( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )
اقتضت إرادة الله عز وجل أن تظل صلته بخلقه قائمة لا تنقطع ما داموا في حياتهم الدنيا يمتحنون ، واختار أن تكون هذه الصلة معهم عبارة عن صلاة يقفون خلالها بين يديه، ويتوجهون إليه بما تيسر من كلامه المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ويتخلل ذلك تسبيحه وتعظيمه مع أدعية مما علمهم في محكم التنزيل، وفي سنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم .
ولقد جعل الله عز وجل صلة الصلاة بينه وبين عباده المؤمنين من خلقه في أوقات معلومات من الليل والنهار تبدأ أول النهار وتنتهي بداية الليل ، وأباح لهم الصلاة فيما عدا ذلك من الأوقات التي يمكنهم التوجه فيها إليه بصلوات نوافل غير الصلوات المكتوبة .
وإذا كانت الصلة بين الخلق فيما بينهم وسيلة تقربهم إلى بعضهم البعض ، وتتولد عن ذلك وشائج تزيدهم ألفة ومحبة فيما بينهم، فإن صلتهم بخالقهم تجعلهم يتقربون إليه محبة فيه يبتغون بها محبته سبحانه لهم . ولا شك أن هذه الصلة بينه وبينهم تمكنهم من معرفته حق المعرفة وهم يستعرضون كلامه في لحظات الوقوف بين يديه . وكلما تلوا شيئا من كلامه تعرفوا إليه سبحانه وتعالى من خلال صفاته العلى وأسمائه الحسنى ، ومن خلاله نعمه وأفضاله . وما يزالون على تلك الحال في صلتهم اليومية به حتى يتشربون معرفته في نفوسهم ،فتظل معرفته سبحانه وتعالى ملازمة لهم خارج صلتهم به في صلواتهم، وهذا هو المقصود بهذه الصلة . ولا يدركون الغاية من صلة بربهم عن طريق الصلوات ما لم تظل معية الله سبحانه وتعالى ملازمة لهم في كل أحواله . وإذا ما لا زمتهم فإنها ستساعدتهم على الاستقامة على صراطه المستقيم الذي خط لهم في حياتهم الدنيا وهم ممتحنون فيها لأجل ذلك لينالوا جزاءهم في آخرتهم ، فيكون جزاء المستقيمين على صراطه المستقيم صلة دائمة بربهم سبحانه وتعالى هي أفضل من صلتهم به في حياتهم الدنيا ،وهم في نعيم مقيم لا مثيل له في حياتهم الدنيا بينما يحرم الناكبون عن صراطه المستقيم من صلتهم به ،وكفى به حرمانا وعذابا وهم في جحيم يذوقون فيه العذاب الأليم ، وهو جزاء جدير بمن دعاهم الخالق سبحانه وتعالى إلى صلة به في دنياهم، فأعرضوا عنها، وما الله سبحانه وتعالى بظلام للعبيد . والصلة بالله تعالى في عبادة الصلاة حجة للخلق أو عليهم لأنهم وهم يتلوا كلام ربهم سبحانه وتعالى يعطونه عهدا بالتزام ما يتضمنه من استقامة على صراطه المستقيم . فإذا تلوا فاتحة الكتاب في صلاتهم والتي لا تقبل صلاة بدونها على سبيل المثال فهم يقيمون بتلاوتها الحجة على أنفسهم بأنهم سيلتزمون صراط ربهم المستقيم، وذلك بقولهم كما علمّهم (( اهدنا الصراط المستقيم )) . وعلى هذا المثال يقاس كل ما يتلونهم من الذكر الحكيم في صلواتهم ، ويكون ذلك حجة لهم أو عليهم.
ومع صلة الصلوات اليومية لعباد الله المؤمنين بربهم سبحان وتعالى ، تفضل عليهم بصلة أسبوعية يجتمعون لها في بيوته ، وتحضرها ملائكته الكرام ، وتكون عبارة عن ذكر يسبق الصلاة ، وهو ذكر يعرضون خلاله أحوالهم في دنياهم على هديه سبحانه وتعالى الذي ضمنه كتابه الكريم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لقياس استقامتهم على صراطه المستقيم أو تنكبهم لها في تلك الأحوال.
ومعلوم أن الله عز وجل لما ختم رسالاته إلى خلقه بالرسالة الخاتمة المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ضمنها كل ما من شأنه أن يعرض لهم من أحوال إلى قيام الساعة , وفيها عرفهم سبحانه بصفاته وأفعاله وأفضاله ونعمه ،و بما سخر لهم ، ودلهم على ما يجعل حياتهم الدنيا تسير سيرا وفق صراطه المستقيم الذي خطه لهم ، كما بيّن لهم ما يضبط أحوالهم وعلاقاتهم ...
ولقد وضع سبحانه وتعالى منهجا في رسالته الخاتمة قوامه ذكر أحوال بعض خلقه فجعلها أسباب نزول ما نزل في شأنها من هدي يهم ويعني جميع خلقه إلى قيام الساعة لا يستثنى منهم أحد . وهذا المنهج هو سر تغطية الرسالة الخاتمة لكل أحوال الخلق على اختلاف العصور . ومن خصائص هذا المنهج الرباني أن ما يسرد من قصص في الرسالة الخاتمة يكون للعبرة وليس لمجرد الإخبار ، وينهل منه الخلق ما به يستقيمون على صراط ربهم المستقيم .
وما شرع الله عز وجل صلة الخلق به في صلاة يوم الجمعة ظهرا إلا ليجتمعوا في بيوته لسماع الذكر الذي هو استعراض لضوابط ضمنها رسالته الخاتمة إليهم قرآنا وحديثا لتضبط بها أعمالهم وأحوالهم وعلاقاتهم ، وكل ما يعرض لهم في حياتهم . وهذه الضوابط هي ما يمكّنهم من الاستقامة على صراطه المستقيم في حياتهم الدنيا ، ويفوزون بذلك في آخرتهم .
ولقد كان ذكر الجمعة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهد خلفائه الراشدين ، وعلى عهد التابعين ، وعلى عهد من سار على نهجهم من بعد عبارة عن عرض ما يطرأ على أحوال المؤمنين خلال الأسبوع في ذكر الجمعة ، حيث تعرض تلك الأحوال على ضوابط الصراط المستقيم ليقوموا بتصحيح ما تنكب عنه منها .
ومع تراخي الزمن حدث انفصام بين ذكر الجمعة وبين أحوال الناس بحيث صار ما يستعرض من ذكر في واد وأحوالهم في واد آخر ، الشيء الذي أفقد الذكر قيمته ، وحاد به عن الغاية التي أرادها الله سبحانه وتعالى منه ، وترتب عن ذلك استثقال الناس هذا الذكر إلى درجة التبرم منه لانعدام التناغم بينه وبين ما يطرأ على أحوالهم مما يحتاجون معه إلى توجيهات توجههم إلى ما يعالجها على ضوء كتاب ربهم وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لتطمئن بذلك قلوبهم بأنهم على هدي خالقهم وعلى صراطه المستقيم .
ولقد لحق ذكر الجمعة تحوير عن غايته حيث جعله ولاة الأمور في مختلف العصور التالية لعصر النبوة والخلافة الراشدة ، وما تلاها من عصور الصلاح وسيلة لتوطيد حكمهم ، وإخضاع رعاياهم له دون مبالاة بانضباطه لضوابط شرع الله عز وجل ، وهو ما جعل ثقة الناس يفقدون الثقة قي ذكر الجمعة ، ويتحول لقاؤهم يوم الجمعة إلى مجرد عادة ليس لها من العبادة إلا الاسم . ولم يعد ذكر الجمعة يفعل فعله في النفوس ليردها إلى صراط ربها المستقيم .
ولقد بلغ الأمر ببعض ولاة الأمور في مختلف العصور أن فرضوا على من يتولون تذكير الناس بذكر الجمعة انتقاء ما يريدونه مما يوطد سلطانهم ويخدم مصالحهم مع تعمد تحوير كلام الله عز وجل وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم يخدم هذا التوطيد ، ولا يحقق هدف الاستقامة على صراط الله المستقيم . ولقد انتهكت كثير من حدود الله عز وجل بسبب هذا التحوير مما جعل الناس يفقدون الثقة في ذكر الجمعة ، ويعتبرونه مجرد وسيلة دعاية لأصحاب السلطان خصوصا منهم الذين لا يلتزمون بشرع الله عز وجل فيما يعرض لأحوال الناس .
ونظرا لأهمية ذكر الجمعة، فقد أمر الله تعالى في محكم التنزيل بالسعي إليه سعيا مع الانقطاع إليه دون غيره من أنواع السعي الأخرى التي لا يمكن أن تستقيم بدون الانضباط لضوابطه، فقال سبحانه وتعالى آمرا عباده المؤمنين : (( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون )) ، والبيع في قوله تعالى يشمل كل ما سوى ذكر الجمعة من معاملات وأحوال . وقوله تعالى : (( ذلك خير لكم )) يفيد التفضيل لأن كلمة خير كما يقول أهل اللغة أصلها أخير وهو اسم تفضيل على وزن أفعل. وقوله تعالى (( إن كنتم تعلمون )) فيه تنبيه إلى ما في ذكر الجمعة من خير يفضل ما سواه من أحوال ومعاملات . ولو استيقنت النفوس هذا العلم الذي نبهها الله عز وجل إليه لسعت إليه معرضة عمّا سواه ، ولما أصابها الضجر منه وهي تسمعه ، ولما استثقلت سماعه . وما يحصل الضجر منه واستثقاله إلا إذا حاد عن غايته أو كانت النفوس التي تتلاقاه معرضة وناكبة عن صراط ربها المستقيم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو عود ذكر الجمعة إلى بعض المساجد في بلادنا بعد غياب طويل سببه الجائحة التي حلت بالعالم ، وفرض على الناس حجرا حال دون ذكر الجمعة لشهور . ومع استمرار الجائحة وتعايش الناس معها بالعودة إلى مختلف أنشطتهم وأحوالهم ومعاملاتهم كان لا بد أن يطالب الناس بعودة ذكر الجمعة على غرار عودة غيره من أحوالهم إلى مما لاغنى عنه في حياتهم ، وهم أشد ما يكونون حاجة إلى ذكر الجمعة الذي يؤطر كل تلك الأحوال ليستقيموا على صراط ربهم المستقيم وهم يخوضون غمار حياتهم الدنيا . ولم تجد الوزارة الوصية على الشأن الديني بدا من أن تستجيب إلى مطلبهم مع اتخاذ الحيطة والحذر من الجائحة ، ونهج أسلم سبيل للتعايش معها في بيوت الله عز وجل على غرار التعايش معها في مختلف المرافق العامة .
والمأمول أن تكون مناسبة عود ذكر الجمعة فرصة لمراجعة الوزارة الوصية على الشأن الديني أسلوب تعاملها مع ذكر الجمعة بحيث يؤدي الدور الذي أراده له الله عز وجل، فيكون عبارة عن تنزيل كلامه سبحانه وتعالى وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم على أحوال الناس المعيشة بأسلوب يجعلهم يلمسون عمليا أو إجرائيا تغطية ذكر الجمعة لأحوالهم وظروفهم فيتناغم بذلك ذكر الجمعة مع تلك الأحوال ، وهو السبيل الأنجع لربطهم ربطا صحيحا به ، وجعلهم يسترجعون ما فقد من ثقة منه في غياب ذلك التناغم . ولا يعقل أن يظل ذكر الجمعة في واد ، وأحوال الناس في واد آخر، الشيء الذي يجعلهم لا يقبلون عليه ،ولا يرون حاجة أو ضرورة إليه . ومما يجب على الوزارة الوصية ألا تمنع الخطباء من ربط ذكر الجمعة بأحوال الناس وما يطرأ عليها ، وألا تقيد حريتهم بذكر تفرضه فرضا ، وتمليه عليهم إملاء أو تمنعه من ذكر تدعو الظروف والضرورة إليه ، وأن تتنكب أيضا أسلوب معاقبة الخطباء الذين يقومون بما يمليه عليهم واجب الذكر بغزلهم من منابر الجمعة ، وقد أصبح ذلك دأبها، وهو تصرف تهدد به كل من طرق موضوعا من مواضيع الساعة يهم أمرا من أمور المسلمين . وعلى من تقع عليهم مسؤولية حراسة الملة والدين من أهل العلم خصوصا المنضوين منهم تحت المجالس العلمية بما فيها أعلى تلك المجالس ألا يقفوا موقف المتفرجين من فصل ذكر الجمعة عن أحوال الناس ، ولجوء الوزارة الوصية على انتقاء ما يجب أن يقال في ذكر الجمعة ، وما لا يجب دون مراعاة ما تفرضه الظروف والأحوال من ذكر يناسبها لا مندوحة عنه ، ولا يرضى الله عز وجل أن يمنع أو يعطل . وعلى هؤلاء أن يستحضروا أنهم سيسألون أمام الله عز وجل يوم القيامة عن واجب صيانة ذكر الجمعة من كل ما يحيد به عن غايته خصوصا وأنهم طرف في الوزارة الوصية على الشأن الديني ، كما أنهم سيسألون عن كل خطيب منع ظلما من الخطابة لمجرد أنه ربط بين ذكر الجمعة وأحوال المسلمين في بلادنا وفي غيرها من بلاد الإسلام ، ودعاهم إلى صراط ربهم المستقيم . وإن كل خطيب منع من ذلك سيشد بتلابيبهم يوم القيامة لمقاضاتهم أمام عدالة الله عز وجل لأنهم مسؤولون عن صيانة ذكر الجمعة وحماية من يبلغه إلى الناس وهولا يخاف في الله لومة لائم .
اللهم إنا نحمدك على إذنك سبحانك بعود ذكر الجمعة الذي حرمنا منه لشهور ، ونعوذ بك أن نحرم منه مستقبلا بظرف كظرف الجائحة . ونستغفرك من ذنوب كانت سببا في حرماننا من هذا الذكر . ونسألك اللهم مما جعلت من خير في هذا الذكر. ونعوذ بك أن تضيق أو تتضجر نفوسنا منه ، فيطبع بسبب ذلك على قلوبنا . اللهم اجعل ساعة ذكر الجمعة فتحا لأبواب رحمتك ومغفرتك ، وارفع اللهم ببركة ذكر الجمعة عنا وبال هذا الوباء الذي حل بالناس وطال مكثه بينهم . اللهم أرنا فضلك علينا ورحمتك بنا بالتعجيل برفع هذا الوباء ولا تبقي له أثرا فينا . اللهم كاشف الضر عجل لنا بكشفه عنا .
والحمد كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه حمدا تتم به الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 899