( وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذّكّرون )
حديث الجمعة :
من المعلوم أن الله تعالى تعبّد عباده بأوامر ونواه كي يستقيم معاشهم في حياتهم الدنيا ، ويفوزوا بالنعيم المقيم في آخرتهم . ولقد تعددت في الذكر الحكيم أوامره ونواهيه جل شأنه ، وعلى قدر ائتمار العباد بتلك الأوامر ،وانتهائهم عن تلك النواهي ، تتحقق استقامتهم على صراطه المستقيم ، وتتحقق عبوديتهم له ، كما تتحقق كرامتهم الإنسانية التي تفضل بها عليهم ، وفضلهم بها على كثير ممن خلق تفضيلا .
ومما ورد في الذكر الحكيم من أوامر ونواه قوله عز وجل في الآية الثانية والخمسين بعد المائة من سورة الأنعام إذ قال :
(( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربي وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذّكّرون ))
ففي هذه الآية الكريمة تقدم نهي هو : (( لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن )) على ثلاثة أوامر هي : " أوفوا الكيل والميزان بالقسط )) ، و (( إذا قلتم فاعدلوا )) ، و (( وبعهد الله أوفوا )) . والملاحظ أن النهي والأوامر الثلاثة التالية له في هذه الآية الكريمة تتقاطع فيما بينها ، بحيث يفيد النهي عن تضييع مال اليتيم بالضرورة أمرا بالمحافظة عليه إلى غاية بلوغه رشده ، ويؤكد ذلك قوله تعالى : (( إلا بالتي هي أحسن )) ، علما بأن الأحسن إنما هو تنمية مال اليتيم عوض تخزينه أو تجميده كما جاء في كتب التفسير . وتوحي الأوامر أيضا بنواه ، ذلك أن الأمر بتوفية الكيل والميزان بالقسط يفيد بالضرورة نهيا عن إخسارهما ، كما أن الأمر بالعدل في القول يفيد بالضرورة نهيا عن الظلم فيه ،والأمر بالوفاء بالعهد يفيد كذلك بالضرورة نهيا عن نقضه ، وهذا من بلاغة القرآن الكريم .
ومن الملاحظ أيضا أن نهي هذه الآية الكريمة ، وأوامرها الثلاثة فضلا عن تقاطعها ، ودلالة بعضها على بعض بالضرورة ،يربط بينها رابط العدل الذي خص به القول ،ذلك أن الانتهاء عن تضييع مال اليتيم عدل ، و توفية الكيل والميزان بالقسط عدل ، كما أن الوفاء بالعهد عدل . ولما كان في هذه الآية الكريمة نهي الله تعالى وأوامره الثلاثة كل منها متعلق بمعاملات ، فإن تحققها يكون مسبوقا لزاما بنية تسد مسد القول ،ذلك أن الكفيل أوالوصي على اليتيم يكون في حكم المتعهد قولا بالعدل في صيانة ماله حتى يبلغ أشده ، والوازن بالكيل والميزان يكون في حكم المتعهد بالعدل في التوفية فيهما ، والموفي بالعهد يكون في حكم المتعهد بالعدل فيه ، ولهذا كان مدار هذه الآية الكريمة حول العدل ، وقد استأثر به القول .
والعدل في القول يفيد الحق والصدق ، وبه ينتفي الباطل والكذب . ولما وجدت أحوال عديدة في حياة الناس من شأنها أن تحول دون تحقق العدل في القول فيها ، فقد ذكر منها الله تبارك وتعالى أخطر الأحوال التي تهدد تحققه ، وهي علاقة القرابة التي تُغلَّب فيها العاطفة على العقل عند القول ، إذ ينحاز القائل بقوله إلى قرابته ولصالحها ، ويتنكب ذلك به عن تحقيق العدل المطلوب منه في القول . ودون هذه الحال أحوال أخرى عديدة ، تحول دون تحقق العدل في القول منها على سبيل الذكر لا الحصر الخوف من بطش المقول له و مدارته له ، أو الطمع فيما عنده من متاع الدنيا الزئل ، أو التقرب منه أوالتزلف إليه رغبة في شرف أو منصب أو مصلحة معنوية ... والعادل في القول مع ذوي القرابة يجب أن يكون بالأحرى عادلا في قوله مع غيرهم . ويرتبط العدل بالقول في الأقضية ، والشهادات ، و التزكيات ، والاستشارات ، وفي مختلف المعاملات من بيوع وغيرها ....
مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بأمر من أخطر الأوامر الإلهية على الإطلاق والتي تعبدهم به الله ، وهو الأمر بالعدل في القول ، وذلك في كل الأحوال ،لأن تعطيل العدل في القول يترتب عنه بالضرورة ظلم تعود مضاره وعواقبه الوخيمة على المظلومين .
وما أكثر الإخلال بهذا الأمر الإلهي في زمن الناس هذا ، وقد استهوت المسلمين قيم وأخلاق الأمم غير المسلمة ، فتشبعوا بها ، وحادوا عن تعاليم دينهم وقيمه منخدعين بما بات يسمى بالقيم الكونية ، والتي فيها كثير من الجور الصارخ في الأقوال مع سبق الإصرار على ذلك .
وأوضح مثال لهذا الجور الصارخ هو شهادة الزور التي تشهد بها بعض الكيانات الغربية لفائدة الكيان الصهيوني العنصري الذي يبيد الشعب الفلسطيني في قطاع غزة والضفة الغربية إبادة جماعية لا تسكت عنها تلك إدارات تلك الكيانات المنحازة إليه كليا بل تؤيدها ، وتدعمه بالمال وسلاح الدمار الشامل كي يزداد تماديا في ظلمه وطغيانه ، وذلك في غياب تام لعدالة دولية رادعة له .
والمؤسف أن يكون في المسلمين من لا يأتمر بأمر الله تعالى بالعدل في القول عندما يتعلق الأمر بالشعب الفلسطيني المضطهد ، وبمقاومته حيث فيهم من يدينها كإدانة العدو لها ، ومنهم من يحملها مسؤولية الضحايا الذين يسقطون بالعشرات يوميا منذ سبعة عشر شهرا لم يتوقف فيها العدوان الصهيوني سوى أياما معدودات من هدنة هشة سرعان ما تنكر لها العدو ، و عاد إلى عدوان أشرس من ذي قبل ، وهو يريد تحقيق هدفين إبادة أكبر عدد من أهل غزة ، وتهجير ما بقي منهم خارج أرضهم قسرا لكي يضمها إلى ما احتله واغتصبه من الوطن الفلسطيني منذ أن استنبته فيه الاحلال البريطاني البغيض سنة 1948 .
وإن الأمة المسلمة جمعاء اليوم يتعين عليها شرعا أن تعدل في القول بخصوص مأساة الشعب الفلسطيني ، وتسمي المسميات بأسمائها، ذلك أن الاحتلال احتلال ، وأن المقاومة مقاومة ،دون تتردد في ذلك ،لا تخشى سوى الله عز وجل، ولا تداري ، ولا تحابي ، ولا تبالي بتهديد كائن من كان .
ومن العدل في القول أن يخرج المسلمون في كل المعمور للتعبير عن نصرة إخوانهم المظلومين والمضطهدين في أرض الإسراء والمعراج المقدسة ، وإدانة المحتل الظالم ، والتصعيد معه مقابل تصعيده في وتيرة جرائم الإبادة الجماعية ، ثم الانتقال إلى خطوة تجفيف منابع تمويله من خلال مقاطعة كل المعاملات الاقتصادية معه ، ومع الجهات التي تدعمه ، والتي تعود أرباحها بالفائدة عليه ، فيزداد بذلك بطشا وفتكا بالأبرياء من رضع ، وأطفال ، ونساء، وشيوخ ،وعجزة ، ومرضى ، وحصارا وتجويعا ، وتهجيرا قسرا لهم خارج أرضهم .
ولتعلم الأمة المسلمة فرادى وجماعات أنها ستواجه لا محالة بين يدي خالقها سبحانه وتعالى يوم العرض عليه سؤالا عن طاعة وعبادة العدل التي تعبدها بها ، وقد خاب يومئذ من حمل ظلم القول .
وإنه في طليعة من سيسألون عن هذه الطاعة أولئك الذين انتدبهم الله سبحانه وتعالى للعدل في القول ، والصدع بالحق ، وهم أهل العلم والمشتغلون بالدعوة إليه دينه وشرعه من خطباء ووعاظ . وفضلا عن هؤلاء لا بد للمفكرين أن يضطلعوا أيضا بدورهم في عدل القول ، ومعهم الحقوقيون ، والإعلاميون ، وكل مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات، وهيئات ،ومنظمات ، وأحزاب سياسية ، ونقابات ...
وإذا كان الله تعالى قد اشترط العدل في القول وإن تعلق الأمر بذوي القربي ، فلا عذر لتعطيل العدل في القول مع من هم دونهم قرابة مهما كانوا.
اللهم إنا نسألك أن توفقنا إلى العدل والسداد في القول ، واجعلنا اللهم ممن لا يخشون أحدا في القيام بما أوجبت من عدل في القول سواك . واجعل اللهم أفضل جهادنا فيك عدلا في القول.
اللهم إنا نسألك بعزتك التي لا ترام ، وكنفك الذي لا يضام أن تعز من أعز دينك ، وتذل من رام إذلال عبادك المؤمنين . اللهم عجل للمستضعفين في أرضك المقدسة بفرج قريب من عندك ، وبنصر مؤزر ، وافرغ اللهم على المجاهدين في سبيلك صبرا جميلا ، وثبت أقدامهم ، وسدد رميهم ، وامددهم بمددك وعونك وجندك الخفي ، واحفظهم اللهم من بين أيديهم، ومن خلقهم ، وعن أيمانهم ، وعن شمائلهم ، ومن تحت أرجلهم ،ومن فوقهم، ولا تجعل اللهم لأعدائهم عليهم سبيلا.
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وسوم: العدد 1123