كل امرىء بما كسب رهين
الناس منذ بدء الخليقة صنفان : صنف يعتقد أنه إنما خلق لغاية، وآخر يعتقد أنه لا غاية من خلقه ، وسيستمر اعتقادهم على هذه الحال حتى نهاية العالم وقيام الساعة . ومعلوم أن لكل اعتقاد من الاعتقادين تأثير على أصحابه ، وهو الموجه لهم في سعيهم الدنيوي . ولئن بدا سعيهم متشابها في حياتهم ،فإنه مختلف باختلاف اعتقادهم . أما الاعتقاد بأنه وراء خلقهم غاية، فتترتب عنه قناعة راسخة بالمساءلة والمحاسبة في الآخرة عن كل فعل أو قول يصدر عن الإنسان في حياته الدنيا ، وأما الاعتقاد بأنه لا غاية من الخلق وهو اعتقاد بعبثيته ، فيترتب عنه ظن بأنه لا مساءلة ولا محاسبة ، وأن الأفعال والأقوال شأن دنيوي لا تتجاوز المساءلة والمحاسبة عنه الحياة الدنيا ، وهو ما لا يحصل عمليا في الدنيا بالنسبة لكثير من الأعمال والأقوال التي تمضي بلا مساءلة ولا محاسبة في ،الشيء الذي يجعل أصحاب الاعتقاد بعبثية الخلق يقدمون على ما يشاءون من أفعال أو أقوال لا يبالون بما لها من تبعات متحايلين للتملص من المساءلة والمحاسبة الدنيويتين عنها ،وفي ظنهم أنهم بمنجاة من مساءلة ومحاسبة عنها بعد رحيلهم إلى الآخرة .
وأصحاب هذا الاعتقاد لا يؤمنون بجزاء أوعقاب أخرويين عمّا يفعلون أو عمّا يقولون ، وهم يستخفون بالذين يؤمنون بذلك ، ويسخرون منهم ، ويصفونهم بالسذاجة ، ويشككون في عقولهم ، ويرونهم أصحاب أوهام وخرافات .
ولقد تناول القرآن الكريم والسنة المشرفة أحوال وأقوال الصنفين من المعتقدين بغائية الخلق والذين يقولون : (( وإنا إلى ربنا لمنقلبون )) ومن الظانين بعبثيته والذين يقولون : (( إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين )).
أما القائلون بالانقلاب إلى ربهم ،فيرجون من وراء كل سعي يسعونه أو قول يلفظونه جزاء منه بعد رحيلهم عن هذه الدنيا ، وأما القائلون بعدم بعثهم، فلا يرجون منه ذلك وفق ما يظنون من أن الحياة الدنيا هي آخر مطافهم مع أن الله عز وجل رهن كل امرىء بما كسب كما جاء في قوله تعالى : (( كل امرىء بما كسب رهين )) ،والرهن إنما هو قيد أو حبس ، الشيء الذي يدل على المساءلة والمحاسبة ،وهما في غاية الدقة كما جاء في قوله تعالى : (( يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا بره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره )) ، ومعلوم أن المثقال هو ما يعرف أو يوزن به ثقل الشيء ، والذرة هي أصغر نملة يضرب المثل بخفة وزنها وهو أقل القليل . وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الاية بالجامعة الفاذة ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال :" إنها أحكم آية في القرآن الكريم "، كما أن صعصعة بن ناجية لما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم واستقرأه القرآن، قرأ عليه هذه الآية فقال : "حسبي فقد انتهت الموعظة ، لا أبالي ألا اسمع من القرآن غيرها ".
ولا بد هنا من وقفة عند وزن أعمال الذين يقولون : (( وما نحن بمبعوثين )) ذلك أنه لا اعتبار لأعمالهم من الخير، فهي كعدمها ما دامت أعمال الخير مشروطة عند الله عز وجل بالإيمان ومنه قول : (( إنا إلى ربنا لمنقلبون )) وقد أكد عدم اعتبارها عنده سبحانه وتعالى قوله : (( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا )) .
ومعلوم أن الذين يقولون : (( إن إلى ربنا لمنقلبون )) ،وهو قول يعكس إيمانهم بالبعث والمساءلة والمحاسبة عمّا يعملون وما يقولون يستفيدون في حياتهم الدنيا من أعمالهم وأقوالهم كما يستفيد منها الذين يقولون : (( وما نحن بمبعوثين )) ولكنهم يرجون من ورائها جزاء في الآخرة ، وهو ما لا يرجوه منكرو البعث . ولقد ذكر الله تعالى في محكم التنزيل أعمالا يجازي عنها المؤمنون بالبعث لا يخطر ببال منكري البعث أنه يجازى عنها ومن ذلك قوله تعالى : (( ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون )) .
إن هذه الأحوال التي يمر بها المؤمنون بالبعث من شعور بالظمإ والنصب والمخمصة ، وإنفاق النفقة الصغيرة أو الكبيرة أو قطع واد قد تصدر عن منكري البعث ،ولا يكتب لهم بذلك عمل صالح، ولا يجزون عنه شيئا مع أنها نفس الأحوال التي تصدر عن المقرين بالبعث ، وذلك لاختلاف الاعتقاد بين هؤلاء وأولئك . وفساد اعتقاد من ينكرون البعث هو الذي يبعث في نفوسهم اليأس من الجزاء الأخروي عما يفعلون أو يقولون ،لأنهم يعتبرون الحياة الدنيا نهاية مطافهم أو محطتهم الأخيرة .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو أن بعض المحسوبين على المسلمين ممن يتبنون في حياتهم الطرح العلماني الذي يقصي الدين عموما من الحياة ،ودين الإسلام خصوصا ينكرون بحكم هذا الطرح المساءلة والمحاسبة والجزاء والعقاب في الآخرة ، ويرون أن أعمالهم وأقوالهم لا رقابة ولا متابعة عليها إلا رقابة ومتابعة القوانين الوضعية في الحياة الدنيا التي هي أساس ما يسمونه الدولة المدنية المقابلة لما يسمونه الدولة الدينية، لأن ما هو مدني عندهم خال بالضرورة مما هو ديني ، وإذا ما أقروا بشيء مما هو ديني لا يعدو أن يكون عندهم مجرد طقوس غيبية تعبدية تسمح بها الدولة المدنية باعتبارها شكلا من أشكال ممارسة الحرية الفردية ، وبهذا الاعتبار تتساوى عندهم الأديان ما صح منها وما بطل .
والإسلام الذي لا يلتزم به هؤلاء وإن زعموا انتماءهم إليهم يدحض طرحهم العلماني ،ذلك أن أعمال وأقوال البشر مؤمنهم بالبعث ومنكرهم له تراقب وتدونه ما كان منها وزنه مثقال الذرة ليسألوا عنه وليحاسبوا عليه جزاء أبديا إما في نعيم أو في جحيم . والفرق كما مر بنا بين مؤمنين بالبعث ومنكرين له أنهم قد يأتون نفس الأعمال والأقوال مما يعد منها حسنا أو خيرا إلا أن هؤلاء يجزون عنها أحسن الجزاء ، وأولئك تصير أعمالهم وأقوالهم هباء منثورا كما جاء في قوله تعالى : (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا )) ، وأما السيء من أعمالهم وأقوالهم، فيجزون عنه شر الجزاء .والمؤمنون بالبعث عسى ربهم أن يكفر عنهم سيئاتهم ويغفر لهم ، ويجعل كفة صالح أعمالهم وأقوالهم ترجح بكفة سيئها ،وقد يبدلها لهم حسنات رحمة وجودا منه سبحانه وتعالى لإيمانهم في حياتهم أنهم إليه راجعون ، وأنهم سيبعثون وسيحاسبون لا محالة .
اللهم إنا نشهدك أننا نؤمن إيمانا راسخا لا يخامره أدنى شك أو ريب أننا لا محالة إليك راجعون ، وأننا سنسأل ونحاسب بين يديك إذا بعثنا ، وأن أعمالنا وأقوالنا في هذه الحياة الدنيا ذات صلة بالآخرة لا تنفك عنها، فاغفر لنا ما أساءنا ، وتجاوز عنها ما لم ترض عنه منا ، وضاعف لنا أجر ما أحسنا لترجح كفة حسناتنا بكفة سيئاتنا . اللهم إنا نبرأ إليك ممن ينكرون البعث والحساب ،ونعوذ بك مما يقولون وما يظنون ، وما يروجون له مما لا ترضاه من باطل أقوالهم وأفعالهم ، وق اللهم المسلمين شرورهم، وبصّرهم بما يكيدون لهم من خبيث الكيد لتضليلهم بزخرف القول وباطله ، واجعل عبادك المؤمنين يزدادوا إيمانا كلما زاد كيد الكائدين وباطل المبطلين ، وقيّض اللهم للأمة المسلمة من يجدد لها أمر دينها ، ويحول بينها وبين ما يراد بها من تضليل في هذا الزمن الذي كثرت فتنه والتي نعوذ بك منها .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 883