نفحاتُ الرُّوح 7 الكُنُوزُ الإيمانيةُ والشرعيةُ والأخلاقيةُ لسورة الحُجُرات
الكَنْـزُ السابع: أخلاقُ المؤمنين (ب)
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا ..) (الحجرات: من الآية 12)
لنتدبّر في تفسير القسم الأول من الآية الكريمة
1- تتحدّث الآية الكريمة في قسمها الأول، عن أخطر ما يواجه المؤمنين في علاقاتهم، وقد نهت بمجملها عن ثلاث صفاتٍ ذميمةٍ تتناقض مع حقائق الأخوّة الإيمانية: أدناها: الظن السيّئ، الذي يقود إلى التجسّس وهتك الحُرُمات، ومن ثم إلى الغيبة (في القسم الثاني من الآية تالياً)، المؤدية إلى النميمة التي بها تتم إشاعة الفواحش في الذين آمنوا.. وهذا كله سيؤدي إلى: التدابر والتحاسد والتباغض، وإلى استحكام الشرّ بين المؤمنين الذين يجب أن يكونوا إخوةً في الله عزّ وجلّ!..
2- إذن الآية الكريمة تُشيّد سياجاً آخر في المجتمع المسلم حول حُرُماتِ الأفراد وكرامتهم، وتبدأ بالنداء الحبيب إلى القلوب.. قلوب المؤمنين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا..)، فيأمرهم سبحانه وتعالى باجتناب كثيرٍ من الظن: (.. اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ..)، أي: لاتظنّوا، لأن بعض الظن إثم يستحق العقوبة عليه من الله عزّ وجلّ، والظن هو: أن تتوهّم أو تشك بالسوء بحق أهل الخير والفضل من المؤمنين، لِتُلحِقَ الأذى بهم وبسمعتهم وبأنفسهم.. وإساءة الظن يمكن أن تكون خلال حديثٍ مع الآخرين من الناس، أو خلال حديثٍ مع نفسك، فليس من حقك أن تحدّث نفسك مُسيئاً الظن بأخيكَ المسلم المؤمن.. وذلك قطعاً لدابر الشيطان الذي يوسوس للإنسان، آمراً إياه بارتكاب المحرّمات.
يقول الإمام الغزالي رحمه الله: (ما لم تشاهده بعينك، وما لم تسمعه بأُذُنِك، ثم وقع في قلبكَ، فإنما الشيطانُ يُلقيه إليكَ، فينبغي أن تُكَذِّبَهُ، فإنه أفسقُ الفُسّاق)!..
3- من علامات إساءة الظن بالمؤمن ما يأتي:
أ- تغيّر قلبكَ تجاهه عما كان عليه وعما عَهِدَه أخوكَ المسلم منك.
ب- النفور منه واستثقاله واستثقال الاحتكاك به والحديث معه.
ج- الفتور في إكرامه ومراعاته.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظنّ، فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديث) (رواه البخاري ومسلم).
4- الكفّ عن ظن السوء يُطهِّر النفس الإنسانية، ويُلقي بالمودّة والمحبّة والطمأنينة في قلوب المؤمنين، ليبقى المجتمع المسلم نقياً بريئاً، لا تُعَكِّره الهواجس والظنون.
5- تدعو الآية الكريمة إلى الحذر من سوء الظنّ، باجتناب أكثره خشية الوقوع في الجزء المحظور المحرَّم منه.. وهناك أنواع من الظن ليست حراماً، لأنّ فيها الاحتياط والسلامة للنفس والعِرض، أو للمال والمتاع.. وهناك أيضاً الظن في استنباط الأحكام الشرعية عندما لا يكون الدليل قاطعاً.. وهكذا..
وسوء الظن بالمسلمين، خاصةً بمن اشتهروا بالتقوى والاستقامة.. حرامٌ شرعاً، وقد قال الإمام الشافعيّ رحمه الله: (سوء الظنّ لا ينبعث إلا من قلبٍ خبيث).
وإن كان سوء الظن بالمسلمين حراماً.. فإنه على المسلم من جهةٍ ثانيةٍ ألا يقف مواقف التهمة والشبهة، ولا يُعرّض نفسه للظنون والريب: (رحم الله امرءاً جبَّ الغيبةَ عن نفسه).
6- (.. وَلا تَجَسَّسُوا..)..
قد يكون التجسّس هو الخطوة التالية لسوء الظنّ، وهو العمل أو السلوك الذي يؤدي إلى هتك الأستار، وكشف عورات الناس، والاطلاع على السَّوْءات.. وهذا كله من العمل الدنيء الذي يقاومه القرآن الكريم وشرع الإسلام، حفاظاً على علاقات الأخوّة الإيمانية، التي يجب أن تسودَ المجتمع المسلم.. وحفاظاً على كرامة الإنسان وحرّيته، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع:
(إنّ دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم.. حرامٌ عليكم، كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا) (رواه البخاري ومسلم).
فالمجتمع المسلم يجب أن يعيشَ الناسُ فيه آمنين مطمئنّين، على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم وعوراتهم وأسرارهم.
وهكذا، يُشَيِّد القرآنُ الكريمُ وشرعُ الإسلام العظيم.. سياجاً آخر حول حُرُمات الناس وحقوقهم وحرّياتهم.. فلا تُمَسّ هذه الحقوق، بموجب شرع الإسلام وحكمه.. بأي شكلٍ من الأشكال، وفي أي حالٍ من الأحوال.. وفي هذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(مَن يتّبع عورة أخيه يتّبع الله عورَتَه، ومَن يتّبع الله عورَتَهُ يفضحهُ في جَوْفِ الليل) (رواه أحمد والدارمي).
ويقول الأوزاعي رحمه الله: (ويدخل في التجسّس، الاستماعُ إلى حديث قومٍ وهم له كارهون)!..
7- وهكذا، فالتجسّس على المسلمين، أو على دولة الإسلام، أو على الفئة المسلمة.. لهتك أستارهم وكشف أسرارهم، لصالح العدوّ الظالم المجرم المتربّص.. هو حرامٌ، بل يُعتَبَر من أعظم الجرائم، وهو خيانة عظمى يستحق مرتكبوها أشد العقوبات في الدنيا والآخرة.
8- غني عن القول: إن رصد العدو وتتبّع أخباره وحركاته ومؤامراته وعيونه وأعوانه.. وكذلك بث العيون في صفوفه واختراقه.. لا يُعتبَر تجسّساً حراماً.. لأنه بقصد دفع الأذى والشرّ والعدوان عن المسلمين وبلادهم وحُرُماتهم ومقدّساتهم.. وقد فعل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في كل مراحل دعوته، ضد العدو المتربّص بالمسلمين.
لنتدبّر في الدروس والعِظات المستوحاة من القسم الأول للآية الكريمة
1- سوء الظن بالمسلمين حرام شرعاً.. لأنه يقود إلى تدمير العلاقات الاجتماعية الوثيقة بينهم، وعلى كلٍ منا أن يراقبَ نفسه ويحاسبَهَا كي لا يقع في هذا المحظور.
2- على المسلم المؤمن ألا يضع نفسه في مواطن الشبهات، وألا يجعل من أعماله وتصرّفاته وسلوكه.. مَدعاةً لسوء الظن به.
3- التجسّس على المسلمين الأبرياء حرامٌ شرعاً بكل أشكاله.. بينما هو واجب وضرورة على العدوّ المتربّص بالمسلمين وأمة الإسلام، وعلى أعوانه وحلفائه والمتواطئين معه.
4- سوء الظن يقود إلى مساوئ وشرورٍ كثيرةٍ بحق المسلمين، كالغيبة والتجسّس والفضول السيّئ والنميمة.. وغير ذلك من الأذى والشرّ.
* * *
من أهم المراجع :
(تفسير ابن كثير)، و(في ظلال القرآن) للشهيد سيد قطب، وكتاب (البيّنات في تفسير سورة الحجرات).
وسوم: العدد 842