إنه ينادينا -11
د.عثمان قدري مكانسي
"يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ۖ الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَىٰ بِالْأُنْثَىٰ ۚ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ۗ ذَٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ ۗ فَمَنِ اعْتَدَىٰ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ" (179)سورة البقرة
اقتتل قبل الإسلام بقليل حيان من العرب ، فكان بينهم قتل وجراحات حتى قتلوا العبيد والنساء فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال فحلفوا أن لا يرضوا حتى يُقتل بالعبد منا الحرُّ منهم والمرأةِ منا الرجلُ منهم فنزل فيهم " الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى " ، ثم نسخت بقوله تعالى " وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف يالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص فمن تصدق به فهو كفارة له":
عن ابن عباس في قوله " والأنثى بالأنثى " وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فأنزل الله" النفس بالنفس والعين بالعين " فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس، وجعل العبيد مستوين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم .وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله النفس بالنفس ، وروى القرطبي أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قتل اليهودي بالمرأة
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يُقتل بالعبد لعموم آية المائدة وإليه ذهب الثوري وغيره ،قال البخاري وجماعة : يقتل السيد بعبده لعموم حديث الحسن عن سمرة " من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه " وخالفهم كثيرون، فقالوا لا يقتل الحر بالعبد لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجِبُ فيه قيمته .
وذهب الجمهور إلى أن المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يقتل مسلم بكافر " ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد : قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع وخالفهم ابن الزبير ومروان بن الحكم والإمام أحمد وغيرهم.
وقوله تعالى " فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان " دعوة إلى العفو وقبول الدية بعد استحقاق الدم وهنا يأتي الاتباع بالمعروف والإحسان إلى القاتل
عن ابن عباس قال : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفوُ فقال الله لهذه الأمة " كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فمن عفي له من أخيه شيء " فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل من كان قبلكم " ذلك تخفيف من ربكم " فرحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ولم تحل لأحد قبلهم
فكان لأهل التوراة قصاصٌ وعفو ليس بينهم أرش ( أقلُّ من الدية )وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش
" فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم " إن من يقتل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله أليم موجع شديد. قال النبي صلى الله عليه وسلم " من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث إما أن يقتص وإما أن يعفو وإما أن يأخذ الدية فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالدا فيها " روى الحسن عن سمرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا أعافي رجلا قتل بعد أخذ الدية " يعني لا أقبل منه الدية بل أقتله .
يذكر القرطبي رحمه الله تعالى:أن كثيراً من العلماء استدلوا على قتل المسلم بالذمي في أنه إذا سرق المسلم مال الذمي قطعت يده ولأن الذمّيّ آمن في البلد الإسلامي فحقوقه حقوق المسلم. وقال: فلا يصح في الباب إلا حديث البخاري , وهو يخصص عموم قوله تعالى : " كتب عليكم القصاص في القتلى " الآية , وعموم قوله : " النفس بالنفس " [ المائدة : 45 ] .
فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه
العفوُ: في اللغة البذل. ولهذا قال تعالى : خذ العفوَ وما سهُل. والإحسان صدقة والصدقة هنا كفارة كما أن تساقط الديات بين الأطراف مقاصّة. فكانت الديّة تخفياً من الله تعالى عن المسلمين.
ومن روائع بيان القرآن الكريم قوله " ولكم في القصاص حياة " فقتل القاتل حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها فإذا علم القاتل أنه يقتل كفَّ عن صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس ، قالت العرب : (القتل أنفى للقتل) فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز " ولكم في القصاص حياة " قال أبو العالية جعل الله القصاص حياة ،فكم من رجل يريد أن يقتل فيمتنع مخافة أن يقتل وما ينتهي عن ذلك إلا أولو الألباب وأصحاب العقول
يقول القرطبي
أن القصاص إذا أقيم وتحقق الحكم فيه ازدجر من يريد قتل آخر , مخافة أن يقتص منه فحيَيا بذلك معا . وكانت العرب إذا قتل الرجل الآخر حمي قبيلاهما وتقاتلوا وكان ذلك داعيا إلى قتل العدد الكثير , فلما شرع الله القصاص قنع الكل به وتركوا الاقتتال , فلهم في ذلك حياة .
كما أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقـَّه دون السلطان , وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض , وإنما ذلك لسلطان أو من نصبه السلطان لذلك , وجعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض .
كما يُقتص من السلطان نفسه إن تعدى على أحد من رعيته فهو واحد منهم , وإنما له مزية النظر لهم كالوصي والوكيل , وذلك لا يمنع القصاص , وليس بينهم وبين العامة فرق في أحكام الله عز وجل , لقوله جل ذكره : " كتب عليكم القصاص في القتلى " , وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملا قطع يده : لئن كنت صادقا لأقيدنك منه , وروى النسائي عن أبي سعيد الخدري قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم شيئا إذ أكب عليه رجل , فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرجون كان معه , فصاح الرجل , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( تعال فاستقد ) . قال : بل عفوت يا رسول الله , وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ألا من ظلمه أميره فليرفع ذلك إلي أقيده منه , فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين , لئن أدَّب رجل منا رجلا من أهل رعيته لتقصنه منه ؟ قال : كيف لا أقصه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقص من نفسه , ولفظ أبي داود السجستاني عنه قال : خطبنا عمر بن الخطاب فقال : إني لم أبعث عمالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم , فمن فعل ذلك به فليرفعه إلي أقصه منه , وذكر الحديث بمعناه .
إن مِن أولي الألباب من يتفكر ويتدبر ويعمل بكتاب الله تعالى في نفسه وأهله ومجتمعه بتقوى الله ، ليبني مجتمعاً مسلماً يشهد التاريخ والعالم كله بعدله وحضارته.
إنه – سبحانه - ينادينا ، فهل نعي ذلك