( وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الذين يعادون أشد العداء دين الإسلام كما جاء في كتاب الله عز وجل ثلاثة أنواع هم : اليهود، والكفار أو المشركون ، والمنافقون . وإذا كان عداء اليهود والكفار والمشركين للإسلام معلنا ، وصريحا، وبيّننا يُعلم منهم بأقوالهم وأفعالهم ، فإن عداء المنافقين له خفي لا يُعلم منهم ، وإن عُلم من بعضهم خفي عند البعض الآخر حتى يحدث منهم ما يكشفه ويفضحه ، ويقيم البينة عليهم بأقوالهم وأفعالهم . أما اليهود والذين أشركوا ،فقد قال الله تعالى عن عدائهم للإسلام والمسلمين : (( لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا )) ، وأما المنافقون فقد قال الله تعالى عن عدائهم للإسلام والمسلمين : (( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام )).
ولقد فضح الله تعالى المنافقين في العديد من آيات الذكر الحكيم ، ووصف أحوالهم ،كما وصف ما كانوا يضمرونه من شر وسوء وكيد وخيانة وغدر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ، وجعل صفاتهم أدلة على نفاقهم . ومما وصفهم به في الذكر الحكيم أنهم كانوا يعرضون عن شرع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا يُحكّمونه فيما يكون بينهم من خلاف أو نزاع ، وذلك في قوله عز من قائل في سورة النور :
(( لقد أنزلنا آيات مبيّنات والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون وإن يكن لهم الحق يأتون إليه مذعنين أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله أولئك هم الظالمون إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون )) ، ففي هذه الآيات الكريمة وصف دقيق للمنافقين حيث تكذب أفعالُهم أقوالَهم ، فهم يدعون الإيمان بأفواههم ، ولكنهم لا يطيعون الله عز وجل فيما أمر به أو نهى عنه ، و هم بذلك يقيمون على أنفسهم الحجة عندما يُدعَون إلى الاحتكام إلى شرعه سبحانه وتعالى وهو شرع رسوله صلى الله عليه وسلم ، الشيء الذي ينفي عنهم صفة الإيمان بسبب ازدواجية التعامل مع هذا الشرع ، حيث يقبلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وينقادون إليه إذا كان لهم الحق ، ولكنهم يعرضون عنه وهم على باطل . ومعلوم أن المبطلين يأبون الحق والعدل إن كان لغيرهم ، ويحرصون عليه إن كان لهم ، وهذا منتهى الحيف والظلم منهم ، وهو من نفاقهم المريضة به قلوبهم. ونظرا لارتيابهم، وهو عدم إيمانهم ، فإنهم يخشون الحيف من شرع الله تعالى وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم الذي هو مما أوحي إليه ، وهو الحق والعدل، وبهذه الصفات السيئة أقام الله تعالى البينة والحجة على ظلمهم الصارخ .
ولقد ورد في كتب التفاسير أن سبب نزول هذه الآيات هو أن أحد الأوس أوأحد الخزرج تخاصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم مع يهودي ، فلما حكم عليه الصلاة والسلام لليهودي، لم يرض بحكمه . وقيل أيضا أن أحد الأوس كان على خلاف مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، فدعاه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما ، فأبى ذلك بذريعة الخوف من الحيف .
ومن تخاريف الشيعة أن الخلاف كان بين علي وعثمان رضي الله عنهما بسبب نزاع في قطعة أرض، اشتراها عثمان من علي، فكانت فيها حجارة ، فأراد ردها بسبب العيب ، وقال بيني وبينك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له الحكم بن أبي العاص لا تحاكمه إلى ابن عمه فيحكم له . هذا ما زعمه الطبرسي الشيعي رواية عن البلخي ، وهو ما لم يقل به أحد من ثقات المفسرين ، وقالوا بعضهم عنه أنه مما كان الشيعة يريدون إلصاقهم ببني أمية لعدائهم لهم ، كما أنهم نزهوا الحكم بن أبي العاص عن هذا القول الذي فيه بث الفتنة بين المسلمين، والحكم بن أبي العاص ممن أسلموا يوم الفتح، وسكن المدينة .
والثابت أن هذه الآيات نزلت في المنافقين ، ولا علاقة لها بالمؤمنين . وإذا كانت العبرة بعموم لفظها لا بخصوص سبب نزولها ، فإن يترتب عنها حكم على كل المنافقين في كل الأزمنة والأمكنة إلى قيام الساعة إذ يعرف نفاقهم بالإعراض عن شرع الله تعالى ، والارتياب في عدالته ، والخوف من حيف هو منزه عنه تنزيها .
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه عموم المؤمنين في هذا الزمان بالذات من السقوط في مستنقع النفاق دون وعي منهم من خلال اتباع من يزينون لهم التشكيك في شرع الله تعالى من أمثال فئة العلمانيين أو الحداثيين الذي يروجون ويسوقون إعلاميا أفكارا مسمومة يدّعون أو يزعمون فيها أن شرع الله تعالى فيه حيف كما هو الشأن بالنسبة لقسمة الميراث بين الإخوة الذكور والإناث ، وهم يقصدون بذلك قول الله تعالى : (( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين )) ، وبالنسبة لأحكام أخرى متعلقة بالميراث أيضا ، وبغير الميراث مما حرم الله تعالى ، وهم يريدون إحلاله تحت ذريعة تطور العصر ، ومسايرة غير المسلمين في شرائعهم الوضعية المناقضة لشرع الله تعالى .
وقد يقع كثير من المسلمين جهلا أو غفلة منهم في شرك هؤلاء الحداثيين أو العلمانيين ، فيزينون لهم ما يدعون إليه من تجاسر على شرع الله تعالى ، مطالبين بتعطيله ،ويستغفلونهم بمعسول الكلام المدسوس فيه السم القاتل ، فيقرونهم هذا التجاسر في نفوسهم، فتتشرب قلوبهم النفاق وهم لا يشعرون . وإن كل من تسول له نفسه ظن الحيف في شرع الله تعالى ، فإنه إن لم يعلن توبته النصوح من ذلك ، فسيلقى الله تعالى وهو على نفاق في قلبه والعياذ بالله .ولهذا وجب على المسلمين الثبات على إيمانهم، وعلى دينهم لا يخشون في ذلك لوم لائم ، ولا لؤم لئيم ممن يساومونهم في إيمانهم بنفاق بديل عنه . وما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعض بالنواجذ على سنته، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده إلا تحذيرا من الفتنة في الدين ، وهي أشد الفتن على الإطلاق كما أخبر بذلك العرباض بن سارية رضي الله عنه إذ قال : " وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ، وجلت منها القلوب ، وذرفت منها العيون ، فقلنا يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا ،فقال عليه الصلاة والسلام : أوصيكم بتقوى الله عز وجل ، والسمع والطاعة ، ثم قال : فإنه من يعش منكم ، فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بسنتي ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضّوا عليها بالنواجذ " .
اللهم إنا نسألك تقواك ، وتعوذ بك من الفتنة في ديننا ، ونسألك الثبات عليه ، وعلى سنة رسولك عليه الصلاة والسلام ، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده رضوان الله عليهم.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1080