إشراقات باهرة من سورة الأنعام 5

( ثورة أخلاقية )

د. فوّاز القاسم / سوريا

وبُعث رسول الله [ ص ] والمستوى الأخلاقي في الجزيرة العربية في الدرك الأسفل في جوانب منه شتى - إلى جانب ما كان في المجتمع من فضائل الخامة البدوية .

كان التظالم فاشيا في المجتمع , تعبر عنه حكمة الشاعر:زهير بن أبى سلمى:

( ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه *** يهدّم , ومن لا يَظلم الناس يُظلم )

ويعبر عنه القول المتعارف: "انصر أخاك ظالما أو مظلومًا" .

وكانت الخمر والميسر من تقاليد المجتمع الفاشية ومن مفاخرة كذلك ! يعبر عن هذه الخصلة الشعر الجاهلي بجملته . . كالذي يقوله طرفة بن العبد:

( فلولا ثلاث هن من زينة الفتى *** وجدّك لم أحفل متى قام عودي)

( فمنهن سبقي العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل بالماء تزبد !)

وكانت الدعارة منتشرة في المجتمع الجاهلي ، حتى أن بيوتها كانت تُنصب لها رايات ...!!!

وكان في استطاعة محمد [ ص ] أن يعلنها دعوة إصلاحية , تتناول تقويم الأخلاق , وتطهير المجتمع , وتزكية النفوس , وتعديل القيم والموازين . .

وكان واجدا وقتها - كما يجد كل مصلح أخلاقي في أية بيئة - نفوسا طيبة , يؤذيها هذا الدنس ; وتأخذها الأريحية والنخوة لتلبية دعوة الإصلاح والتطهير . .

وربما قال قائل : إنه لو صنع رسول الله [ ص ] ذلك فاستجابت له - في أول الأمر - جمهرة صالحة ; تتطهر أخلاقها , وتزكو أرواحها , فتصبح أقرب إلى قبول العقيدة وحملها . . بدلا من أن تثير دعوة أن لا إله إلا الله المعارضة القوية منذ أول الطريق

ولكن الله - سبحانه - وهو العليم الحكيم , لم يوجه رسوله [ ص ] إلى مثل هذا الطريق . .

لقد كان الله - سبحانه - يعلم أن ليس هذا هو الطريق !

كان يعلم أن الأخلاق لا تقوم إلا على أساس من عقيدة راسخة , تضع الموازين , وتقرر القيم ، وتصنع السلطة التي ترتكن إليها هذه الموازين والقيم ;

كما تقرر الجزاء الذي تملكه هذه السلطة وتوقعه على الملتزمين والمخالفين . وأنه قبل تقرير تلك العقيدة تظل القيم كلها متأرجحة ; وتظل الأخلاق التي تقوم عليها متأرجحة كذلك ; بلا ضابط , وبلا سلطان , وبلا جزاء !

فلما تقررت العقيدة - بعد الجهد الشاق - وتقررت السلطة التي ترتكن إليها هذه العقيدة . . لما عرف الناس ربهم وعبدوه وحده . . لما تحرر الناس من سلطان العبيد , ومن سلطان الشهوات سواء . . لما تقررت في القلوب:"لا إله إلا الله" . . صنع الله بها وبأهلها كل شيء مما يقترحه المقترحون . .

تطهرت الأرض من الرومان والفرس . . لا ليتقرر فيها سلطان العرب . . ولكن ليتقرر فيها سلطان الله . . لقد تطهرت من الطاغوت كله:رومانيا وفارسيا وعربيا على السواء .

وتطهر المجتمع من الظلم الاجتماعي بجملته . وقام النظام الإسلامي يعدل بعدل الله , ويزن بميزان الله ويرفع راية العدالة الاجتماعية باسم الله وحده ; ويسميها راية الإسلام , لا يقرن إليها اسما آخر ; ويكتب عليها:"لا إله إلا الله" !

وتطهرت النفوس والأخلاق , وزكت القلوب والأرواح ; دون أن يحتاج الأمر إلى الحدود والتعازير التي شرعها الله - إلا في الندرة النادرة - لأن الرقابة قامت هنالك في الضمائر ; ولأن الطمع في رضى الله وثوابه , والحياء والخوف من غضبه وعقابه قد قامت كلها مقام الرقابة ومقام العقوبات . .

وارتفعت البشرية في نظامها , وفي أخلاقها , وفي حياتها كلها , إلى القمة السامقة التي لم ترتفع إليها من قبل قط ; والتي لم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل الإسلام . .