(لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي)
(لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها )
من المعلوم أن إرادة الله عز وجل اقتضت أن تجعل الإنسان في علاقته مع خالقه أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الإقرار له بالألوهية والربوية مع العبودية له ، وإما الإقرار بذلك لغيره مهما كان هذا الغير أصناما أو أوثانا كما كان الأمر في الماضي ولا زال كذلك إلى يومنا هذا في بعض جهات المعمور ، أو أشخاصا أو أهواء ... أو غير ذلك، وكل ذلك يسمى طاغوتا .
وأمام هذا الخيار الذي جعله سبحانه وتعالى أمام الإنسان ، فإنه قد جعل حياته الدنيا اختبارا وابتلاء ، وجعل آخرته جزاء على اختياره الذي اختاره بنفسه ولا يكره عليه ، وهو حرا فيه حرة تامة كاملة .
ولقد أقام الله عز وجل الحجة على الناس بخصوص الخيار الذي جعله رهن إشارتهم ، وذلك ببعث رسله صلواته وسلامه عليهم أجمعين يخبرونهم عن طريق الرشد ، وعن طريق الغي ، ولا عذر لأحد بالتباس الطريقين عليه، وقد ذكر ذلك سبحانه وتعالى في الرسالة العالمية الخاتمة الملزمة للناس جميعا حتى قيام الساعة حيث قال : (( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل )) ، إنه تبشير بالفوز بالنعيم عند اختيار طريق الرشد ، وإنذار وتحذير من الجحيم عند اختيار طريق الغي ، ولا حجة للناس على الله عز وجل بعد بشارة وإنذار الرسل صلواته وسلامه عليهم أجمعين .
ولقد تعدد في الرسالة الخاتمة حديث الله عز وجل عن طريق الرشد وطريق الغي ، وقد قص فيها علينا قصص أتباع كل طريق منهما ، وبشر أصحاب الرشد بالفوز ، وتوعد أصحاب الغي بالخسارة . ومما جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى : (( لا إكراه في الدين قد تبيّن الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم )) .
و لقد أقام الله تعالى بهذا الحجة على الناس بأنه قد مكنّهم من خيارين اثنين ، خيار سلوك سبيل الرشد ، وخيار سلوك سبيل الغي ، ولا عذر لهم بعد هذه الحجة فيما يختارونه خصوصا وقد بيّن لهم سبيل الرشد الذي هو الإيمان به إلها وربا لا شريك له ،مع طاعته فيما أمر وما نهى ، وسبيل الغي الذي هو كفر به جل وعلا ، وإيمان بالطاغوت على اختلاف أنواعه من أصنام وأوثان وأشخاص وأهواء ... وكل ذلك اتباع وطاعة لإبليس اللعين المتمرد على خالقه سبحانه وتعالى ، والداعي الناس للتمرد عليه ، ولهذا يعبر عن الشيطان الرجيم بالطاغوت ، وهو رمز الكفر والجحود بكل أشكاله وأساليبه.
ولقد ضمن الله عز وجل لمن يكفر بالطاغوت ، ويؤمن به نجاة في الآخرة يوم يبعث الناس للمساءلة والمحاسبة ، وشبه حاله بحال من المتمسك بعروة ، وهي حلقة تكون من حبل وثيق محكمة الشد لا تنفصم عما شد إليه ، ولا يخشى المستمسك بها سقوطا وهو يواجه خطرا إما متسلقا إلى الأعلى أو نازلا إلى الأسف . وحال المستمسك بالعروة الوثقى على وجه الحقيقة، هو مجازا حال الكافر بالطاغوت والمؤمن بالله تعالى ، وقد جاء في كتب التفسير أن الإيمان بالله عز وجل هو نفسه تلك العروة .
وإذا كان هذا شأن المؤمن بالله تعالى والكافر بالطاغوت ، فإنه على العكس من ذلك المؤمن بالطاغوت والكافر بالله تعالى شأنه استمساك بعروة منفصمة من حبل منفصم غير وثيق ، وهو معرض للخطر صعودا إلى أعلى أو نزولا إلى أسفل .
ولا شك أن المؤمن بالله تعالى والكافر بالطاغوت يلازمه اليقين بأنه قد اختار سبيل الرشد مع طمأنينة وراحة النفس التي وعد بها وعدا ناجزا من خالقه جل في علاه ، بينما الكافر بالله تعالى والمؤمن بالطاغوت يلازمه الشك مع اضطراب النفس وقلقها ، وكل ما يستيقنه أنه قد اختار سبيل الغي طواعية ودون إكراه مع أنه على علم ومعرفة ويقين بسبيل الرشد الذي تنكبه اختيارا منه ، وهو على يقين بما توعده خالقه سبحانه وتعالى من سوء العاقبة بسبب ذلك مهما حاول إخفاء ذلك أو التمويه عليه .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه من أراد لهم الله عز وجل فضلا منه ونعمة أن يكونوا من الراشدين المستمسكين بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها إلى ما يحاك لهم في هذا الظرف بالذات من مؤامرات خطيرة ومكشوفة لتشكيكهم في وثاقة عروتهم من أجل صرفهم عنها ، وجرهم إلى سبيل الغي والطاغوت ، وذلك من خلال ما ينشره بعض السفهاء المأجورين من طرف أعداء الإسلام ومن يوالونهم من المنافقين المحسوبين على الإسلام أو الذين يدعون ذلك كذبا يوميا عبر وسائل التواصل الاجتماعي من افتراءات على كتاب الله عز وجل، و على سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالطعن في مصداقيتهما حتى بلغ الأمر عند بعضهم بنفي صحة المصحف الشريف الذي وصل إلينا محفوظا في الصدور أولا ، وهو أوثق حفظ وعد به الله عز وجل حيث نقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشافهة ومباشرة كما علمه جبريل عليه السلام ، ثم بعد ذلك في الألواح حجارة ،وجلودا وعظاما ، وسعف نخيل ، والتي نقل منها إلى الأوراق بعد ذلك وجمع في كتاب هو المصحف الشريف ، وقد دون في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يشكك في ذلك إلا جاهل أو مكابر. وليست هذه هي المرة الأولى التي تشاع في الناس مثل هذه الهرطقات ، ذلك أن الاستشراق الحاقد على الإسلام في القرنين الماضيين قد انبرى لها بكل الطرق الخبيثة والماكرة ، ثم أوكل بعذ ذلك إلى المنافقين المأجورين من طوابيره الخامسة مهمة إشاعة هذه الهرطقات بين المؤمنين نيابة عنه . ومعلوم أنه كلما أراد أعداء الإسلام تمرير مؤامرة مكشوفة مهدوا لها بتسويق بعض هرطقاتهم من أجل تهييء الأجواء لما يريدون تمريره مما فيه شر بالإسلام والمسلمين . ولقد كثرت اليوم الفيديوهات المنشورة على وسائل التواصل الاجتماعي والتي يجمع بينها هدف تشكيك المؤمنين في وثاقة عروتهم التي يستمسكون بها لصدهم عنها ، ومن أجل إعدادهم لمؤامرة ما يسمى بالديانة الإبراهيمية وهو دين جديد يراد به تهميش الإسلام ، وهي الأكذوبة التي يراد من ورائها طمس معالم أرض الإسراء والمعراج المهددة بخطر التهويد .
ولهذا على المستمسكين بالعروة الوثقى أن يثبتوا في هذا الظرف بالذات ويزدادوا تشبثا بها ، وألا يخامرهم أدنى شك في وثاقتها كما ثبت الذين كانوا من قبلهم ، وأن يكون ردهم على المشككين فيها بالمزيد من التمسك بها وإظهاره دون خوف أو تردد ، والمزيد من الإعراض عن الطاغوت بكل أشكاله وأنواعه وأصباغه التي تحاول الطغيان والسيطرة على كل نواحي الحياة تحت شعارات مبهرجة كاذبة ومتهافتة من أجل إغراء أصحاب العروة الوثقى بترك الاستمساك بها ، والركون إلى عروة الطاغوت المنفصمة ، وذلك بالتركيز على الناشئة والأغرار مستغلين براءتهم للتغرير بهم ، ودفعهم إلى نقض العروة الوثقى .
اللهم اجعلنا من الراشدين فضلا منك ونعمة ، وكد بكيدك المتين الشديد من يكيد للإسلام والمسلمين ، وقابل مكرهم بمكرك فأنت خير الماكرين .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 966