( ود كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق )
من المعلوم أن الأمة المؤمنة إنما تنهل من كتاب الله عز وجل، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم حيث تأتمر بما جاء فيهما من أوامر ، وتنتهي عما جاء فيهما من نواه ، ولا يصح إيمانها إلا بذلك مصداقا لقول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وأنتم تسمعون ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون )) . إن هذا أمر إلهي للمؤمنين بالانقياد لأوامره ونواهيه بموجب عهد الإيمان بينهم وبين خالقهم سبحانه وتعالى ، وهو انقياد لا تراجع عنه ، كما أنه يجمع بين القول والفعل ، لأنه لا يكفي ادعاءه باللسان بل لا بد فيه من أفعال .
وانطلاقا من تحكيم المؤمنين كتاب الله عز وجل في حياتهم ، فإن علاقاتهم مع غيرهم ممن لا يدينون بدينهم بكل فئاتهم من كفار ومشركين ومنافقين وأهل كتاب قد حددها لهم الخالق سبحانه وتعالى بدقة وجعل لها حدود لا ينبغي خروجهم عنها أو تجاوزها .ومما يدخل ضمن تلك العلاقات تحديد كيفية التعامل مع هؤلاء تعاملا لا ينقض إيمانهم ، ولا يشوش عليه ، وقد يكون ذلك إما بنهي أو بتحذير كما هو الشأن في قوله تعالى مخاطبا المؤمنين إلى قيام الساعة : (( ودّ كثير من أهل الكتاب لو يردّونكم بعد إيمانكم كفّارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبيّن لهم الحق )) ، إنه تحذير إلهي من كيد يضمره كثير من أهل الكتاب للمؤمنين بدافع الحسد بعدما تبيّن لهم أنهم على حق كما جاء فيما أنزل الله عليهم ، وهم يعلمونه جيدا وقد استيقنته قلوبهم إلا أنهم لم يستسيغوا لمكابرتهم وعنادهم أن يكون المسلمون على حق بهذا يودون بقاءهم على ضلال كما كانوا قبل أن يكرمهم الله عز وجل بنعمة الإسلام ، كما أنهم لم يقبلوا أن يدخلوا في هذا الدين ، ويصبحوا بذلك تابعين له خصوصا وأن ما أنزل عليهم قد ناله التحريف الذي فضحه القرآن الكريم ، ومن ذلك التحريف إنكار نبوة ورسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد شهد القرآن الكريم أنهما نبوة ورسالة مذكورتان في كتبهم.
وهذا الذي يودّه الكثير من أهل الكتاب يكون إما برد أهل الإيمان إلى ما كانوا عليه من كفر قبل إيمانهم أو بالتشويش على دينهم الحق من خلال جعلهم تبعا لهم فيما يدينون به مما ابتدعوه من تلقاء انفسهم ، ولم ينزل به الله عز وجل من سلطان كأن يجعلوا المؤمنين يسايرونهم أو يجارونهم على سبيل المثل لا الحصر فيما يعتقدون من قبيل نسبة الولد لله تعالى عن ذلك علوا كبيرا أو ممارسة أفعال أو طقوس تتعلق بهذا الاعتقاد الفاسد الذي يفسد الإيمان بالله تعالى المنزه عن الولد .
وإذا كان لهذا النص القرآني المحذر من كيد كثير من أهل الكتاب سبب نزول والوحي ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن الحكم المترتب عنه سائر المفعول إلى قيام الساعة ، ذلك أن هذه الكثرة منهم موجودة دائما وفي كل عصر ومصر ، ولن تتخلى أبدا عمّا تودّه من رد المؤمنين كفارا بعد إيمانهم ، وهي على يقين أنهم على حق ، وأنها على باطل .
ومما يتعيّن على الأمة المؤمنة على الدوام إلى قيام الساعة أن تأخذ التحذير الإلهي من كيد كثير من أهل الكتاب على محمل الجد ، وألا تغفل عنه أو تستخف به أو تهوّن وتقلل من خطورته على إيمانها .
وبعد ذلك التحذير مباشرة يقول الله عز وجل مخاطبا عباده المؤمنين : (( فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شيء قدير )) . والعفو والصفح من المؤمنين عما يكيده لهم كثير من أهل الكتاب هو حملهم على مكارم الأخلاق بالترفع عن كيد هؤلاء والإعراض عنه عسى أن يكون ذلك حافزا لهم على التراجع عما يريدونه من سوء بأهل الإيمان ، وعسى أيضا أن يكون ذلك سببا في عودتهم إلى الحق الذي لا يخفى عليهم وهو مذكور فيما أنزل إليهم ، ومع هذا وذاك فإن الله تعالى يتولّى أمر الرد على كيدهم كما حصل زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم لمّا تمادوا في عدائهم له عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين ، وهو أمر يتكرر في كل زمان إلى قيام الساعة . وقد ذكر المفسرون أن دعوة المؤمنين إلى العفو والصفح قد نسخها إتيان أمر الله تعالى حين أمر رسوله صلى الله عليه بردعهم لرد كيدهم وعدوانهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما يتكرر كل سنة مع حلول العام الميلادي الجديد حيث يجاري ويقلد بعض المؤمنين التقليد الأعمى أهل الكتاب في احتفالهم بمولد السيد المسيح بن مريم عليهما السلام ، وهو ما لم يسنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يأمر به ،علما بأن هذا الاحتفال يتعلق باعتقاد فاسد مفاده أن المسيح هو ابن الله تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ، وليس هو مجرد احتفال بحلول عام جديد متزامن مع الاحتفال بمولده عليه الصلاة والسلام كما يزعم المقلدون ، لأنه لا يمكن بحال من الأحوال الفصل بين الاعتقاد بأبوة الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وببنوة المسيح عليه السلام عند أهل الكتاب وبين مظاهر الاحتفال بهذا الاعتقاد الفاسد . وبناء على هذا تعتبر مشاركة بعض المؤمنين لهم في احتفالهم ذي الطابع العقدي الفاسد وقوعا فيما حذر منه الله عز وجل من ردة إلى كفر بعد إيمان وهو ما يودّه كثير من أهل الكتاب . ولا يمكن الجمع بعد كلمة التوحيد المتضمنة في سورة الإخلاص المنزهة لله تعالى عن الوالد والولد والكفء وبين تقليد من يزعمون له الولد تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا في احتفال يعتبر نقضا لإخلاص التوحيد لله عز وجل .
وإن من يتذرع بذريعة الاحتفال بعام جديد، شأنه كمن قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الحلال بيّن والحرام بيّن ، وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس ، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات ، وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ، ألا وإن لكل ملك حمى ، ألا وإن حمى الله محارمه ، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله ، وإذا فسدت ، فسد الجسد كله ألا وهي القلب ".
إن هذا الحديث يشبّه من يقرب من محارم الله عز وجل من خلال الإقبال على ما يلتبس بها مما يظن غير أنه ليس منها براع يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه ،أي وقوعه فيه لا محالة ، وهذا هو حال من يجاري أهل الكتاب في احتفالهم بالمسيح عليه السلام باعتباره ولدا لله تعالى عن ذلك علوا كبيرا ، وهو يتذرع بالاحتفال بحلول عام جديد ، ولو أنه استبرأ لدينه وعرضه بترك هذا الاحتفال لكان خيرا له .
اللهم إنا نسألك صلاح مضغة القلب ، ونعوذ بك من فسادها ، اللهم إنا ننزهك عما ينسب لك من ولد تعاليت عن ذلك علوا كبيرا ، ونشهد لك مخلصين بالوحدانية ، ونبرأ إليك من سفه من يقلدون أهل الكتاب فيما له صلة من احتفال بفاسد اعتقادهم في عبدك ورسولك المسيح عيسى بن مريم عليهما السلام .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 962