وقفة مع آيات التذييل في محكم التنزيل (الحلقة الثانية )

أحاديث رمضان :

من المطلوب في شهر الصيام الأبرك أن يستحضر الصائمون القائمون ما  أمر به  الله عز وجل  من تدبر لآيات الذكر الحكيم ، والذي به تكسر الأقفال التي تكون على القلوب كما جاء في قول تعالى وهو يحث على التدبر (( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها )) . كما أنه بالتدبر يحصل الفهم الجيد والموفق  لمضامين الذكر الحكيم ومقاصده  ، ويسهل بذلك التخلق والتحلي بما يرضي الله عز وجل من قول وعمل .

 ومعلوم أن التدبر يقتضي التسلح بعلوم اللسان العربي الذي أنزل به القرآن الكريم  من صرف ، ونحو، وبلاغة ... وكل ما له صلة بها . وقد يحصل التدبر باستحضار بعضها أو كلها .

ومن الأمور البلاغية التي تساعد على التدبر ما يسمى التذييل ، وهو لغة مصدر مشتق من " ذيل " ، وهو جعل الشيء ذيلا لآخر . أما في اصطلاح البلاغيين فهو كما عرفه الزركشي بقوله  : " التذييل هو أن يؤتي بعد تمام الكلام بكلام مستقل يكون في معنى الأول ، تحقيقا لدلالة منطوق الأول أو مفهومه، ليكون معه كالدليل ، وليظهر المعنى عند من لا يفهم ، ويكمل عند من فهمه " . وهذا تعريف   يغني  عن تعاريف باقي البلاغيين من أمثال السيوطي ، وابن أبي الإصبع ...وغيرهما .

ومعلوم أنه من مظاهر انسجام كلام الله عز وجل ، وتماسك بنائه تناسب أجزائه ، والتذييل مما يحصل به ، وهو ضرب من ضروب الإطناب من حيث اشتماله على تقرير معنى الجملة الأولى مع زيادة بفائدة جديدة لها تعلق بفائدة  الجملة الأولى ، ولهذا كانت للتذييل  في الكلام موقع جليل شريف ، لأن المعنى يزداد به .اتضاحا وبيانا  . وعند البلغاء أن التذييل يُضيّق الهوة بين من يبطؤ به فهمه ، وبين سريع الفهم ، وثاقب القريحة، لأن الألفاظ حين تتكرر في المعنى الواحد يتأكد عند قوي الذهن ، ويتضح عند ضعيفه .

ولقد ذكر البلاغيون أن التذييل يأتي على قسمين : الأول لا يزيد على المعنى الأول ، ويؤتى به للتاكيد والتحقيق ، كما جاء في قول الشاعر  الحطيئة :

قوم هم الأنوف والأذناب غيرهم       ومن يقيس بأنف الناقة الذنبا

فالمعنى مستوفى في الشطر الأول من البيت ، والشطر الثاني تذييل .

 والقسم الثاني منه يُخرّجه المتكلم مخرج المثل السائر ، وقد اعتبر العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله تعالى  هذا النوع هو الأبدع والأقوى لما فيه من عموم الحكم .

وكلام الله عز وجل يتضمن القسمين معا ومن أمثلة اجتماعهما  فيه قوله تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة التوبة  : (( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله )) ، وقد تضمنت تذييلين الأول (( وعدا عليه حقا )) ، الذي تحقق به معنى الكلام السابق (( بأن لهم الجنة )) ، والثاني (( ومن أوفى بعهده من الله )) حيث خُرِّج الكلام  مخرج المثل السائر.

ويكثر التذييل في القرآن الكريم ، وقد نبه عليه المفسرون منهم الألوسي ، والعلامة الطاهر بن عاشور ، وهو على ثلاثة أضرب :

ـ الأول : يأتي في ختام الآيات : كقوله تعالى : (( ذلك جزيناهم بما كفروا وهل يجازى إلا الكفور )) أي هل يجازى ذلك الجزاء الذي يستحقه الكفور إلا الكفور، فالجزاء الأول عام ، والثاني أفاد فائدة زائدة . ومن أمثلته أيضا على سبيل الذكر لا الحصر قوله تعالى : (( وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )) ، وقوله أيضا : (( وما جعلنا لبشر من قبلك الخلد أفإن مت فهم الخالدون )) ، وقوله كذلك : (( ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله إن الله واسع عليم )) ، فقوله تعالى : (( إن الله واسع عليم )) تذييل لمدلول قوله تعالى : (( ولله المشرق والمغرب )) ،والمراد سعة ملكه أو سعة تسييره ، وذلك دال على عظمته جل وعلا .

ـ الثاني يأتي في وسط الآية : كقوله تعالى : (( واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأخرجوهم من حيث أخرجوكم )) ،ثم قال سبحانه : (( والفتنة أشد من القتل )) ، فالجملة الأخيرة جاءت في وسط الآية الواحدة والتسعين بعد المائة من سورة البقرة  تذييلا للجملة السابقة لها لإفادة عموم الخبر ، وتمام الآية هو قوله تعالى : (( ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم كذلك جزاء الكافرين )) .

ـ والثالث التذييل بآية برأسها : كقوله تعالى : (( قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من المتكلفين ))، ثم قال سبحانه  في الآية التالية : (( إن هو إلا ذكر للعالمين )) وهي تذييل لسابقتها (( وما أنا من المتكلفين )) ، وهي تفيد عموم رسالته صلى الله عليه وسلم .

وعندما نتأمل كل الأمثلة المتقدمة التي تضمنت التذييل ، نجد انسجاما وتآلفا وتناسبا بين مضامين الآيات و مضامين تذييلاتها.

والملاحظ في القرآن الكريم أنه لا يمكن أن يكون مضمون آية يفيد العذاب ، ومضمون تذييلها يفيد الرحمة ، ويصح العكس أيضا .

ولا بد في هذه الوقفة مع أسلوب التذييل في القرآن الكريم التنبيه إلى التذييل الذي يكون عبارة عن ذكر لصفات الله عز وجل ، والتي تتناسب بالضرورة مع الكلام الذي تأتي بعده كقوله تعالى في سورة لقمان : (( يا بني إنها إن تك مثقال حبة من خرذل فتكن في صخرة أو في السماوات  والأرض يأت بها الله إن الله لطيف خبير )) فالإتيان بالحبة كناية عن التمكن منها ، مع العلم بها ،ذلك لأن الإتيان بأدق الأجسام من أعمق وأقصى الأمكنة وأصلبها ،لا يكون إلا عن علم وخبرة بأمكنتها وبكيفية استخراجها مع الرفق بها ، والمحافظة عليها من الضياع ، وهذا اقتضى إيراد التذييل  بصفتي اللطيف والخبير ، وذلك لتناسبهما مع فعل الله تعالى في هذه الحالة .

ولما كان شهر الصيام شهر استعراض كتاب الله عز وجل ، فمما يجب استحضاره عند تدبره التأمل في  أنواع التذييل خصوصا  الذي ترد فيه صفات الله تعالى المثلى ، فهي شروح و تفسيرات وتوضيحات لمضامين الآيات الكريمة المتعلقة بها .

ولعل أكثر المتدبرين في التذييلات المتضمنة  لصفات الله المثلى التي ترد ثنائية أو تتجاوز الثنائية هم من يفهمون بشكل جيد مضامين الآيات السابقة عليها.

وفي الأخير ننصح جميع المؤمنين بالحرص على تحقيق الغاية من عبادتي الصيام  والقيام وهي تقوى الله عز وجل ، ونورد قوله تعالى : (( واتقوا الله ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم )) ، وهنا تذييل (( والله بكل شيء عليم )) يؤكد قوله تعالى : (( ويعلمكم الله )) ذلك أنه لا يعلّم إلا العالم بكل شيء سبحانه وتعالى.  

وسوم: العدد 1119