( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )
حديث الجمعة :
اقتضت إرادة الله عز وجل أن تكون الغاية من وراء خلقه الإنسان هي ابتلاِؤه ، و هو الذي جعل هذا الابتلاء في التزام عبادته بطاعته سبحانه وتعالى فيما أمر به، وما نهى عنه من أقوال وأفعال . وجعل لذلك جزاء يعجل بعضه في الحياة الدنيا ـ وهي إلى زوال ـ ، ويؤخر بعضه الآخر إلى الآخرة ـ وهي دار بقاء ـ . ولقد جعل سبحانه وتعالى الجزاء، الذي يتراوح بين سعادة وشقاء الدارين على قدر استقامة العباد على صراطه المستقيم أو على قدر انحرافهم عنه.
ويكثر في القرآن الكريم ذكر الجزاء بنوعيه الدنيوي والأخروي ، ومنه قوله تعالى : (( من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينّه حياة طيبة ولنجزينّهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون )) ، هذه الآية الكريمة السابعة والتسعين من سورة النحل ،عبارة عن جملة شرطية أفعال الشرط فيها هي العمل الصالح مع الإيمان ، وأجوبة الشرط فيها حياة طيبة، و أجر أحسن من العمل.
والملاحظ في هذه الآية الكريمة أن الله تعالى سوّى بين الذكور والإناث من عباده المؤمنين تنصيصا حتى لا تذهب الأفهام إلى اقتصار الجزاء على جنس دون آخر . وهنا لا بد من وقفة لدحض من يبررون التفاضل بين الذكور والإناث على أساس اختلاف الجنس بينهما، إذ لو صح ما يزعمون لما سوّى الله تبارك وتعالى بينهم في الجزاء حين يصح إيمانهم، وتصلح أعمالهم دونما اعتبار لاختلاف الجنس بينهم .
وعند التأمل في الجزاء الذي اشترط الله تعالى الحصول عليه إيمانا وعملا صالحا ، نجده عبارة عن حياة طيبة، وأجر أحسن من العمل . ولقد ميز المفسرون بين الأجرين ،فاعتبروا الأول جزاء دنيويا ، بينما اعتبروا الثاني جزاء أخرويا، ولو كان جزاء واحدا لما تكرر . ومما يؤكد ذلك أن الله تعالى كما المؤمن الذي يعمل صالحا بجزاءين ، خص غير المؤمن السيء عمله بجزاءين أيضا كما جاء في قوله تعالى : (( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى )) ، وواضح أن المعيشة الضنك وهي معيشة العسر والشدة ،هي عقاب معجّل في الدنيا ،وأن العمى إنما هو عقاب مؤجل للآخرة ، وذلك جزاء من أعرض عما جاء في كتاب الله عز وجل ، فلم يأتمر بما فيه من أوامر ، ولم ينته عما فيه من نواه .
ولقد اختلفت فهوم المفسرين بخصوص جزاء الحياة الطيبة التي وعد بها الله عز وجل المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، واعتمدوا في ذلك على ما أثر عن بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهم أقرب إلى تأويل قول الله تعالى التأويل الصحيح من غيرهم لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخذهم المباشرعنه ، فقال بعضهم إن المقصود بالحياة الطيبة، هي الحياة الآخرة ،لأن الدنيا لما كانت إلى زوال، فإنها لا تطيب، فضلا عن وجود نقائص فيها من فقر،وسقم ، وشقاء ،وحزن كما تطيب الآخرة التي لا زوال لها ، ولا نقائص فيها ، بينما قال بعضهم إنها الحياة الدنيا ، وأن طيبها هو الرزق الحلال كما قال آخرون هي القناعة ، واستشهدوا على ذلك بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد أفلح من أسلم ورزق كفافا وقنّعه الله بما أتاه " ،كما قال غيرهم هي السعادة التي يستشعرها المؤمن وهو في طاعة الله عز وجل ، وقال آخرون هي كل ذلك مجتمعا .
ولو وقفنا عند هذا الذي ذكره المفسرون معتمدين على أقوال بعض صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم علي بن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما، فإننا نجد ترابطا بين الرزق الكفاف الذي يكون من الكسب الحلال ، وبين القناعة من جهة ، و بين السعادة بطاعة الله تعالى من جهة أخرى ، ذلك أن الرزق الذي يكون من كسب حلال يبعث كسبه على الطمأنينة والسعادة ، لأن هذا الكسب في حد ذاته طاعة أمر بها الله تعالى ،وكفى بها مبعثا للطمأنينة والسعادة بغض الطرف عن نوع الكسب ، وإن كان كفافا . وإنّ من لم يكن كسبه من حلال، ولو بلغ به الغنى الفاحش، فإنه يعدم تلك الطمأنينة وتلك السعادة ، وهو يشقى برزقه على كثرته، بل يزداد شقاوة بقدر ما في كسبه من حرام ، وهي شقاوة مبعثها الخروج عن طاعة الخالق سبحانه وتعالى .والملاحظ أنه بالربط بين العيش، وهو جزاء دنوي مادي ، وبين القناعة، والسعادة ، وهما جزاء دنوي معنوي، تطيب الحياة الدنيا لمن طيّبها الله تعالى له .
وقد يسأل سائل ما بال المؤمن الذي يشقى في حياته بفقر أو مرض... أو غير ذلك مع أن عمله صالح ، فيبتلى بتلك المصائب ، فأنى تطيب حياته ؟ والجواب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : " عجبا لأمر المؤمن ، إن أمره كله له خير ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن : إن أصابته سراء شكر ، فكان خيرا له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له " ، ففي هذا الحديث الشريف تعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمر المؤمن ، ومعلوم أن التعجب هو اندهاش لأمر، وانبهار به نظرا لغرابته ومجيئه على غير المألوف عند الناس . ووجه الغرابة لما جاء في هذا الحديث الشريف أن تحبس النفس عن الجزع عند المصاب ، والمألوف عند الناس هو أن تجزع ، ولا تطيق تحمل المصاب . والصبر وهو حبس النفس عند الجزع ، وهو في حقيقة الأمر عبارة عن طمأنينة وسعادة يعطيها الله تعالى لعباده المؤمنين ، وهو ما يؤكده قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن " أي إنها عطية وهبة من الله تعالى ، لا يعطاها غير المؤمن . ولا يخلو حال المؤمن عند السراء من طمأنية وسعادة يعبر عنهما شكره على ما سره به خالقه ، علما بأنه ليس كل من تصيبه السراء يشكر ، بل قد يُسرّ بها، ولكنه لا يشكر من سَرّه بها، لأنه يعدم الإيمان الذي يحمله على الشكر . ألم يُسرّ قارون بكنوزه ولم يشكر بل قال : (( إنما أوتيته على علم عندي )) جاحدا من تفضل به عليه ؟ وما أكثر النماذج القارونية في تاريخ البشرية، كما دل على ذلك قوله تعالى تعقيبا على قول قارون : (( أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا )) ، وسيستمر توالي أمثال قارون عبر التاريخ ، وما أكثرهم في زماننا هذا إلى قيام الساعة ، وسيجعلهم الله تعالى جميعا عبرة للعالمين .
ولقد قصر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الشكر عند السراء على المؤمن دون غيره ، علما بأن الشكر المقصود، ليس شكر اللسان فقط ، وإنما هو استعمال ما يسر به المنعم عليه من نعم الله تعالى في طاعته ومرضاته ،وليس بشاكر من يتلفظ لسانه بشكرها ، ولكنه يستعين بها على معصبة المنعم سبحانه وتعالى.
مناسبة حديث هذه الجمعة ، هو أن وزارة الشأن الديني عندنا وضعت خطة سمتها تسديد التبليغ ،أي تبليغ دين الله عز وجل للناس ، وقد ارتأت أنهم قد ابتعدوا عنه ، وجعلت المقصد من ذلك البلوغ بالناس إلى ما سمته حياة طيبة . وحتى لا تذهب الأفهام إلى أن الحياة الطيبة إنما هي العيش المادي فقط ، وجب أن ننبه إلى ما قد تقصرعنه بعض الأفهام مما هي أمور معنوية من قبيل الطمأنينة، و راحة البال بما قسم الله تعالى من عيش مادي ، والسعادة بنعمة الإيمان ،وبطاعة الله تعالى في ممارسة الحياة بأعمال صالحة يرضى عنها الله تعالى .
ولا بد من التنبيه أيضا إلى أنه ما أكثر من ينعمون بالحياة الطيبة في هذه الدنيا على ما في عشيهم من ضيق يصبرون عليه محتسبين أو عيش كفاف يرضون به ، ويشكرون الله تعالى عليه . وفي المقابل ما أكثر من يشقون في هذه الحياة الدنيا على ما هم فيه من سعة رزق تنغصها عليهم طرق كسبه التي حرمها الله تعالى ، وقد يظهرون للناس سعداء في حياتهم حين ينظر إلى ما يكسبون من متاع الدنيا وزينتها ، ولكنهم في الحقيقة إنما يتجرعون مرارة الشقاوة ، وبئس المتاع الزائل الباعث على الشقاء .
ولا تفوت الفرصة دون أن نذكر بعض نماذج المؤمنين في زماننا هذا ، ونخص بالذكر إخواننا المرابطين في أرض الإسراء والمعراج ، وهم ينافحون عنها، وعن مقدستها التي يدنسها الصهاينة المعتدون ، بما توفر لديهم من عدة وعتاد معتمدين على عون الله تعالى ، وقد استحر القتل في صبيتهم ونسائهم وشيوخهم ، ودمرت مساكنهم ، وجوعوا ،وحصروا حصارا شديدا ، وهجروا قسرا من ديارهم ، ولكننا لا نسمع منهم إلا عبارات الصبر على شدة البلاء ، والشكر على نعم الله تعالى عليهم بما في ذلك نعمة الصبر ، والتحمل والاحتساب . وإن الواحد أو الواحدة منهم ليسألان الله تعالى أن يتقبل منهما فلذات الأكباد أو الإخوة أو الأزواج شهداء عنده راضيين بقضائه ، وهما يتمنيان أن يرضى منهما وعنهما ، فأية حياة أطيب من هذه ؟ وليس ما ابتلى به الله تعالى هؤلاء المرابطين إلا لكونهم عبادا مؤمنين حقا، ولا نزكيهم على الله عز وجل .
فأين نحن من حياة هؤلاء التي نراها بائسة، وهم سعداء بها سعادة لا يمكن أن نشعر بها نحن . إنهم يسعدون بما ابتلاهم به الله تعالى ، وبما رضي لهم من شرف الشهادة في سبيله ، ومن شرف الدفاع عن دينه ، وعن مقدساته ؟
وإنه ليجدر بنا أن نراجع مفهوم الحياة الطيبة التي وعد بها الله تعالى عباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، خصوصا وأن جلن يجزع عند نزول ما دون الضراء بكثير من قبيل غلاء المعيشة ، أوانحباس القطر ، أوضعف الأجور، أوالضجر من عيش الكفاف ... وغير ذلك مما ليس بالضراء ، بينما البعض الآخر يتمرغون في نعم الله تعالى ، ولا يشكرونه، بل يستعينون بها على معاصيه بتبذير الأموال في اللهو واللعب، والعبث العابث ... وغير ذلك مما لا اعتبار له عند الله عز وجل ، ولا هو من صالح الأعمال .
وأخيرا نقول إن الله تعالى قد اشترط جزاء الدنيا، وهو حياة طيبة بالمعنى الذي تقدم ، فمن أراد هذه الحياة ، فليراجع إيمانه ، وليتحرّ العمل الصالح حيثما وجد ، ومهما كانت مسؤوليته ، والكسب الحلال ، فإن تحقق لديه ذلك ، فقد أدرك نعمة الحياة الطيبة ، ووجد في ذلك سعادة ، تجعله يصبو إلى سعادة الآخرة، ويا لها من سعادة .
اللهم إنا نسألك أن ترزقنا إيمانا صادقا، وتوفقنا إلى صالح الأعمال فنحوز بذلك جزاء حياة طيبة في الدنيا ، وجزاء الآخرة .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وسوم: العدد 1087