نفحاتُ الرُّوح 5، الكُنُوزُ الإيمانيةُ والشرعيةُ والأخلاقيةُ لسورة الحُجُرات
الكَنْـزُ الخامس: العِلاجُ الربّانيّ للخِلاف والفتن بين المسلمين
(وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)،
(الحجرات:9 و10).
* *
لنتدبّر في تفسير الآيتَيْن الكريمتَيْن:
1- من الطبيعي أن يقع الخلاف بين البشر، والمسلمون جزء من هؤلاء البشر، لكنّ خلافهم ينبغي ألا يخرج عن الأصول، وإذا خرج عنها، فربما تُفضي الخلافات إلى الاقتتال بينهم، وإلى وقوع الفتنة والحرب والصراع بين فئاتهم.. هذا ما تبحثه هاتان الآيتان الكريمتان.
2- لنلاحظ أنّ هاتين الآيتين قد وردتا مباشرةً بعد الآيات التي تتحدّث عن (التثبّت في تلقّي الأنباء وروايتها)، فالنبأ الكاذب قد يقود إلى البغضاء والشحناء، ثم إلى الاقتتال.. وقد جاء ترتيب الآيتين المذكورتين أعلاه، على ما يأتي به الفاسقون المفسدون من أنباءٍ كاذبة، فيوغرون الصدور، ليقعَ الخلافُ والاقتتال والبغي.. ولهذا، فإنّ إهمال أمر الفاسق الكاذب، أو إهمال التعامل بما أمرنا الله عزّ وجلّ تجاه النبأ أو الأنباء كما شرحناه في الكنز الرابع.. قد لا يقتصر على كلمةٍ كاذبةٍ تُقال أو نبأٍ كاذبٍ يُنقَل وينتهي الأمر.. بل ربما سيتعدى ذلك إلى درجاتٍ أكبر من الخلاف والعداوة والشحناء.. ثم إلى الاقتتال ووقوع الفتنة والحروب.. فتكون الأنباء الكاذبة كبذور الشرّ والسوء، التي قد تجد فرصةً وأرضاً خصبةً عند الذين لا ينفِّذون شرع الله وأوامره.. فينتج عن ذلك شرّ وبلاء عظيم.
3- وقد شرحنا كيف تكون الوقاية من ذيول ما يُحدِثه النبأ الكاذب في النفوس.. وقلنا إنّ الوقاية تتم باتباع أمر الله عزّ وجلّ: (فتبيّنوا)!.. لكن إذا تمكّن الفاسقون من إتمام فتنتهم وجريمتهم في إيقاع الخلاف بين المسلمين.. فهناك درجة أخرى من العلاج، وهذا ما بحثته الآيتان الكريمتان السابقتان.
4- فإذا دبّ الخلاف بين جماعتين (أو حتى شخصين) منكم أيها المسلمون.. ثم إذا وقع القتال.. فإنه على المؤمنين الصادقين أن يحاصروا نيران الشقاق، بالسعي إلى الإصلاح بين الطرفين، وهذا لا يتم إلا: بالاستماع إلى الفريقين بتجرّد، ثم بالعمل على إطفاء النيران بتقريب وجهات النظر وتليين القلوب، والحكم بالعدل، ومن المهم جداً أن يتم رفع الظلم عن المظلومين، وإزالة عوامل الضرر والأذى، سواء بالتعويض أو بغيره، والنظر إلى أمور الخلاف بعينَيْن اثنتَيْن وليس بعينٍ واحدة.. وهكذا، فالمؤمنون مُطالَبون بالإصلاح وإزالة أسباب الخلاف نهائياً، وذلك عندما يكون الخلاف في الرأي وتكون الخصومة فكرية (قبل استفحالها).. وذلك بالحوار الهادئ، وبالاحتكام إلى شرع الله عزّ وجلّ: (فأصلحوا بينهما): بالنصح والتوعية والتبصير والتذكير بشرع الله عزّ وجلّ، وبالاحتكام إلى أحكام الإسلام.
ولا بد من التنويه، بأنّ أحكام قول الله عزّ وجلّ في الآيتين السابقتين، تشمل كل الفتن التي يمكن أن تقع بين المسلمين، وفي أي بقعةٍ من بقاع الأرض، وفي أي زمانٍ كان.
وهكذا.. فالآيتان تبحثان في قاعدةٍ تشريعيةٍ عملية، لصيانة الأمة المسلمة والمجتمع المسلم والجماعة المسلمة من التفكّك والخصام.. وقد صنّف علماء الإسلام بناءً على ذلك ما سُمِّي بأحكام (البُغاة)، ومن هذه الأحكام والقواعد ما يأتي:
أ- مصلحة الأمة العامة فوق أية مصلحة.. فلا بد من صيانة الأمة المسلمة من التفكّك والخصام.. بالحق والعدل والحزم والاحتكام إلى شرع الله عزّ وجلّ ومنهج الإسلام العظيم.
ب- وصف الإيمان يبقى للفئتين أو الطرفين المقتتلين مع اقتتالهما.. إلا إذا أعلن أحدهما خروجه عن شرع الله ومنهج الإسلام وكَفَرَ به، فعندئذٍ يسمى هذا الطرف بالطرف الكافر الخارج عن الإسلام.
ج- البغي يمكن أن يكون من أحد الطرفين المقتتلين.. أو من كليهما معاً.. وهذا يتطلّب وجود قوّةٍ من المسلمين قادرةٍ على حصر الخلاف بالحكمة والموعظة الحسنة.. أو بالقتال إن لم يكن بدٌ منه.
د- القتال هو الحل الأخير لحل الخلاف (آخر الدواء الكيّ).. فإذا كان السلام والحب والوئام بين المسلمين هو القاعدة.. فإنّ الخلاف والشقاق والخصومة والفتن.. هي الاستثناء، وإن وقع هذا الاستثناء، فيباح في سبيل القضاء عليه.. كل الوسائل، بما فيها قتال الفئة الباغية، لإجبارها على العودة إلى الصف المسلم.. وهو إجراء صارم حازم يأمرنا به الله عزّ وجلّ للحفاظ على وحدة الأمة المسلمة.
هـ- قتال البُغاة المسلمين ليس بهدف القضاء عليهم، ولكن بهدف ردّهم إلى الصواب، وإلى شرع الله عزّ وجلّ، وإلى صفّهم الإسلاميّ، وإلى الانضواء تحت لواء: الأخوّة في الله سبحانه وتعالى وحده.
و- الإصلاح لا ينجح إلا بعودة الباغي أو إعادته إلى شرع الله ومنهج الإسلام ودستوره وأحكامه.
ز- واجب القيام بالإصلاح يقع على جميع المسلمين المؤمنين، لصيانة وحدة الأمة، ولمنع تفتّتها وتفكّكها، الذي يجعلها فريسةً سهلةً لعدوّها وللطامعين بها.
ح- يرى الإمام البخاري وبعض الأئمة.. أنّ المؤمن لا يخرج عن الإيمان بالمعصية مهما عظمت.
ط- البغي على الإمام العادل المسلم الذي يحكم بما أنزل الله.. لا يُخرِج عن المِلَّة.. إلا إذا كان هدف الباغي نزع السلطان وتعطيل الحكم بشرع الله عزّ وجلّ ومنهج الإسلام ودستوره، والتحوّل بالأمّة إلى الحكم بالمناهج الوضعية الظالمة الطاغية.. فالبغي هنا هو الكفر بعينه.
5- وماذا بعد محاولات الإصلاح بالتي هي أحسن، وبالحوار الهادئ الهادف؟!..
إنْ رَفَضَ أحدُ الطرفين أو كلاهما الرجوعَ إلى الحق والعدل والعقل والصواب.. واستمر في الخصام، ولم يقبل بجهود الإصلاح العادل والرجوع إلى شرع الله عزّ وجلّ لحلّ الخصومة، وأصرّ على الاقتتال وخوض الحروب.. فعندئذٍ لا يبقى أمام المؤمنين إلا قتال البُغاة لإجبارهم على العودة إلى حكم الله عزّ وجلّ وشرعه، قبل أن تعمّ الفتن في كل ركنٍ من أركان الأمة، فلا يسلم منها أحدٌ حتى الذين لم يشتركوا فيها.. لأنّ النيران التي ستشتعل يمكن أن تمتدّ لتحرق كل شيءٍ، فيذوق وبالها وشرّها وآثارها كلُ الناس في الأمة.
6- لا بد إذن من قتال البُغاة حتى يعودوا إلى شرع الله عزّ وجلّ والامتثال لأحكامه، ويقتنعوا بأنه لا حل إلا بهذا الرجوع إلى منهج الله سبحانه ودستوره.. فإن عادت الفئة الباغية إلى الحق وإلى رشدها.. فعندئذٍ يتم الإصلاح أيضاً بعد الاقتتال، بالحق والعدل والدقة في طاعة الله عزّ وجلّ.. لإحقاق الحق وإبطال الباطل!..
لنلاحظ هنا كيف وردت كلمة: (وَأَقْسِطُوا) مجردةً بلا مفعول به.. ليكون المعنى مُشرعاً.. أي: اعدلوا في كل أموركم (وليس في الخلاف الذي وقع وكان سبباً لنزول الآية الكريمة).. فالله عزّ وجلّ يحبّ: (الْمُقْسِطِينَ): أي العادلين، فالعدل يستجلب محبة الله تبارك وتعالى، ما يبارك كل خطوةٍ يقوم بها العادلون.
7- فالمؤمنون إخوة.. وأخوّة الإيمان والإسلام.. أقوى من أخوّة النسب.. فلا معنى لأخوّة النسب إذا خلت من أخوّة الإيمان.. (فأصلحوا بين أخويكم)، وهو فعل أمر.. أي أمرٌ منه سبحانه وتعالى يُفهَم منه وجوب الالتزام بأمر الله للإصلاح.. والأخَوَان هما أقل عددٍ من المسلمين يمكن أن يقع بينهما خلاف وشقاق.. والقاعدة في الإصلاح تسري على أي عددٍ من المؤمنين يقع بينهم خلاف وشقاق، أقلّه اثنان!.. و(اتقوا الله) عزّ وجلّ في خصوماتكم إنْ وقعت، واحذروا عقابه، وافعلوا ما يستجلب رضاه.. وكذلك (اتقوا الله) سبحانه في إصلاحكم حين تَسعون إليه، واحذروا إهمال أمره عزّ وجلّ، وذلك بالعودة إلى حكمه وشرعه في المتخاصمين، وبالسعي إلى الإصلاح بين المؤمنين الإخوة في الله.. (لعلّكم تُرحَمون)، فاطلبوا رحمة الله عزّ وجلّ بعد الإقرار بالحق، والحكم بالعدل، والارتكان إليه سبحانه وتعالى وحده، والتخلّي عن الهوى والركون إلى الدنيا.. فلعل الله بعد كل ذلك يرحمكم، ويغفر لكم، ويعفو عنكم بعد خصومتكم.. ولعله يقبل توبتكم ورجوعكم إليه في الآخرة.. ولعله يرحمكم فلا يستفحل الشقاق بينكم في الدنيا، فتأكل نيرانه الأخضر واليابس مما يخصّكم ويخصّ الأمة، فيقع البلاء عليكم جميعاً ويعمّ.
لنلاحظ كلمة (إنّما) التي وردت في قوله عزّ وجلّ: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)!.. وهي استخدمت للحصر، أي: لا أخوّة إلا أخوّة الإسلام والإيمان بين المسلمين!..
* *
لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من الآيتين الكريمتين:
1- الإصلاح بين المؤمنين واجب، ولا توصف فئة بالبغي إلا حين رفضها الاستجابة لجهود المصلحين العادلين، ومسئولية الإصلاح واجبة على جميع المسلمين.
2- المؤمنون تقع عليهم مسئولية عظيمة تجاه الأنباء التي ينقلها الفاسقون الكاذبون.. وعليهم يقع اللوم إذا استمعوا للفاسق الكاذب ومكّنوه من بذر بذور الخلاف والشقاق بينهم.. وقبل ذلك يقع عليهم اللوم إذا لم يمتثلوا لأمر الله عزّ وجلّ: (فتبيّنوا).. وعندما يسمحون للمندسّين الفاسقين أن يكون لهم شأنٌ في أي جانبٍ من جوانب الأمة أو أي عملٍ كان.. ولا يردّون الأخبار الكاذبة فيصفعون بها الفاسقين الكذّابين أصحاب الفتنة.
3- ردع الباغي وقتاله على الحق.. واجبٌ على الإمام المسلم وعلى المسلمين عامةً.. حتى يؤوبَ إلى رشده وإلى حكم الله عزّ وجلّ، ويعودَ إلى الصف المسلم.
4- المؤمنون إخوة، وعلاقة الأخوّة بينهم أقوى من علاقة النسب.. ومن حقوق الأخوّة: الحبّ والتناصح والتعاون والبذل ودفع الظلم أو الأذى.. والأخذ على يدي الظالم، والحرص على اجتماع الكلمة، وتفقّد بعضهم أحوالَ بعض، والتماس الأعذار لهم، وعدم فضحهم بذنوبهم، والدعاء لهم بالتوفيق والتوبة.
5- تقوى الله عزّ وجلّ مطلوبة.. قبل وقوع الخلاف، وفي أثنائه، وبعده.. وهي مطلوبة من المصلحين المحكّمين أيضاً.. وفي هذا كله مجلبة لرحمة الله سبحانه وتعالى، التي لا تتنزّل إلا على المتّقين من عباده، الراجين رضاه وحده لا شريك له.
6- لا يمكن أن ينتهي أي خلافٍ بين اثنين أو فئتين أو طائفتين أو طرفين.. إلا بانتهاء الظلم الذي يقع من أحدهما على الآخر، وإحقاق الحق بشكلٍ كامل، أكان هذا الحق صغيراً أم كبيراً.. ومن غير ذلك، ستبقى بذور الخلاف، وستبقى النار تحت الرماد.. التي يمكن لها أن تتأجّج وتستعر من جديدٍ كلما سنحت الظروف أو توافرت الفرصة المواتية.. فإنهاء الظلم بشكلٍ كاملٍ هو وحده الذي يُنهي الخلاف أو الصراع بين أي طرفَيْن مختلفَيْن.
* *
من أهم المراجع :*
(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن) للشهيد سيد قطب، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).
وسوم: العدد 837