( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين )
حديث الجمعة :
لما جعل الله تعالى الحياة الدنيا دار ابتلاء ، فقد جعل من مقتضيات الابتلاء تناوب الخير والشر فيه مصداقا لقوله تعالى : (( كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة وإلينا ترجعون )) ، ففي هذه الآية الكريمة الخامسة الثلاثين من سورة الأنبياء ، نجد أولا الدليل على أن الدنيا دار ابتلاء لورود ذكره الصريح فيها ، وثانيا أن الموت هو مصير بني آدم فيها ، وهذا يعني أنهم لم يوجدوا فيها للخلود ، وأن مرورهم العابر بها يدل على أنهم خلقوا للابتلاء بالخير والشر، وثالثا نجد أن ذكر الرجوع إلى الله عز وجل فيها يدل على المحاسبة إذ لا يخلو ابتلاء من تقييم يعقبه جزاء في الدار الآخرة التي لا زوال لها ، ويكون ذلك الجزاء من جنس العمل الذي كان هو موضوع الابتلاء في الحياة الدنيا .
ونظرا لكون الحياة الدنيا خلقت لغاية الابتلاء ، فقد جعل فيها الله تعالى ما به تتحقق هذه الغاية من قوانين فيزيائية وطبيعية ، لها أسباب ،ومسببات ، ونتائج... يخضع لها بنو آدم ، فجعل فيها على سبيل المثال لا الحصر نار تحرق ، وماء يطفئها ، ويختلط بالتراب فيخرج منه النبات ...والإنسان المؤمن المستهدف بالابتلاء يخضع لتلك القوانين ويتأثر بها . ومقابل ابتلائه بالخير لقياس عبادة الشكر عنده ، فإنه لا مفر له من ابتلاء بالشر لقياس عبادة الصبر عنده .
ولقد وردت في الذكر الحكيم نماذج من الابتلاء بنوعيه ابتلاء الخير، وابتلاء الشر . ومما جاء فيه ذكر ابتلاء الشر قوله تعالى مخاطبا رسول الكريم صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله مخاطبا عباده المؤمنين : (( ولنبلونّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون )) ، سورة البقرة الآيات 155 ، 156 ، 157 ، وقد ورد فيها ذكر الابتلاء بالشر المتمثل في الخوف الذي يحل بالمؤمنين في حال وقوع الحروب أوالكوارث الطبيعية من زلازل ، وأعاصير ، وفيضانات ، ومجاعات ، وأوبئة ... وغيرها . ومن لطف الله تعالى بالمؤمنين أنه يبتليهم بشيء من الخوف والجوع فقط ، وليس بكل الخوف وبكل الجوع أو بمطلقهما كما أشار إلى ذلك بعض المفسرين ، وفي هذا تهوين منه تعالى لأمر الخوف والجوع اللذين يبتلى بهما المؤمنون ،علما بأن ما يبتلون به ليس مثل ما ينزل بالكافرين من عقاب تكون فيه شدة ،لأن ما يحل بالمؤمنين من مصائب يلازمها دائما لطف الله عز وجل .
ولقد جعل الله تعالى الخوف، والجوع ، ونقص الأموال، والأنفس، والثمرات مصائب تصيب المؤمنين ، وهي تتقاطع فيما بينها ، ذلك أن الجوع يترتب عن نقص الأموال والثمرات ، وعنه يترتب هلاك الأنفس ، والخوف يصاحب هذه جميعها . ومن لطف الله تعالى أنه لما ابتلى عباده المؤمنين بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع ، وليس بهما في تمامهما ، ابتلاهم بنقص فقط من الأموال ومن الأنفس ومن الثمرات ، وليس بنقص كل الأموال ، أوكل الأنفس ، أوكل الثمرات، بل يبقي لهم أقدارا منها رحمة ولطفا بهم .
والمطلوب من المؤمنين عند حلول الخوف بهم سواء كان من هلاك سببه الحروب أو الأوبئة أو المجاعات أو الكوارث... أو غيرها هو الصبر ، وهو منع النفوس من الجزع الشديد ، وحملها على التحمل والتجلد . ويفهم من ذكر الصبر في هذه الآيات الكريمة أنه سلوك تعبد به الله تعالى عباده المؤمنين ، كما تعبدهم بغيره من العبادات أو من المعاملات إذ يلزمهم عند نزول المصائب بهم أن يصبروا كما أمرهم أو كما تعبدهم . ولقد حدد الله تعالى كيفية هذا الصبر بقوله : (( قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون )) ، ومعلوم أن هذا القول ليس مجرد كلام تلوكه الألسنة، بل هو كلام يعبر عن اعتقاد راسخ قد وقر في القلوب . وهذا الاعتقاد مفاده أن من يعبر عنه بلسانه يقربأن نفسه إنما هي ملك لمالكها سبحانه وتعالى يستردها متى شاء ، وأنى شاء ، ولا اعتراض له على ذلك، بل يسلم به تسليما ، وفي هذا تعبير وسلوك عن عبدية المؤمنين لله تعالى . وعند التأمل في هذا القول المعبر عن التسليم لله تعالى بالتصرف فيما أعطى كيف ما شاء ، ومتى ما شاء ، نجد فيه ما يهون على المؤمنين وقع المصائب في أنفسهم إذ لا معنى للجزع على ضياع ما ملكه لله تعالى قد ملّكهم إياه ، ولبيان ذلك نذكر على سبيل المثال أن المؤمن قد يسلب منه خالقه سبحانه وتعالى صحة وهبها إياها أو مالا ملكه إياه أو غير ذلك مما أنعم به عليه من نعم في إطار ابتلائه بعبادة الصبر ، فإنه يجب أن يستقر في اعتقاده أنها نعم استردها المنعم سبحانه وتعالى ، وأنه هو نفسه مما يسترده ، وبهذا تتحقق عبادة الصبر لديه على الوجه الأكمل .
وإذا كان الجزع هو نقيض الصبر ، فإنه سوء أدب مع الله عز وجل، لأن الجازع من المؤمنين يعتبر مصائبه هي ذات العذاب الذي يعذب به الله تعالى الكافرين ، وشتان بين الحالتين ، كما أن الجزع لفقدان ما أعطى المعطي سبحانه وتعالى فيه إنكار لعطائه ، ومن ثم إنكار لما يسترده منه ، ويكون حينئذ الجزع ناقضا لقول : (( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ، وهو ما يخل بالاعتقاد .
ومباشرة بعد ذكر ما يصيب المؤمنين من خوف، وجوع، ونقص من الأموال ،والأنفس، والثمرات ساق الله تعالى لهم بشارة على صبرهم عند تحمل المصاب ، وهي الخبر السار الذي لا يعلمه المخبر به سلفا . وذكر البشارة عقب المصاب أمر عجيب حيث ينتقل من يبشر بها من ألم أو حزن أو ضيق أو شدة ... إلى فرحة بها تنسيه وقع المصاب في نفسه ، كما تبعث فيها الأمل والطمأنينة ، وراحة البال ،وهو ما يحدث مباشرة بعد قول : (( إنا لله وإنا إليه راجعون )) ، ويكون هذا القول مسبوقا حتما باعتقاد راسخ في القلب يسلم المؤمن بموجبه لله تعالى فيما قضى وقدر ، و يكون ذلك بنفس راضية مطمئنة معبرا عن عبديته الحقة لله تعالى. وبصدق ذلك القول المترتب عن صدق الاعتقاد السابق عليه، تكون البشارة هي صلوات من الله على الصابرين ورحمة منه . وإذا كانت الصلاة عند المؤمنين عبارة عن دعاء يراد به الحصول على الخير أو النفع بما لهما من واسع الدلالة ، فإن صلاة الله عز وجل عليهم هي حصول ذلك الخير بدافع رحمته ولطفه بهم سبحانه وتعالى . وعلى قدر صلاته سبحانه عليهم يزداد حظهم من الخير أو النفع ، ويكون ذلك على قدر طاعة صبرهم الذي تعبدهم به . ولقد وصف الله تعالى الصابرين بأنهم أهل هداية ، وأنعم بنعمة الهداية التي ينعم بها الله تعالى على عباده المؤمنين جزاء صبرهم ، في حين يعيش غيرهم في ضلال تصاحبه مشاعر الاحباط ،واليأس، والقنوط ، والاضطرابات والمعاناة النفسية ....
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تنبيه المؤمنين إلى عبادة الصبر التي تعبدنا بها الله تعالى عند نزول المصائب بنا ، وهي عبارة عن تجارة رابحة مع الله عز وجل قد يغفل عنها كثير من المؤمنين ، ويصرفهم عنها الجزع ساعة صدمة المصاب .
ولا شك أن كثير من المؤمنين لم يتقبلوا ما نزل بإخواننا في أرض الإسراء والمعراج من بلاء عظيم ،وفيه خوف ، وجوع ، ونقص من الأموال، والأنفس، والثمرات ، فصار بعضهم يلوم ويعتب على المجاهدين من أجل تحرير أرض فلسطين ،وصيانة أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ، ويحملهم مسؤولية من يرتقون شهداء عند الله تعالى بالمئات يوميا ، وقد وعدهم الله تعالى بنيل جوائزهم عنده وهم أحياء يرزقون مستبشرين بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ومستبشرين بنعمة من الله وفضل منه ، وهو الذي لا يضيع أجرهم ، وتلك هي البشارة الكبرى بعد بشارة الصبر والتحمل ساعة الابتلاء والتي هي صلوات ورحمة منه عز وجل .
ومن قصور الفهم عند البعض أنهم يعيبون قتال أولئك المجاهدين أعداءهم مع أن الله تعالى قد كتبه عليهم مصداقا لقوله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين : (( كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون )) . وحسب الذين يعيبون على المجاهدين في فلسطين جهادهم في سبيل الله وقد كتب على كل المؤمنين حيثما وجد الداعي إليه قوله تعالى أنه يعلم ما لا يعلمه الخلق من ثمار الجهاد ، وما لا يعلمونه من خسارة تركه ،وهو مما كتبه الله تعالى على المؤمنين ابتلاء. وربما تذرع بعضهم بأنه لا طاقة لهم بأعدائهم ، وأن عدتهم دون عدة أعدائهم مع أن الله تعالى إنما أمر المؤمنين بالإعداد للقتال على قدر وسعهم واستطاعتهم شريطة بذل كل ما في الوسع مصداقا لقوله تعالى مخاطبا المؤمنين الذين يواجهون أعداءهم الكافرين : (( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونه الله يعلمهم )).وما نعلم عن المجاهدين في فلسطين والله وكيلهم إلا أنهم قد بذلوا الوسع فيما أعدوه في حال حصار شديد مضروب عليهم من كل جهات الإخوة قبل الأعداء ، ولا يمكن أن يعاب عليهم ما أعدوه كما أمرهم الله عز وجل مما لا يعدل عدة أعدائهم .
ولا بد من التذكير بأن الألم الذي يشعر به إخواننا في فلسطين ليس جزعا كما يظن بهم إذ شتان بين متألم صابر محتسب ، ومتألم جازع ، وقد قال الله تعالى مخاطبا عباده المؤمنين وهم يألمون في نزالهم مع الكافرين : (( ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما )) ، فالألم واحد ، ولكن شتان بين من يألم وهو يحذوه رجاء في الله تعالى بالظفر بنصر ونعيم الآخرة عند الشهادة ، وبين من يألم ولا رجاء له ، بل مصيره الجحيم .
وبناء على ما سبق يتعين وجوبا على المؤمنين ان يصححوا اعتقادهم فيما ينزل بهم أو بغيرهم من المؤمنين من مصائب يبتليهم بها ربهم سبحانه وتعالى لتمحيص إيمانهم ، ومعرفة مدى الالتزام بما تعبدهم به من عبادة الصبر عند حلول المصائب ، وما يكون لهم من بشارة منه جل في علاه . وعليهم أيضا ألا يسوقوا أحاديث التثبيط التي يسوقها بعض المثبطين للنيل من ثبات وعزائم المجاهدين الصابرين المحتسبين في أرض فلسطين .
اللهم ربنا وسيدنا وخالقنا ندعوك لإخواننا في فلسطين دعاء الاضطرار الذي لا يجيب عند حصوله سواك ، اللهم قد استحر القتل فيهم ، فعجل اللهم لهم بفرج من عندك ، واعصم دماءهم ، واحفظ أرواحهم ، وآمنهم من خوف ، وأطعمهم من جوع ، واجعل بقوتك صارفا يصرف عنهم أعداءهم من جندك الخفي الذي لا يعلمه سواء. اللهم بشرهم قريبا ببشائر من عندك . اللهم إن حال تقصيرنا في طاعتك دون استجابة دعائنا ، فإننا نسألك بمكانة وقدر سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندك ألا تخيب رجاءنا فيك ، ولا تخيب رجاء إخواننا المستضعفين هناك فيك .
اللهم اربط على قلوب المجاهدين ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك العظيم ، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن فوقهم ، ومن تحت أرجلهم ، ولا تجعل للصهاينة الكافرين عليهم سبيلا .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1099