( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون )
حديث الجمعة :
من أعظم وأجل النعم التي أسبغها الله عز وجل على عباده المؤمنين نعمتي الصيام والقيام وجعلهما وسيلتي لنيل مغفرته والعتق من النار. ولقد جعل سبحانه نعمة الصيام وسيلة لكبح جماح شهوتي البطن والفرج ، وهما شهوتان متأصلتان في الطبيعة البشرية ، تلحان على الإنسان كي يشبعهما أيما إلحاح. وانصرافه الكلي لإشباعهما يصرفه عن الغاية المثلى التي من أجلها خلقه ربه سبحانه وتعالى ،وهي السمو الروحي الذي لا يحصل إلا بطاعته، حيث ترجح كفة مطالب الروح على كفة مطالب الجسد، علما بأنه كما يلح الجسد في طلب إشباع غرائزه ، فإن الروح تلح في نشدان سموها .
ولما كان مدد الجسد من طعام وشراب لإشباع غرائز الجسد الجامحة ، فإن الله تعالى جعل مددا للروح كي تحقق سموها فيما أنزله من ذكر على رسوله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم . وليس من قبيل الصدفة أن يقترن هذا المدد الروحي بالصيام الذي يقلل من سطوة المدد الجسدي بحيث ينحسر كي يفسح المجال للمدد الروحي . وليس من قبيل الصدفة أيضا أن يتعبد الله عز وجل عباده المؤمنين بالصيام نهارا استعدادا للقيام ليلا ، وقد جعله فرصة للتغذية الروحية .
وقيام ليالي رمضان بالقرآن الكريم تلاوته ،وتبركا، وتدبرا له غاية مثلى هي السمو الروحي، ويتجسد في طاعة الخالق سبحانه وتعالى ائتمارا بأوامره وانتهاء عن نواهيه التي أوردها في ثناياه ،الشيء الذي يخلّق المؤمنين اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وق شهد له بذلك رب العزة جل جلاله في قوله : (( وإنك لعلى خلق عظيم )) . ولقد خص الله تعالى القرآن الكريم بذكر بعض أوصافه في آيات بعض سوره ، بعضها جاءت في فواتحها، وبعضها الآخر في ثناياها .
ومن ذلك ما ذكر في سورة الحشر التي تضمنت ذكرا ليهود بني النضير ، وقد أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه باستئصالهم من جواره بيثرب بسبب شدة عدائهم له ولدعوته ، وخبث كيدهم، وتآمرهم عليه مع المنافقين ، كما ورد فيها الثناء على المهاجرين والأنصار مع ذكر ما أعد لهم من نعيم مقيم في الجنة ، كما أمرهم بتقواه وذكّرهم وجميع المؤمنين إلى قيام الساعة بيوم الحساب ، وما يلزمهم من استعداد له محذرا إياهم من فسوق ينسيهم ربهم سبحانه تعالى، إلى أن قال جل شأنه في الآية الواحدة والعشرين : (( لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون )) ، وفيها بيان ما يلزم المؤمنين من خشوع وخضوع لله تعالى حين يتلقون القرآن الكريم تلاوة أو سماعا في صلواته أو في جلساتهم ، وقد مثّل لأثر الخشوع الحاصل بتلقيه بحال جبل ينزل عليه فينصدع وتشّقق خشية بالرغم من عظمته وصلابته ، بينما لا تخشع قلوب البشر مع أن أحجامها حجم صنوبرة إ ، ومرد غياب خشوعها إما غفلتها أو قسوتها . ولقد جاء في كتب التفسير أن رؤية الجبل المتصدع البصرية منفية لوقوعها جوابا لحرف " لو" ، وقد سيقت في سياق مقارنة بين حال جماد في منتهى العظمة ، وبين قلوب بشرية في منتهى الضآلة والضعف حيث يتصدع الجبل خشوعا ، ولا تتأثر القلوب.
وإن ما يجب أن يقابل تصدع الجبل إذا ما أنزل عليه القرآن الكريم هو لين القلوب خشية خوفا وهلعا من الخالق سبحانه وتعالى ،وما ضمن كتابه الكريم من وعد بالجنة للطائعين الملتزمين أوامره ونواهيه ، ووعيد للعصاة . ولقد ذيل سبحانه و تعالى لهذا المثل البليغ بذكر الغاية من سرده ، وهي كونه باعثا لتفكر يحمل الناس على مقارنة أنفسهم بجماد عظيم قاس ومع ذلك يلين لذكر الله تعالى وبين قسوة قلوبهم إذا يتلى عليهم .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تذكير المؤمنين بما يلزمهم من خشوع عند تلاوة أو سماع القرآن الكريم، ونحن في شهر الذي خصت لياليه بالقيام تلاوة وتدبرا له ، وهو خشوع واجب يكون له حضور في القلوب عند تلقيه بحيث لا تنشغل عنه بغيره مهما كان، فينعكس ذلك الخشوع على الجوارح ،كما تعبرعنه الأفعال .
ومعلوم أن سور وآيات القرآن الكريم كلها تأسر القلوب حين تتلى سواء تعلق الأمر بآيات الوعد أو بآيات الوعيد أو بآيات العبر التي أودعها الله تعالى فيه إما بقصص قصها أو بأخبار سردها ، أو بأوامر أمر بها أو بنواه نهى عنها . ففيما وعد الله تعالى عباده المؤمنين من نعيم الجنة ما يجعل شوقهم يشتد إليها، ولا يمكن أن يعتريهم أدنى سهو أو غفلة وهم يمرون بآيات الوعد تلاوة أو سماعا ، كما أن فيما توعد به سبحانه الأشقياء من عذاب مهين ما يجعل خوفهم يشتد منه ، ولا يمكن أن يصرفهم عن سماع آيات الوعيد صارف مهما كان .
والمؤمن وهو يستعرض آيات الذكر الحكيم في قيامه خلال شهر الصيام يجب أن يكون بالضرورة تحت تأثير شعوري الخوف والرجاء ، وهما شعوران متلازمان ، ويقتضيان الخشوع إذ يلين قلبه فيوعز إلى كل جوارحه التعبير عنه ، فتذرف العين دمعها ، ويقشعر الجلد ويلين حسب المنازل التي ينقله عبرها الذكر الحكيم ، فهو عند تلقي آيات الوعد يبكي فرحا ، وعند تلقي آيات الوعيد يبكي خوفا ووجلا ،ويقشعر جلده ، وتضطرب كل جوارحه .
ويجدر بالمؤمنين أن يستحضروا طيلة قيامهم في هذا الشهر العظيم الآية الواحدة والعشرين من سورة الحشر كل ليلة عسى أن يمن عليهم الله تعالى بنعمة الخشوع وأنعم بها من نعمة ، وعسى أن تتحقق لهم غاية السمو الروحي وهو أكبر وأعظم نعمة على الإطلاق، لأن لحظاته تشعر بالقرب من المولى جل شأنه ، والقرب منه نعمة من أجل النعم تبعث السعادة والطمأنينة في القلوب .
وعلى المؤمنين أن يحذروا عدوهم اللدود إبليس اللعين الذي لا يتراخى لحظة واحدة في التشويش عليهم وهم في صلواتهم وفي قيامهم لصرفهم عن تدبر كلام ربهم سبحانه وتعالى، وذلك لحرمانهم من نعمة الخشوع بين يديه حيث يبث واسوسه التي تلهيهم، وتجعل همهم وهم في قيامهم منصرفين إلى دنياهم بما في ذلك مطالب الشهوات الملحة خصوصا في أيام رمضان . وليس من قبيل الصدفة أن يرد ذكر الشيطان الرجيم في الآية السادسة عشرة من نفس السورة التي يقول فيها الله تعالى : (( كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريىء منك إني أخاف الله رب العالمين )) ، وقد تلا ذكره لعنه الله قوله تعالى : (( ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون )) ومباشرة بعد ذلك ،ضرب الله تعالى مثل خشوع وتصدع الجبل تذكرة للمؤمنين .
اللهم وقد تكرمت علينا ببلوغ رمضان ، فأتم علينا نعمك ،وبلغنا ليلة القدر وارزقنا جائزتها ، وأكرمنا اللهم بقبول صيامنا وقيامنا ، ولا تحرمنا نعمة تدبر آيات كتاب الكريم ، ولا تحرمنا الخشوع في صلواتنا وفي قيامنا ، وخلّقنا وجمّلنا اللهم بخلق القرآن الكريم في رمضان، وبعد رمضان إسوة بسيدنا محمد عليه صلواتك وسلامك حتى نلقاك ونحن على ذلك . اللهم اجعلنا من العتقاء من النار في هذا الشهر العظيم . واجعل اللهم ذكرك يلازمنا ليل نهار ، ولا تجعلنا من الغافلين ، ولا من الناسين .
اللهم إن لك عبادا قد ظلموا ، وهم مرابطون ، وصامدون يجاهدون في سبيلك ودفاعا عن مسجدك الأقصى الذي باركته لتخليصه من دنس ممن يدنسونه ، فانصرهم اللهم على أعدائهم الصهاينة وعلى من يوالونهم ، وقهم شرهم ومكرهم فأنت وليهم، وأنت حسبهم ، يا نعم المولى ويا نعم النصير .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1119