شاشة الجزيرة عام 2008 وهو يقول بالحرف: أما الشباب فطبيعة الشباب أنه متهور ولا يدري أين المصلحة! وكان كلامه في وقت يفور فيه الشباب بالحراك وينتظرون أن تكون الجماعة داعمة لهم فيه.
فهل حقا كانت قيادة الإخوان "قيادة ربانية" كما يحب أنصارها أن يصفونها؟! وهل القيادة الربانية تُلدغ من الجحر الواحد مرات ومرات؟! هل القيادة الربانية تأتي لمن تقودهم بمثل ما نراه ونعانيه من نتائج؟! هل كان ينبغي أن تحصل على ما كان لها من الثقة والسمع والطاعة بغير محاسبة ولا مساءلة ولا مراجعة؟! وهل يجب أن ننتظر النهايات لنرى من هو الرباني الذي يموت موتة عاكف من غيره الذي إن لم نر تحوله كحبيب والهلباوي فربما رأيناه في وثائق ومراسلات أمنية بعد سنين!
تلك أربعة دروس ينبغي أن نستوعبها ونهضمها، وما أسهل أن ينطلق القلم ليرسم ما يداعب أحلام المحبين ويدغدغ مشاعرهم، إلا أنها من صاحب القلم خيانة، وقد سمعت من شيخنا الفقيه محمد عبد المقصود أن الشيخ فوزي السعيد كان يقول في مثل هذا الرجل: "هو كالطبيب الذي خدر المريض دون أن يجري له العملية، يقوم المريض متوهما أنه في طريقه للشفاء، ويأخذ الطبيب الأجر، ويبقى المرض على حاله!"، فأعوذ بالله أن أكون من هؤلاء.
وسوم: العدد 741