دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة 10

دروس في فقه الجهاد والقيادة الراشدة

نتسابق للعطاء ونعفّ عند المغنم  ( 10 )

د. فوّاز القاسم / سوريا

وكذلك فعل الصحابة الكرام رضوان الله عليهم ، فلقد ضربوا في حياتهم أروع الأمثال في العفّة والقدوة .

انظروا مثلاً إلى عملاق الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يتألق في التاريخ .!

قال أبو عثمان النهدي : كنت مع عتبة بن فرقد حين افتتح أذربيجان ،  فصنع سفطين من خبيص (طعام) ، وألبسهما الجلود واللبود ، ثم بعث بهما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع سحيم مولى عتبة .

فلما قدم عليه قال : ما الذي جئت به أذَهبٌ أم َورِقْ ؟

وأمر به فكشف عنه ، فذاق الخبيص ، فقال : إنَّ هذا لطيب أُثْرٌ .!

ثمّ التفت إلى الرسول فقال : أكلُّ المجاهدين أكل منه شبعه .!؟

قال : لا ، يا أمير المؤمنين . إنما هو شيء أخصك به .

فكتب إليه عمر من فوره  : ( من عبد الله عمر أمير المؤمنين ، إلى عتبة بن فرقد . أما بعد ، فليس من كدّك ، ولا كدّ أمّك ، ولا كدّ أبيك ، لا نأكل إلا مما يشبع منه المسلمون في رحالهم ). (فتوح البلدان ص814 )

ولندع حديث العمالقة الكبار أمثال عمر ، فذاك رجل أدال الدول ، وهز التيجان ، ودوّخ التاريخ .!

ولنأخذ واحداً من مغموري الصحابة الكرام ، ومن الذين قادوا معارك عسكرية خاسرة ، فقد أورد الطبري 4/66 س ش س عن النضر بن السري الصبي ، أن أبا عبيد بن مسعود الثقفي ، قائد موقعة الجسر ، لما انتصر على الفرس في معركة السقّاطية ، 12 شعبان –13 هـ ، وكانت قبل معركة الجسر،  جاءه مجموعة من دهاقنة السواد ، بآنية فيها أنواع من الأطعمة الفارسية الفاخرة ، فقدموها اليه ، وقالوا :  هذه كرامة أكرمناك بها ، وقِرىً لك .

قال : أأكرمتم الجندَ وقريتموهم مثله .؟ قالوا : لم يتيسر ونحن فاعلون .

فرفض أبو عبيد الطعام وقال : لا حاجة لنا فيما لا يسع الجند .

بئس المرءُ أبو عبيد ، إن صحب قوماً من بلادهم ، اهراقوا دماءهم دونه أولم يهرقوا ، فاستأثر عليهم بشيء يصيبه . لا والله لا نأكل مما أفاء الله عليهم إلا مثل ما يأكل أوساطهم ..!

فذهب ألدها قين ، وأعدوا طعاماً لجيش أبي عبيد كله ، وفي اليوم التالي عادوا فقدموا له الطعام ، فلما أراد أن يرفضه قالوا : كُلْ ، فانه ليس من أصحابك أحد إلا وهو يؤتى في منـزله بشبعه ، بمثل هذا وأفضل .!

فلما تأكد ( القائد) من صحة قولهم ، قال : الآن .. نعم .. وأكل .. رضي الله عنه . نعم والله … لم يكن يخطر ببال القائد منهم ، أن يؤثر نفسه بشيء دون إخوانه وجنوده ، حتى لو كان هذا الشيء هو الحياة بعينها .!

قال طارق بن شهاب : كنت مع أبي عبيدة بالشام عام طاعون عمواس ، فلما اشتعل الوجع بالناس وبلغ ذلك عمر بن الخطاب ، كتب إلى أبي عبيدة ليستخرجه منه :

( أن سلام عليك ، أما بعد .. فقد عرضت لي حاجة أريد أن أشافهك فيها ، فاذا أتاك كتابي هذا ، فإني أعزم عليك إن أتاك ليلاً  ألا تصبح حتى تركب ، وإن أتاك نهاراً ، ألا تمسي حتى تركب إلي . فإذا أنت نظرت في كتابي هذا ، ألا تضعه من يدك حتى تقبل ). !!!

فعرف أبو عبيدة ما أراد عمر ، رضي الله عنهما ،  فكتب إليه :

( يا أمير المؤمنين ، قد عرفت حاجتك إليّ ، وأنك تستبق ما ليس بباق ، وإنّي في جند من المسلمين ، ولا أجد بنفسي رغبة عنهم ، فلست أريد فراقهم حتى يقضي الله فيَّ وفيهم قضاءه ، فحلّلني من عزيمتك يرحمك الله ) ...!!!

فلما قرأ عمر الكتاب بكى حتى اخضلت لحيته .!

فقال الناس : يا أمير المؤمنين ، أمات أبو عبيدة .!؟

قال : لا … وكأنْ قَدْ .!!!   الكامل 2/558 .

ولقد ضرب أستاذ العسكرية ، وعبقريّ الحروب ، سيف الله ، خالد بن الوليد رضي الله عنه ، أروع الامثلة في القيادة القدوة ، حتى كسب ثقة جنوده ، وأسر أفئدتهم ، فكان يكفي للجيش أن يكون قائده خالد ، حتى يتطوع فيه المسلمون بالآلاف . 

ولقد أرعد فرائص أعدائه ، وشلّ تفكيرهم ، وكان يسبقه صيتُه مسيرة شهر.! 

ولم يحضر معركة إلا قابل فيها قائد العدو ، فإما قتله ، وإما أسره .!!

ولقد حدثتنا كتب التاريخ عن قادة عمالقة ، تركوا جيوشهم وفروا منه رعباً ، فماتوا في الصحراء من العطش .!! 

يقول هذا العظيم : والله ، ما ليلةٌ تهدى إليَّ فيها عروسٌ أنا  لها محبّ ، بأحب إليّ ، من ليلةٍ شديدة البرد ، أبيتُ فيها والسماءُ تنهلُ عليَّ ، على رأس كتيبة من المهاجرين والأنصار ، أُصبِّحُ قوماً أو أُمسِّيهم .!!!

ولما حضرت هذا العظيمَ الوفاةُ ، أسف وبكى أن يموت على فراشه بين أهله وأولاده ونسائه ، بعيداً عن ساحات الوغى ، حيث جنوده وإخوانه ،  فقال قولته المَثَلْ :

( ما في جسمي موضع شبر ، إلا وفيه ضربة بسيف ، أو طعنة برمح ، أو رمية بسهم ، وها أنذا أموت على فراشي كما يموت البعير ، فلا نامت أعين الجبناء  .!!!)