عَبَاَءَةُ رَمضَانْ..
يأتينا في كل عام جديدًا، نفس البهجة في النفوس، والانشراح في الصدور، والاطمئنان في القلوب، هذا أجمل ما في شهر رمضان سيد الشهور عند المسلمين، ولا تجد له مثيلًا عند غيرهم؛ فالاحتفاء به ليس على سبيل الكرنفالات والاحتفالات والمهرجانات كما نراها هنا وهناك على شاشات التلفاز.
رمضان شهر له عَبَقٌ خاص، وروائح تأتي قبيل قدومه من النسمات والبشائر التي يستشعرها المسلم سواء الغني أو الفقير، القادر وغير القادر، عباءة رمضان تتسع للجميع، وهو شهر الكرم بحق ولهذا يتسابق فيه الجميع في تنافس محمود؛ فالحسنات أجرها مضاعف أزيد من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف في كل الأعمال الصالحات من العبادات التي يقوم بها المسلم إلا أن الصوم له خصوصية "الثواب المفتوح"، إن أحسنت التعبير، ذلك أن الله سبحانه وتعالى هو من يتولى رصد الحسنات والثواب بنفسه سبحانه، فالصوم لله تعالى وهو يجزي به، وله دون العبادات الأخرى صفة السرية فلا يطَّلِع عليه غير الله تعالى دون العبادات الظاهرة لكافة الناس، وفيه المشقة والجهاد على كبح جماح النفس عما تشتهيه قربة لله تعالى.
تَأملتُ هذا الشهر الكريم فوجدتُ فيه ما ليس في غيره من شهور العام بوجه عام حتى الشهور الهجرية، فلا تجد شهرًا فيه من التواصل والتكامل بين العبادات كما في هذا الشهر؛ فالنهار صيام وصلاة، وقراءة قرآن، وذكر وتسبيح وتهليل وتحميد واستغفار، ودعاء..
لا يفارق كل هذه العبادات الخشوع لله تعالى برجاء القبول، كما يتواصل شهر رمضان مع الليل حتى بعد تناول طعام الإفطار، لتبدأ دورة جديدة من التواصل والتكامل بين العبادات من صلوات تزيد بصلاة التراويح، وقيام الليل، ولا تنتهي بالسحور حتى تبدأ دورة جديدة مع صلاة الفجر والدعاء وقراءة القرآن الكريم.
لا يوجد في أي شهر من شهور العام شهر تتواصل فيه العبادات ليل نهار بمثل هذه الطريقة، وعلى نفس النهج والوتيرة، ولا تقل لي رجب أو شعبان فالعبادة فيهما على سبيل التطوع والاستحباب والفردية، أما في سيد الشهور فالفرضية ثابتة بالقرآن والسنة، والوجوب ملزم، والجماعية حاكمة في البيوت، والمساجد، والعمل، والشوارع، وفي الوطن العربي، والعالم الإسلامي، والعالم بأسره، بضواحيه ومدنه، وجمهورياته، وملكياته، وإقطاعياته، وقاراته.
الكل يغزل نسيجًا واحدًا هو ثوب رمضان، والكل يشكل فسيفساء من زخارف لوحة رمضان الكبيرة التي تضم الأجناس، واللهجات، واللغات، والقوميات، والألوان التي يوحدها رمضان سيد الشهور بريشته الحانية الساحرة الأخاذة بالقلوب والألباب، والمُهَج والأفكار.
لا يماثل شهر رمضان شهر من شهور العام عند النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان شأن النبي صلى الله عليه وسلم فيه غير شأنه في أي من شهور العام، وذلك من استقباله له صلى الله عليه وسلم من شهر شعبان وذلك مما يكثر فيه من الصيام باعتباره من السنن الرواتب التي ترافق الصلوات المفروضة، بما يعني أن صوم شهر شعبان راتبة قبلية كتقدمة لفرض شهر رمضان مثلما جعل صيام الست من شهر شوال راتبة بعدية له، وبما يخصه فيه صلى الله عليه وسلم من الطاعات، والقربات، والنفحات، والدعاء، ومدارسة القرآن، والجود فيه على الناس بعد لقائه جبريل عليه السلام، حتى كان صلى الله عليه وسلم أجود من الريح المرسلة.
ينسخُ رمضان كل العادات المتبعة، والسلوكيات الثابتة عند كل مسلم مهما كان وأيَّ ما كان، ليبدأ ذلك المسلم معه الترحال حيث مرافئ الطهر والتعفف والتخفف من الذنوب، والانغماس في أنواره الرحيمة الرحيبة بشفافية ملائكية أو تكاد، وخروج من الذات الأرضية السجينة نحو آفاق الروحانيات والمثاليات والسمو والرقي.
في رمضان.. تتواصل الأجساد مع الأرواح بأسلوب جديد، وباتفاقٍ خفي بين طيات النفس، وانعتاق من الماديات التي تَحُط على كاهل العبيد، ليتحرروا من الثقل إلى الخفة، ومن القتامة إلى الألوان الزاهية، حيث معدن الإنسان النقي الأول، إنها نقطة اكتشاف الذات، بالبعد عن الملذات، والأفكار الخبيثة والمُلغزات.
في رمضان.. تتواصل القلوب في اصطفافٍ جديد.. في صلاة، وفي حياة، حتى بين المسلم وأصحاب الديانات والمذاهب المخالفة، يضم رمضان الجميع في موائد الإفطار بين دعوات من هنا وهناك لا تتقيد بتلك القيود الشكلية في الأيام العادية، وفي تسامح عجيب، وقبول للآخر، وانسجام حبيب مع الكون.
في رمضان تتكامل العبادات بالتسليم لبعضها البعض في رضا وحبور، ينطلق الآذان فترتفع المصاحف، لتقام الصلوات، يحدوها الخشوع والخضوع للحق المطلق، وتنتهي الصلوات التي تنتهي برفع أكف الدعاء، والتسبيح والتهليل والتحميد، والاستغفار، ثم تتناول الأيدي المصاحف من جديد لتمتد مائدة الله بين المسلم وربه في إقبال على الله، وبغير إذعان أو إجبار أو تكلف بل بكل المحبة والرضا.
والدعاء في رمضان جسرًا قصيرًا بين العبد وربه، وهو في رمضان مضمون الاستجابة لمن فقه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جعل دعوة الصائم من الدعوات المستجابات، وذلك للتواصل العميق بين الإنسان وربه في لحظة تصفو فيها النفس عن شهوات الدنيا ومطامعها للطمع في وجه الله تعالى.
رمضان هو الشهر الوحيد الذي شهد تواصل الأرض بالسماء في مشهد كوني حافل بمراسم الاصطفاء والتكليف، حين تلقى أمين الأرض الرسول صلى الله عليه وسلم النور والرسالة من أمين السماء، ليؤكد أن الاتصال بين الإنسان والله قائم بلا حلول ولا اتحاد، برسالة تمثلت أنقى تمثيل بالتوحيد، وعبادة الله بلا وسائط ولا شركيات.
ليس هناك غيره رمضان، ولن يكون غير رمضان، شَهرٌ يَطُلُ على الأكوان بمثل هذه الحفاوة والحب في الاستقبال، وبمثل هذا البكاء المرير على مرور أيامه مسرعات، وتبدأ أشرعة الشوق من جديد في أنهار العام تنتظر قدومه على شوق، وتبقى القلوب واجفة بين الدعاء بقبول الطاعات فيه، والدعاء ببلوغه من جديد، إنها رحلة من التواصل التي لا تنتهي في حياة المسلم والتي تصنع فيه حلقات من التكامل لا تنتهي مع رمضان.. ذلك الزائر الدائم في كل عام.
وسوم: العدد 773