القرآن الكريم كما قدمه الله عز وجل للعالمين 2
الحلقة الثانية من أحاديث رمضان
مر بنا في الحلقة السابقة أن الله عز وجل قدم القرآن الكريم للعالمين على أن نزّل ،وأنزل ، ونزل ، وقلنا أن النزول يكون من أعلى ، وأن ذلك يعني علو شأن كلامه ، الذي هو حبله الممدود من أعلى ليعلو بمن في الأرض إلى درجة التكريم التي تفضل بها سبحانه وتعالى على الإنسان ، وهي درجة سمو لا يمكن أن يبلغها إلا باعتماد هذا الحبل المنزل إليه كطوق نجاة .
وفي هذه الحلقة سنواصل إن شاء الله تعالى الحديث عن كلام الله عز وجل كما قدمه للعالمين انطلاقا من قوله عز من قائل :
(( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم )) .
سياق هذه الآية خطاب موجه لأهل الكتاب وقد سبقها قوله تعالى :
(( يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيّن لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير )).
وهوخطاب لا يقتصر على أهل الكتاب بل هو موجه للعالمين لأن ما يفعله القرآن الكريم كنور بأهل الكتاب يفعله بغيرهم في كل زمان وفي كل مكان إلى قيام الساعة . و قوله تعالى (( قد جاءكم )) ، يدل على مجيء القرآن الكريم ، وهو نزوله أو تنزيله . وقد وصفه الله تعالى بالنور، وهو في اللغة الضوء الذي هو نقيض الظلمة ،وهو مستعمل هنا على وجه الاستعارة، لأنه كما يطرد النور الحقيقي الظلمة ، فإن القرآن الكريم يطرد الظلام المجازي الذي هو الضلال. وقد جعل الله عز وجل نوره ينير السبل المظلمة فتصير آمنة ، و تصيرطرق سلامة وطرق سالكة عكس الطرق المظلمة وغير الآمنة والمخيفة . والناس في واقعهم المعيش ي فضلون سلوك طرق السلامة ، ويتنكبون طرق المخاطر ، لهذا قرّب الله عز وجل من أذهانهم ما يفعله نوره الذي جاء به إليهم عن طريق هذه الإستعارة التي يدركون كنهها اعتمادا على واقعهم، ذلك أنهم إذا ساروا في الظلمات يشعلون المشاعل أو الأضواء في سبلهم إذا غطتها حلكة الظلام . وقد أكد الله عز وجل ذلك بذكر خروج الناس من الظلمات إلى النور أي من الضلال إلى الهداية ، وقد وردت في الاية الكريمة قرينة على ذلك، وهي قول تعالى (( ويهديهم إلى صراط مستقيم )) .
إن وصف الله تعالى القرآن الكريم بالنور اقتضى استحضار الظلمات واستحضار السبل، وهي أمور ذات علاقة وصلة فيما بينها في واقع الناس المعيش ، ذلك أنهم حين يضربون في الأرض ليلا يعوزهم نور يجلّي لهم السبل ليسلكوا منها السوي والمستقيم ، وذا السلامة والأمن . ولقد وردت كلمة نور في المفرد مقابل كلمة ظلمات، وكلمة سبل في الجمع . ومعلوم أن النور الواحد يطرد الظلمات ، وينير السبل .
ومعلوم أن سبل وظلمات الضلال في حياة الناس متعددة بينما نور وسبيل الهداية واحد ، وقد أكد ذلك قول الله تعالى :
(( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرّق بكم عن سبيله ))
والملاحظ في هذه الآية أن الله عز وجل جمع فيها بين كلمة "نور" وكلمة "كتاب "، وكلمة "يهدي "، وبينها علاقة ،ذلك أن القرآن الكريم ككتاب أو كرسالة من الله عز وجل إلى البشرية وظيفته هدايتها في دنياها من أجل الفوز في آخرتها بالجنة والنجاة من النار،وهو باعتبار هذه الوظيفة بمثابة نور يضيء لها السبيل المفضي إلى ذلك الفوز الذي قال عنه الله تعالى :
(( فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز )) .
وإذا أردنا أن نتبيّن حقيقة نورانية القرآن الكريم في واقعنا المعيش ،علينا أن نستحضر ظلمات حقيقية تعترض الإنسان في هذا الواقع ، وهي ظلمات نبّه إليها الله عز وجل في القرآن الكريم وحذر منها ، وسلّط عليه الضوء لتنجلي خطورتها ، وهي كثيرة نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر قوله تعالى :
(( قل تعالوا أتل ما حرّم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ولا تقتلوا النفس التي حرّم الله إلا بالحق ذلكم وصّاكم به لعلكم تعقلون ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفى ذلك وصّاكم به لعلكم تذّكّرون وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبع السبل فتفرّق بكم عن سبيله ذلكم وصّاكم به لعلكم تتّقون )) .
فقد سرد الله عز وجل في هذا النص القرآني نماذج من الظلمات أو الضلالات الموجودة في واقع الناس المعيش وهي: ظلمة الشرك ، وظلمة عقوق الوالدين ، وظلمة قتل الأولاد خشية الفقر ، وظلمة اقتراف الفواحش الجلية والخفية ، وظلمة قتل النفس بغير حق ، وظلمة أكل مال اليتيم ، وظلمة الغش في الكيل والميزان ، وظلمة ظلم القول . تلك ظلمات تلف السبل المفضية إلى نار جهنم. ولا يكشف عن هذه الظلمات إلا نور الله عز وجل الذي يهدي إلى أضدادها وهي : نور التوحيد ، ونور البر بالوالدين ، ونور صيانة حياة الأولاد ، ونور الاستعفاف من الفواحش ، ونور صيانة النفس البشرية من القتل ، ونور صيانة مال اليتيم من الضياع ، ونور الكيل والميزان بالقسطاس ، ونور العدل في القول حين يصعب ذلك .وهذه الأنوار التي يجمعها نور واحد يضيء صراط الله المستقيم الذي ينتهي إلى جنة النعيم .
والذي يجب ألا نغفل عنه هو أن الخروج من الظلمات إلى النور إنما يكون بإذن الله عز وجل ، فهو من يسمح به . وكثيرا ما يتعجب الناس من شخص ينتقل من ظلمة الضلال يكون قد اشتهر بها إلى نور الهداية ، ولا يسعهم إلا القول:" ما شاء الله "، وهو عبارة تدل على إذنه سبحانه وتعالى . ومن وجد نفسه خارجا من ظلمة أومن ظلمات إلى نور، فليحمد الله ربه الذي أذن له بذلك ، ولا ينسب ذلك إلى نفسه أو إلى أحد من الخلق بل يستحضر قول الله عز وجل : (( وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله )) .
اللهم إنا نعوذ بنورك وأنت نور السماوات والأرض من ظلمات الضلال ، ومن سلوك السبل المتفرقة عن سبيلك الصراط المستقيم .
اللهم إنا نعوذ بك أن تحجب عنا إذنك بالخروج من ظلمات الضلال إلى نور الهداية .
اللهم إنا نستدر عطفك ورحمتك وجودك فأنعم يا مولانا علينا بالخروج من الظلمات إلى النور .
اللهم إنا مفتقرون إلى إذنك ولا نزعم استحقاقه بل نرجوك يا منّان أن تمنّ به علينا .
اللهم اجعل القرآن الكريم الذي أنزلته على أشرف مخلوقاتك سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نور قلوبنا ينير ظلمتها ، واجعله جلاء كل هم وغم يصيبنا .
اللهم إنا نسألك في شهر نزول نورك العظيم أن تتقبل منا صيامنا وقيامنا ، وأن تستجيب دعاءنا وأنت سبحانك القريب الذي تجيب من دعاك .
اللهم إننا وجدنا عنتا في بلاء هذا الوباء الذي حل بنا ،فعجل يا مولانا برفعه عنا ،و اجعل الصيام والقيام يطردانه بإذنك ،وهيىء لخلقك سبل دفعه وعلاجه فكل شيء بيدك ، وأنت الشافي لا شفاء إلا شفاؤك، فاشف يا مولانا من ابتليتهم به شفاء لا يغادر سقما ولا ألما ، واحفظ يا مولانا من لم تبتلهم به منه .
اللهم إنا قد اشتقنا إلى ضيافة بيوتك ،فلا تحرمنا منها ، وقد زادنا رفع الأذان ونحن بعيدون عنها شوقا إليك ، فأذن لنا يا مولانا بضيافتك في بيوتك، وعجّل لنا ذلك، ونحن معافون آمنون غير خائفين ولا مفتونين آمين يا رب العالمين.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، والصلاة والسلام على أشرف المخلوقات سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 875