حديث رمضان :( الحلقة الرابعة ) (( وما قدروا الله حق قدره ))
مر بنا في الحلقات السابقة من هذا الحديث الرمضاني أن المقبل على مائدة الله عز وجلي في ليالي هذا الشهر الفضيل يصيب منها ما يريح باله ، ويبعث الطمأنينة في نفسه ، وذكرنا فيما سبق أن عقدته الوجودية تنحل باطلاعه على طبيعة خلقه ، و على الغاية منها ، وذكرنا أيضا أنه مما يرتبط بحقيقته الوجودية تربص عدو لدود به وهو إبليس اللعين من أجل أن يجعل مصيره الأخروي مصيرا محزنا ومخزيا في نفس الوقت ، وقد حذر الله تعالى بني آدم من هذا المخلوق الشرير بعدما كشف لهم عن حقيقته وما وقع بينه وبين أبويهما .
ولا شك أن الإنسان حين يعرف حقيقته الوجودية ، ويعرف عدوه اللدود في هذه الحياة الدنيا التي خلق ليبتلى فيها ، ويجازى عما عمله بنعيم أو جحيم أبديين، فإنه يفكر للتو في معرفة من خلقه ليبتليه ويجازيه ، ويلتمس ذلك في كتابه الكريم ، فتصادفه العديد من الآيات الكريم التي يعرف فيها الخالق سبحانه وتعالى بذاته المقدسة من خلال أسمائه الحسنى ، وصفاته المثلى ، ومن خلال نعمه السابغة ، ورحمته الواسعة ...إلى غير ذلك مما يصب في معرفة الخلق به .
ولمّا كانت طبيعة الإدراك عند الإنسان تعتمد على ما تزود به حواسه عقله ، فإن أول ما يخامره أو يخطر بباله ، وهو في بداية عهده بالوعي في صباه الانشغال بمعرفة خالقه بالطريقة التي ألف أن يتعرف بها على ما يحيط به من مخلوقات مثله ،ويكون أول ما يتساءل عنه هو مدى إمكانية معرفة خالقه جل وعلا ، فيجيبه بتوجيهه إلى سبل معرفته التي ليست مما ألفه من سبل إدراك المخلوقات فيقول عز من قائل عن ذاته المقدسة : (( ليس كمثله شيء وهو السميع البصير )) ، وباستيعاب الإنسان دلالة هذه الآية، ينصرف للتو عن التفكير في إدراك خالقه الذي ليس كمثله شيء بالطريقة التي ألف بها إدراك كل المخلوقات ، لأن الخالق سبحانه وتعالى ليس كمخلوقاته المتحيزة في أحياز . ولقد ذيّل الله تعالى نفي المثيل له بذكر صفتين من صفاته المثلى، وهما السمع والبصر ، وهاتان الحاستان في الإنسان هما اللتان يعول عليهما هذا المخلوق في إدراك الأشياء المحيطة به قبل أن يستوعبهما بعقله ، لهذا صرفه الله تعالى عن التفكير فيهما لإدراك خالقه المنزه عن أن يدرك بهما ، وذلك في قوله عز من قائل : (( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير )) ، ومعلوم أن الذي لا تدركه الأبصار ، وهو يدركها ، يترسخ في ذهن الإنسان وتصوره أنه ليس كمثله شيء بالضرورة .
ولقد تمنى نبي الله موسى عليه السلام بعدما قربه وكلمه ربه تكليما أن يراه ، فبرهن له على استحالة هذه الرؤية لعجز في طبيعة إدراكه البشري مصداقا لقوله تعالى : (( ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك قال لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني فلما تجلّى ربه للجبل جعله دكا وخرّ موسى صعقا فلما أفاق قال سبحانك إن تبت إليك وأنا أول المؤمنين )) ، لقد كان هذا دليلا أقنع به الله عز وجل عبده موسى بتعذر رؤيته ، ذلك أن مجرد تجليه سبحانه وتعالى للجبل لم يتحمل موسى عليه السلام مجرد النظر إليه وهو يُدّك ، فصعق ، ولما أفاق من صعقته تائبا من طلب رؤية خالقه ، ازداد إيمانا ويقينا بأن ما سأل ربه لا يمكن أن يتحقق بالنسبة للطبيعة البشرية ،وفي قصه موسى عليه السلام هذه ما يجعل كل إنسان لبيب ينصرف كليا عن التفكير في إدراك خالقه الذي ليس كمثله شيء ، والذي لا تدركه الأبصار وهو يدركها .
ومقابل صرف الله تعالى الإنسان عن التفكير في إدراك ذاته المقدسة جل وعلا ، سرد عليه من صفاته المثلى ، ومن أسمائه الحسنى التي إذا وعاها ،وتدبرها جيدا أدرك حقيقة خالقه من الطريق الذي أباحه له ، والذي ليس لديه غيره .
ومما يصادفه الإنسان وهو مقبل على كتاب ربه الكريم قوله عز من قائل متحدثا عن ذاته جل جلاله : (( وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عمّا يشركون )) ، وهذه الآية الكريمة جاءت بعد قوله تعالى : (( له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون قل أفغير الله تأمرنّي أعبد أيها الجاهلون ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطنّ عملك ولتكوننّ من الخاسرين بل الله فاعبد وكن من الشاكرين )) . ومما جاء في كتب التفسير أن قوله تعالى (( ما قدروا الله حق قدره )) جاء في سياق الحديث عن المشركين الذين لم ينزهوا خالقهم عن الشركاء ، ولم يوحدّوه وهو الذي له مقاليد السماوات والأرض وهي قبضته يوم القيامة ، والسماوات مطويات بيمينه ، وهو ما يؤكد قدرته جل جلاله وتنزهه عن الشركاء .
ومعلوم أن الذي لا يعرف خالقه جل جلاله حق معرفته بما أخبره به عن ذاته المقدسة في كتابه الكريم من خلال أسمائه الحسنى، وصفاته المثلى لا يبلغ مرتبة تقديره حق قدره ، لهذا يجدر بكل مقبل على كتابه الكريم سبحانه وتعالى في هذا الشهر الفضيل وهو يتلوه كل ليلة من لياليه أثناء قيامه أن يعرف لخالقه سبحانه وتعالى قدره العظيم ، وما يلزم ذلك من تقديس وتمجيد ، وتعظيم ، وتسبيح ، وتبريك ، وتكبير ، وتوحيد، وحمد ، وثناء، وشكر كما ينبغي لجلاله وعظمته ، وسلطانه، ويكون هذا التقدير منزها عن كل شكل من أشكال الشرك الذي من شانه أن يجعل أي مخلوق مهما كان شريكا له . فمن نسب للخلق شيئا مما هو من اختصاص الخالق سبحانه وتعالى ، فإنه لا يقدر الله تعالى حق قدره ، ومصيره الخسارة ،وما أفدحها من خسارة .
ولا يزال المسلم يستعرض أسماء ربه الحسنى، وصفاته المثلى في كتابه الكريم خصوصا في هذا الشهر الفضيل وعلى الدوام أيضا حتى يتشربها ، فيلهمه الله تعالى إدراك كنهها ، ولا تمر به وهو غافل عن استحضارها خلال ممارسته لحياته اليومية ، وذلك هي حقيقة ذكر الله عز وجل .
ومعلوم أن الله تعالى يذيّل بتلك الأسماء والصفات ما يخبر به الخلق من أفعاله أو بعدما يعدد لهم نعمه وأفضاله عليهم ، أو يذكر بعدما يذكر عجائب قدرته ، أو يشير إلى واسع علمه ، أو يرغب في جميل عفوه وسعة رحمته ، أو يخوف من شدة بأسه وعذابه... إلى غير ذلك مما يخبر به عن ذاته المقدسة من خلال تلك الأسماء الحسنى ، والصفات المثلى إما مفردة أو مثناة أو معددة .
وحري بمتدبر القرآن الكريم في شهر الصيام أن يزداد معرفة بخالقه ، فإذا ازداد معرفة به ازداد حبا له ، وإذا ازداد حبا له ، ازداد طاعة له وحياء منه أن يراه على غير ما لا يرضاه له من سوء الطاعة والعبادة .
ويكفي أن يعي المسلم أن ربه يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، وأنه أقرب إليه من حبل الوريد ، وأنه لا يغيب عن علمه شيء في الأرض والسماء حتى الورقة الساقطة من الشجر .... ليستحضره على الدوام في كل أحواله ، فلا يأتي من الأقوال أو الأفعال ما لا يرضاه منه ، وبهذا تتحقق معرفته الصحيحة به لأنه إن غاب عن ذهنة لحظة ،فإنه يقع في المحظور ، وأخطر هذا المحظور أن يأتي من الأقوال والأفعال ما يجعل قوله تعالى : (( وما قدروا الله حق قدره )) ينطبق عليه إذ لو قدره حق قدره لما أقدم على ذلك .
اللهم إنا نسألك أن تفتح علينا بنعمة فتحك لنعرفك حق معرفته ، ولنقدرك حق قدرك.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1026