نبأ الخصم
(وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوّروا المحراب)
سألته: كيف يكون خصماً واحداً ثم عدل إلى الجمع فقال: تسوّروا، دخلوا، فزع منهم ، قالوا ؟
قال: الخصم هنا اسم جنس وليس كلمة مفردة تدل على واحد .
لك أن تقول: إنه خصمٌ ، إنهما خصمٌ : إنهم خصمٌ..
لقد دخل على داود مجموعة إذاً ...
دخلوا عليه في محرابه فجأة وتجاوزوا الحرس ، مهما كان الرجل شجاعاً فإن لتخطي الحرس والمفاجأة ردةَ فعلٍ مفزعة، فطمأنوه أنهم لا يريدون به شرّاً وأنهم يريدون أن يقضي بالحق بين أخوين خصمين ، وكثيراً ما يتخاصم الإخوة في دنيا زائلة، وقال له كبيرهم : إن البغي ظلم . وطلب إليه أن:
- يحكم بينهما بالحق
- وأن لا يتجاوز العدل
- وأن يعظ الأخَوينِ ليعودا إلى نهج الحق ودرب الأخوّة
هذا ما طلبه قائد المجموعة من النبي داود ..فماذا حصل ؟
قال الخصم الإول: إنه يملك نعجة واحدة أما أخوه فإنه يملك تسعة وتسعين نعجة ،ولا يهنأ لأخيه بال حتى يضم نعجته إلى نعاجة لتكتمل بها المئة، أليس هذا عين الظلم ؟
لم يستمع النبي داود إلى حجة الخصم الثاني وكان على القاضي - قبل أن يحكم- أن يستمع للخصمين ، وقديماً قال قاض حكيم : إن جاءك من قلعت إحدى عينيه فلا تسرع بالحكم له ، فلعل الآخر قلعت عيناه كلتاهما.
قال داود متسرعاً : لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه ، وإن كثيراً من الشركاء غير منصفين لا يرون سوى مصلحتهم الآنيّة ولو خالفت الحق. قالها دون أن يسمع حجة الثاني.
فماذا حصل حين حكم النبي داود دون الاستماع لحجة المشتكى عليه؟
حين أسرع النبي داود بحكمه ، اختفى الجميع فجأة كما ظروا فجأة ، فعلم أنهم ملائكة جاءوا يمتحنونه بأمر الله ، وعلم خطأه، فاستغفر ربه وسجد لله تعالى معلناً أوبته إليه وتقرّبه منه والتوبة إليه
علم داود أن الله يختبره ويمتحنه وهو من رسله الكرام ، والله يختبر رسله، يعلمهم ويربيهم ويهيئهم لحمل رسالة الحق ، ويأخذ بأيديهم إلى الصراط المستقيم .
غفر الله سبحانه هفوة نبيه ،وأكد له أنه اختاره خليفة في الارض ليحكم بين الناس بالحق ويبتعد عن الهوى الذي يعصف بصاحبه إلى العذاب الشديد يوم الحساب ، حين يقوم الناس بين يدي ربهم لا ينفعهم يوم ذاك إلا العمل الصالح والتوبة إلى الله
ولكن ..ما سبب هذا الاختبار الذي كاد يعصف بصاحبه لولا استغفاره وتوبته؟
يتساءل المرء عن سبب الامتحان الذي خضع له سيدنا داود ، وهناك جوابان .
الأول إسرائيليات فيها كثير من الخرافات لا يقبلها النقل ولا العقل، ونأسف أنْ تلقفه كثير من المسلمين دون رويّة.
والثاني التفسير الإسلامي ، مما ذكره المفسرون ، فحُسنَ تعليلَ صدقِ، ومعنىً واضحاً عدلاً.
أما الإسرائيليات فقد ادعت أن داود عليه السلام وقع في غرام زوجة قائد عنده، ولداود زوجات وسريّات كثيرة ، وليس للقائد سوى هذه الزوجة،فأرسله في سرية صغيرة يقاتل فيها جيشاً قوياً ليُقتل ويتزوج امرأته. وما يفعل هذا سوى الساقط من الناس، المرذول منهم ، وحاشا أن يكون النبي العظيم داود هكذا، فهو من كرام الرسل صلى الله عليه وعلى الانبياء جميعاً. ولا ننس أن سيدنا داود وابنه سلمان ليسا عند اليهود نبيين إنما يعُدّونهما ملِكين فقط.
وأما التفسير الإسلامي فيذكر أن داود عليه السلام رغب أن يكون من الرسل أولي العزم مثل نوح وإبراهيم وموسى ، ولعلنا نحفظ قوله تعالى : (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض) فلم يكن له نصيب بينهم في هذه المكانة ، فامتُحن ليظهر له الأمر ويعلم عُلُوّ قدرهم ، وكلهم أهل قدر ومكانة ..
والله أعلم.
وسوم: العدد 1087