نفحاتُ الرُّوح 10، الكُنُوزُ الإيمانيةُ والشرعيةُ والأخلاقيةُ لسورة الحُجُرات
الكَنْـزُ العاشر: لا إسلامَ بلا إيمان
(قَالَتِ الأعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ * قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)* (الحجرات: 14-17).
لنتدبّر في تفسير الآيات الكريمة:
1- لقد بيّن الله عزّ وجلّ في الآية رقم (13) السابقة لهذه الآيات مباشرةً.. أنّ الناس لا يتفاضلون إلا بالتقوى.. ثم اتجه لمحاورة الأعراب الذين زعموا أنهم آمنوا حق الإيمان، وامتنّوا به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبيّن لهم أنهم لم يحقّقوا مقتضيات الإيمان، ولم يسلكوا سبيل المؤمنين، وإنما أسلموا فحسب.. بإعلان الشهادتين.. فهم أعلنوا إسلامهم ظاهرياً، ولم يعملوا أو يتصرّفوا كباقي المسلمين المؤمنين، لأنّ الإيمان الحق لم يدخل قلوبَـهم بعدُ.
2- ثم بيّن الله عزّ وجلّ لهم، أنّ الإيمان النقيّ الصادق المخلص لله ولرسوله وللمؤمنين.. ينبغي أن يؤدي إلى طاعة الله ورسوله في كل شيء، بالإخلاص والالتزام بالصالحات من الأعمال.. وكذلك ينبغي أن يؤدي إلى تبنّي منهج الإسلام تبنّياً كاملاً غير منقوص، وإلى التصديق المطلق، والامتثال المطلق، وعدم الشكّ بالله عزّ وجلّ أو بدينه أو بمنهجه أو برسوله، وإلى الجهاد في سبيل الله وحده بالمال والنفس وبقية أنواع الجهاد.. فإن فعلوا ذلك.. فإنه سبحانه وتعالى لن ينقصَهُم من ثواب أعمالهم شيئاً، بل إنه سيغفر لهم ما فرّطوا، وسيرحمهم، وسيتفضّل عليهم بإعانتهم على أنفسهم وعلى تثبيت الإيمان في قلوبهم.
3- فليس كل مَن زعموا الإيمان بلسانهم.. بمؤمنين، إلا إذا آمنوا حقاً بقلوبهم، والتزموا بمقتضيات الإيمان المذكورة آنفاً، فالإيمان ليس بالأفواه، لكنه بالقلوب.. إنه طاعة الله ورسوله، والتزام منهج الإسلام العظيم وشرعه ودستوره، وعدم الشكّ بذلك مطلقاً.. والإيمان يدفع المؤمنين إلى الجهاد في سبيل الله، لأنه دليل قاطع على صدق إيمانهم، وتغلغله في أعماق قلوبهم.
لنلاحظ كيف جاء ردّ القرآن على الأعراب بأداة الحصر (إنما)، لتحصر معنى الإيمان بالتصديق المطلق والطاعة المطلقة وعدم الشكّ، وبالجهاد بالأموال والأنفس في سبيل الله وحده.. فبهذه الأمور حصراً.. يكون الشخص مؤمناً، وبغيرها.. فليس بمؤمنٍ مهما زعم وملأ الدنيا من حوله ضجيجاً وادعاءً باطلاً!..
4- فالإيمان أعظم نعمةٍ يمنّ الله عزّ وجلّ بها على عباده.. وهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.. لذلك فهو سبحانه وتعالى يستنكر على أولئك الأعراب.. زعمهم وعدم صدقهم في إيمانهم قائلاً لهم: أتُخبِرون الله وتُعَرِّفونه بحقيقة إيمانكم بقولكم: آمنا.. وهو أعلم بكم وببواطنكم أكثر من علمكم بها، لأنه لا تَخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، بل يعلم حقيقةَ كل شيءٍ في هذا الكون، لأنه هو الذي خلق كلَ شيء!.. وهو توبيخ لهم على ما ارتكبوه من سوء أدبٍ مع الله ورسوله دون حسن تقديرٍ منهم!..
5- ثم يتوجّه الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لتلقينه الردَّ على أولئك الجفاة، وذلك بالقول: إنهم يمتنّون عليكَ بإعلان إسلامهم، ظانّين أنّ ذلك فضل منهم عليكَ يا محمد.. فقل لهم وأجبهم: لا يحق لكم أن تمنّوا على الله ورسوله بإعلان إسلامكم.. لأنكم أنتم وحدكم الذين ستنتفعون من إسلامكم، وإن كفرتم فلن تضرّوا إلا أنفسَكم بكفركم.. والله عزّ وجلّ هو الذي يمنّ عليكم إذ شرح صدوركم للإسلام، ودلّكم على طريق الإيمان الذي فيه نجاتكم وسعادتكم، وهو يمنّ عليكم بدخول الإيمان إلى قلوبكم إن صدقتموه وصدقتم في إيمانكم!..
إنه رد على كل المنافقين أو ضعاف الإيمان في كل زمانٍ ومكان.. وتنديد بهم، وتحذير للمؤمنين من الانخداع بمثلهم.. ومنهم الذين يتغلغلون في صفوف الأمة معلنين إسلامهم.. لكنهم بعيدون عن الإيمان الحق والإسلام الحقيقيّ.. بُعدَ المَشرقَيْن.. ومع ذلك يخدعون الناس بأنهم مسلمون، وربما يزعمون أنهم يحكمون بالإسلام!..
لنتدبّر في الدروس والعظات المستوحاة من الآيات الكريمة:
1- إعلان الإسلام ليس دليلاً على الإيمان الحق بالله ورسوله ودينه ومنهجه.. وهناك علاقة وثيقة بين الإسلام والإيمان.. فقوّة الإيمان تدعو إلى قوّة التنفيذ العمليّ للإسلام ومنهجه.. وقوّة الإسلام تُفضي إلى تقوية الإيمان.. وضعف أحدهما يؤدي إلى ضعف الآخر.. والمطلوب من المسلم أن يكونَ مؤمناً حقيقياً لينجوَ بنفسه.
2- الإيمان أعظم نعمةٍ يقدّمها الله عزّ وجلّ لعباده الصالحين، وعليهم أن يشكروه على هذه النعمة العظيمة، لا أن يمنّوا عليه أن أسلموا وآمنوا.
3- من علامات الإيمان الحق: اطمئنان القلب بلا أدنى درجةٍ من الشكّ والارتياب، وطاعة الله عزّ وجلّ ورسوله صلى الله عليه وسلم في تنفيذ شرعه والحكم بمنهجه والوقوف على أي خللٍ يصادفه المؤمن، والجهاد في سبيل الله بالمال والنفس من غير أي تردّد.
4- كلما قوي إيمان العبد.. استشعر فضل الله سبحانه وتعالى عليه، لأن للإيمان حلاوةً لا يشعر بها إلا المؤمنون.. وإنّ العمل بأحكام الإسلام وشرعه ومنهجه القويم.. هو الطريق الحقيقيّ للترقّي في مقامات الإيمان الحق.
5- إن استغلال الدين، والدخول به للوصول إلى مغانم الدنيا وتحقيق المآرب الشخصية أو الفئوية.. إن ذلك دليل النفاق أو ضعف الإيمان، وهذا يستجلب الهلاك في الدنيا والآخرة.
* *
من أهم المراجع:*
(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن) للشهيد سيد قطب، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).
وسوم: العدد 837