مسامرات الدعاة ( 2 )
جمال المعاند -إسبانيا
- فئام من المسلمين اضطرت للهجرة من بلاد الإسلام ولأسباب عدة، في غربة فرضت واقعاً ، وولدت فقهاً جديداً، وآليات من العمل الدعوي غير مسبوقة .
ففي فيافي الغربة تكثر المشاغل وتتنوع الاهتمامات، وحمل دعاة الإسلام على عواتقهم، إرشاد الضال ؛ وتشجيع الملتزم ؛ وجذب المخالف، حتى صيروا الكثير من السنن شعائر احتفالية، ومنها العقيقة ، والأعراس.... .
وتعد تلكم التجمعات مواطن ينشط فيها الدعاة، بأساليب تميل للطرافة، حتى لا تمل النفوس المواعظ ، أو تسأم من الإرشاد، وشأن المربين من عهد السلف ، تفضيل الإشارات على العبارات، فالاستعداد للتلقي لدى الناس في الغربة على الأخص، يعتمد على فضلة الفضلة من الأوقات، وإليك عزيزي القارئ مثالاً مما يحرص فيه الدعاة على إيصاله من المعلومات الشرعية .
كان ثمة عقيقة، وتقاطر الناس إليها، فعمد دعاة لجنة القرآن إلى الحضور دفعة واحدة يحيطون بشيخ قراء مرسيليا إحاطة السوار بالمعصم، وفي ذلك لفت الأنظار للتأدب مع العلماء، وفي الجلسات من هذا النوع، الجميع يقضي أوطاراً من حظوظ النفس بالكلام، ويزين الشيطان لكل اثنين النجوى، ولمح أحد الدعاة ذلكم الحال، فسأل عن مسألة فقهية تتعلق بالنية .
كانت المسألة "" هل يشترط لمن يريد الأذان النية ؟ """ .
أجاب الشيخ محمد بلمختار عضو إتحاد علماء المسلمين العالمي :
ذكر الإمام السيوطي في الأشباه والنظائر :
[ من الأمور المختلف في اشتراط النية فيها : الأذان ، وخطبة الجمعة، وغسل الميت، والخروج من الصلاة ] 1/47 .
وقال ابن حجر في الفتح:
[ وقد ذكر ابن المنير ضابطاً لما يشترط فيه النية مما لا يشترط فقال :
كل عمل لا تظهر له فائدة عاجلة ، بل المقصود به طلب الثواب فالنية مشترطة فيه ] 1/136
وتوجهت الأنظار لشيخ القراء فضيلة الشيخ إبراهيم شبيب، كأنها تستجدي من بحرعلمه، كان مطرقاً فلما أدركته سهام الأبصار قال :
[ ما نال حديث نبوي اهتماماً من العلماء ما ناله حديث أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه ، وقد كتبت فيه المدونات، وقال: عنه الإمام البيهقي ثلث العلم . أتدرون لماذا ؟
وسكت هنيهة من الوقت ، ثم أكمل حديثه ، لأن كسب العبد يقع بقلبه ولسانه وجوارحه، فالنية أحد أقسامها الثلاثة وأرجحها، (الأشباه والنظائر للسيوطي 1/76 ) . وغير واحد من العلماء، من أوصل حديث النيات إلى نصف العلم، وأحد أربعة أحاديث عليه مدار الإسلام ،.... .
وروي أن المولى جل شأنه أوحى إلى سيدنا داود عليه السلام :
( ليس كل من صلى قبلتُ صلاته، ولا من تصدق رفعتُ صدقته، ولا من نكس رأسه صار من الصالحين، إنما أتقبل من الأعمال ما أريد به وجهي ) .
"" النية رأس مال العلماء "" ولاذ بصمت كأنه يستحث العقول على التفكير .
ثم أتم كلامه :
النية فقهاً، إما لتميز عبادة عن عبادة، أو لتميز من عمل لأجله العمل عن غيره ، لذلك ذكر الإمام ابن القيم في كتابه الماتع " دار السعادة إلى منشور ولاية العلم والإرادة"، قول ابن أبي جمرة :
وددت لو أنه كان من الفقهاء من ليس له شغل، إلا أن يعلم الناس مقاصدهم في أعمالهم، ويقعد للتدريس في أعمال النيات .
ومن طرف الإمام البخاري وفقهه رحمه الله، أنه أقام هذا الحديث مقام خطبة جامعه الصحيح، وحذف جملة هي محل إشكال نحوي، ومن عادته سوق أجزاء متفرقة من الحديث حسب الباب، لكن شراح البخاري أجمعوا أن ذلك الحذف قصد به خشية أن يكون فيه نوع من تزكية النفس ] .
فسأل سائل عن الإشكال النحوي، واستخدام أسلوب التشويق هذا لفتة من فضيلة الشيخ إبراهيم، وهو من الأساليب الدعوية التي تعتمد مشاركة السامع الفطن .
قال الشيخ :
اتحاد الجواب والشرط ، في الجملة التي حذفها الإمام البخاري من تقديمه لأصح كتب المسلمين بعد القرآن الكريم
( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله، فهجرته إلى الله ورسوله) .
نلاحظ هنا تكرار الصيغة بذكر الله ورسوله، فبادئ ذي بدء، تعظيماً لذكر الله، وفاء الفصاحة كما يسميها أصحاب البلاغة، أو السببية عند النحاة، تعد تأكيداً للمعنى، ويقول أرباب القلوب: من كانت بدايته لله كانت نهاية لله، وعدم التكرار في جملة الدنيا والمرأة على تحقير تلكم النية، فهو حديث مهما كتب عنه لا يفيه حقه تماماً .
كان أول المتداخلين الشاب الداعية الألمعي يوسف بجداين ، مدرس علوم القرآن وعلم مصطلح الحديث، وهو كتلة نشاط لا تعرف السكون، فقال :
[ مما قرأت: لا ترحل من كون إلى كون، فتكون كحمار الرحى، يسير والمكان الذي ارتحل إليه ؛ هو المكان الذي ارتحل منه ، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكون، وأن إلى ربك المنتهى "" .
وأكمل الشيخ يوسف نقلاً عن ابن دقيق العيد :
[ اتحد الجواب والشرط ، لأنهما على تقدير من كانت هجرته إلى الله ورسوله- نية وقصداً – فهجرته إلى الله ورسوله- ثواباً وأجراً ] .إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام ص 61 .
وأثناء الجلسة، تلقيت اتصالاً من شيخنا الفاضل المفتي عمر دورمان لأمر خاص، ، وسمع طرفاً من الكلام، فأرسل رسالة قصيرة قال فيها : أعلم أنك شغوف بمثل هذه المجالس ، وسوف تطلب مني رأياً، لتدونه، فإليك رأيي :
[ النية والحرية البشرية:
ذلك أن الشريعة الإسلامية متشوفة دائماً لتحرير الإنسان من كل عبودية سوى عبودية الله تعالى. فقال الفقهاء مثلاً: إذا كان لرجل عبدين فنادى أحدهما ليعتقه، فأجابه الأخر وقال له أنت حر ظاناً أنه الذي يريد ، فإن الاثنين يعتقان ويصيران أحراراً، لأن الأصل في الإنسان أنه حر، كما قال الشريف التلمساني يستصحب الحال هنا .
ولكن إذا كان لرجل زوجتين فنادى إحداهما ليطلقها فأجابته الأخرى، فإن الطلاق يقع على المقصودة لا على من وقع عليها الطلاق، إلا إذا رفعت أمرها إلى القاضي فتطلق، لأن القاضي لا ينظر إلى النيات بل يحكم بالظاهر] .
قرأت رسالة الشيخ عمر دورمان على الحضور، فمهروها بالقبول والإعجاب على لفتة إفتاء دعوية .
وفي ما كان مثار نقع النقاش يخيم على الجميع، قال لي أخي الشيخ محمد بلمختار: سوف أستفسر من الشيخ الأخضر الأخضري عن الحديث، فهمست له اطلب منه رأياً مقاصدياً تحديداً، لحظات وأرسل لنا شيخنا العلامة الأخضري فقرئ الشيخ محمد :
[ هذا الحديث من أعظم ما تراعى فيه ظروف المكلف وحظوظه ، حيث تُخرج المقاصد التابعة، والتي يشترط فيها أن تكون مناسبة للمقاصد الأصلية، وفي الحديث، يتقلب فيه التوفيق و عدمه ، وينضبط القصد معانقاً للمراد الشرعي ، و يدفع الذهول عن النظر في مقام الامتثال فلا يتشبه بنائم أو مجنون...، و عند تلك العتبات يتخشع العاني إدباراً أو إقبالاً في كل الأفعال نقيراً أو قطميراً .
و في الحديث تحريض على المراتب العالية في القصود، دون أن يفرق بين التروك و الأوامر
دائما نقول : إذا كانت النبوة تحصل بالاجتهاد ، فالواقف دونها آثم ] ....
ثم عاد أحد الحضور إلى الشيخ إبراهيم و قال له :
ماذا يقصد حضرتكم "" النية رأس مال العلماء "" ؟، ضحك الشيخ، وسأله بدارج كلام المصريين، ""لسه فاكر""، تعلمون أن رأس المال هو ما ينفع للتجارة ، فالعلماء يتاجرون بالنيات على المستوى الشخصي والجمعي، فيعرفون كيف يكسبون المزيد من الحسنات، فمثلاً الدعوة إلى الله، ما من عالم إلا ويدرك أن دعوة إنسان هي دلالة على الخير، وبالتالي الحصول على أجور مضاعفة، فمن أرشد جمعاً إلى ذكر معين، فكل من عمل به، كسب الداعية أجراً مثلما يكسب العامل دون أن ينقص من أجره شيء .
بدأت أطباق الطعام ترد تباعاً، فما كان من العبد الفقير إلى الله، إلا لملمت الأوراق، وعندما عدت إلى المنزل، جلست أنضد الدرر، وأعملت الفكر، فقلت في نفسي ليتني قلت :
أن هذا الحديث، له دلالات أخرى منها :
إبهام الأجر يدل على عظم الجزاء .
وهو أهم دليل للفقهاء للعمل بأحاديث الآحاد .
وأنه مما أثار جدلاً فقهياً حول إفادة إنما للحصر، بين المنطوق والمفهوم، وللعلم الجمهور على تقديم المنطوق .