رمضان فرصة السمو إلى مرتبة المخلوقات النورانية
بعد أقل من أسبوع سنكون إن شاء الله تعالى على موعد مع منحة إلهية عظمى يتفضل بها علينا خالقنا جلا في علاه كل سنة في شهر رمضان لينقلنا من أسوأ حال إلى أحسن حال حيث نسمو ونرتقي من خلال ممارسة عبادة الصيام لنحاكي مخلوقات مكرمة لم تبتل بالشهوات ، وشرفت بتسبيح الله عز وجل وحمده وحسن طاعته وهي منزهة عن معصيته ، وفي المقابل نتنزه عن مخلوقات ابتلاها الله بالشهوات كما ابتلانا بها أيضا ، ولكن لم يشرفها بالتكليف كما شرفنا وكرمنا به إذ وهب لنا قلوبا نفقه بها وألسنة نعبر بها ، واستخلفنا في الأرض، وسخر لنا ما في بطنها وما على ظهرها ، وما يدب فوقها ، وهو سبحانه يمتحننا فيها ليجازينا عن نجاحنا أو فشلنا في الاستخلاف الذي استخلفنا إما بنعيم أو بجحيم أبديين في حياة أخرى تعقب هذه الحياة الدنيا .
وإذا ما ظل الإنسان حبيس شهواته التي تشاركه فيها البهائم والأنعام في هذه الحياة فإنه لن يغادر مرتبتها ، أما إذا تحرر من أسرها، فإنه يرتقي إلى مرتبة الملائكة الكرام . ومن أجل أن يحقق الإنسان الرقي إلى هذه المرتبة السامية تعبده خالقه سبحانه بدين الإسلام ، وجعل من ضمن ما تعبده به عبادة الصيام ، وهي عبارة عن ضبط و تحكم في شهوتي البطن والفرج ، وهما شهوتان وراءهما أشد الغرائز إلحاحا ، وتحكما في الإنسان، وانحدارا به نحو مرتبة الحيوان . وعبادة الصيام هي فرصة تتاح للإنسان المؤمن بالله كي يكتشف الفرق بينه وبين المخلوقات التي تشاركه هاتين الشهوتين، ولكنها لا تقوى على التحكم فيهما وضبطهما كما يستطيع هو. وحين يتحكم الإنسان في هاتين الشهوتين يدرك حقيقة التكريم الذي خصه به الله عز وجل ، و كيف فضله على تلك المخلوقات الشهوانية ، كما يدرك أنه بوسعه أن يبلغ مرتبة الملأ الأعلى من عباده المكرمين . وإذا ما أدرك الإنسان المؤمن ما في عبادة الصيام من تكريم تشوق إليها لا محالة واغتنم فرصة الاستفادة منها ليعيش لحظات السمو الروحي في أيام معدودات.
ولقد كشف الله عز وجل الحكمة من عبادة الصيام في قوله عز من قائل : (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون أياما معدودات )) . فحكمته البالغة سبحانه هي تحصيل التقوى . والتقوى أو الاتقاء من فعل وقى يقي واتقى، وهو لغة أن يجعل الإنسان بينه وبين من أو ما يحذره حائلا ، واصطلاحا هو أن تحول بين الإنسان وبين سخط خالقه سبحانه طاعة تقيه منه وذلك باجتناب نواهيه ، وامتثال أوامره اعتقادا ونية ،وعملا وقولا .
وتعتبر عبادة الصيام اختبارا يختبر من خلالها الله عز وجل درجة تقوى الإنسان المؤمن حيث ينهاه عن شهوتي البطن والفرج نهار رمضان، وقد كانتا مباحتين في باقي أيام الحول . والذي تمنعه تقواه من إصابة هاتين الشهوتي المحرمتين تحريما مؤقتا في أيام معدودات ،فإنه لا محالة يتدرب على الامتناع عن إصابة ما حرم تحريما مؤبدا ، ولا يجرؤ على إنيانه . ومن تجرأ على إتيان المحرم تحريما مؤبدا لا يمكن أن يدرك الغاية والحكمة من ترك المحرم تحريما مؤقتا . وبعبادة الصيام تحصل التقوى على أكمل وأتم وجه ، ذلك أن هذه العبادة لا يمكن أن يلابسها ما يلابس غيرها من رياء ،لأنه ليس لها ظاهر كغيرها بل هي سر بين العبد وخالقه لا يطلع عليه أحد من الخلق ، ولا يعلمه إلا علام الغيوب سبحانه وتعالى ، ولهذا ثمّن سبحانه هذه العبادة كما جاء في الحديث القدسي : " كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به " . وحين يصوم الإنسان تتأثر كل عباداته وأفعاله بإخلاصه في صيامه ، بل أكثر من ذلك يكون الصيام حجة عليه إن هو أخل بالعبادات الأخرى أو قصر في الواجبات بحيث يقال له : أنى تكون مخلصا في عبادة الصيام ومقصرا فيما عداها ؟
للتقوى مكاسب كبرى أهمها الظفر بمعية الله عز وجل لقوله جل وعلا : (( واعلموا أن الله مع المتقين )). ومعية الله عز وجل يكون من يظفر بها مسدد الخطى في كل سعيه يسعاه ، وموفقا في حياته، وفائزا بعد مماته يقيه ربه ما يخشى وما يحاذر . وإذا كان الإنسان يسعد بمعية المخلوق، فما باله إذا كانت المعية معية الخالق . ومن مكاسب التقوى أيضا الظفر بالمخرج من كل ضيق ، والحصول على الرزق من حيث لا يحتسب لقوله تعالى : (( ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب )) . ومن مكاسب التقوى أيضا التخلص من الذنوب والمعاصي مصداقا لقوله تعالى : (( ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا )) وقوله تعالى أيضا : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم )) . ولو لم يكن في تقوى الله عز وجل إلا هذا المكسب الذي يخلص الإنسان من أوزار تنقض ظهره لسعى إليه سعيا لأنه خطاء بطبيعته ، وفي حاجة ماسة إلى التخلص من سيئاته . ومن مكاسب التقوى أيضا تحصيل العلم لقوله عز من قائل : (( واتقوا الله ويعلمكم الله )) . وبالعلم شرف الإنسان وبلغ مرتبة التكريم وعلمه خالقه ما لم تعلمه الملائكة .
ولقد كثرت في الذكر الحكيم أوصاف المتقين الحميدة ،وهي تغري من يطلع عليها بالجد في طلب التقوى رغبة في الاتصاف بها والانضمام إلى فئة المتقين .
ومن طرق تحصيل التقوى أيضا بعد عبادة الصيام عبادة القيام وتكون بمعاشرة القرآن الكريم ، واستعراضه في ليالي رمضان حيث يعرض القائم نفسه على هديه ويقوم ما بها من انحراف واعوجاج لتحوز درجة التقوى لما في القرآن الكريم من هدي . ويستعد القائم في ليالي رمضان لاستعراض الرسالة الخاتمة بالصيام في نهاره حيث يسمو روحيا بالتخلص من شهواته المادية ،فيكون بذلك مؤهلا لتلقيها التلقي الأمثل وتأملها وتدبرها . ولقد جعل الله عز وجل استعراضها ليلا وقد نزلت على رسول الله صلى الله عيه وسلم ليلا ، و معلوم أن الليل ظرف مناسب لتلقيها لما فيه من سكون ، ولخلوه من مشاغل سعي النهار الذي جعله الله عز وجل معاشا يشغل عن التأمل والتدبر.
ولما كان هذا هو شأن شهر الصيام ،فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبشر صحابته الكرام بمقدمه فيقول : " قد جاءكم رمضان شهر مبارك ،افترض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب الجنة، وتغلق فيه أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها قد حرم " . وهذا الحديث الشريف تضمن حقائق غيبية عظمى ومذهلة ففيه تبشير ببركة جعلها الله عز وجل في شهر الصيام وهو سبحانه أعلم بحقيقتها وطبيعتها وحجمها وحظوظ العباد منها ، وفيه تأكيد لفريضة الصيام التي فرضت في كتاب الله عز وجل ، وفيه بشارة بفتح أبواب الجنة وغلق أبواب الجحيم وتصفيد الشياطين ، وفيه بشارة العمر التي إذا ضيعت لا تعوض، وهي خير ليلة القدر الذي يقدر فضلها بمدة زمنية تستغرق حياة الإنسان إن كان ممن يعمر مدة ألف شهر ، وما يعمر هذه المدة إلا قليل ، لهذا المحروم هو من حرم من فرصة العمر هذه .
وبقي أن نسأل أنفسنا ونحن نعيش في هذا الزمان الذي رق فيه تدين الناس وتلاشى مع كثرة المتكالبين على الإسلام يحاربونه بشراسة لا هوادة فيه من أجل محاصرته في أضيق حيز ممكن ، بل من أجل طمس معالمه ، وحجب خيره عن العالمين ، وسؤالنا هل نحن في مستوى هذا الشهر المبارك ؟ وهل نحن في مستوى استقباله كما كان الصحابة يستقبلونه ؟ ألم يتحول هذا الشهر الفضيل عند السواد الأعظم منا إلى ما يشبه الفلكلور والعادة ، فصار لا يعني عندنا سوى فرصة استهلاك الأنواع المختلفة من المأكولات والمشروبات التي تزين بها الموائد ساعة الإفطار ، والتي يستهلك إعدادها أيام رمضان كاملة ، كما أننا نختزل ليالي رمضان في سهر ولهو وعبث ، و بهذا جردنا هذا الشهر من دلالته ، وابتعدنا عما أراده الله عز وجل فيه للعباد من سمو روحي يرقى بهم إلى درجة عبادة الملأ الأعلى عوض الانحدار إلى ما دون مستوى الحيوانات المخلوقات الشهوانية . وأنى يدرك هذه الغاية من يجعل شغله الشاغل في شهر العبادة الطعام والشراب والسهر من أجل اللهو والعبث ؟ ولمثل هذا الذي يكون همه في إشباع البطن ، وتسلية النفس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه " ذلك أن ترك الطعام والشراب والشهوة دون تشرب الحكمة من هذا الترك وهي (( لعلكم تتقون )) يبقى مجرد جوع وعطش يطفىء نارهما نهم الأكل بعد الإفطار لتزداد أرصدة الشهوانية ، وتفتر أو تغيب أرصدة السمو الروحي .
فهلا حرصنا في هذه الفرصة الثمينة على بلوغ مرتبة الملائكة ، والنأي بأنفسنا عن مرتبة البهائم ؟
وسوم: العدد 772